انطباعات حول وداع آخر العمالقة

أربعاء, 2022-09-21 01:12

منذ أعلن عن وفاة الملكة إليزابيث الثانية حاولت أن أتفرغ لمتابعة كل ما يتعلق بذلك من تصرفات وإجراءات وتعليقات، فقد رأيت أنني سأضيف جديدا إلى ما أعرفه وأتذكر قديما عبثت به أصابع الزمن، ولعلي رأيت أن مقدرتي على كتساب معلومة جديدة تأكيد بأنني لم أصل، بعدُ، إلى مرحلة الشيخوخة العاجزة.

ولم أكن أساسا أنوى الكتابة عمّا شاهدته خلال الأيام الماضية إلى أن قرأت تعليقات متشنجة تندد بمن رأت أنهم يتعاطفون مع الراحلة وينسون الجرائم التي ارتكبها الاستعمار في حق كل أمة نكبت بوجود علم “يونيون جاك” في سمائها وجنود الإمبراطورية على أرضها.

وأعترف أنني رأيت بعض المزايدة في ذكر ذلك خلال هذه الأيام، فجرائم الاستعمار هي مما لا يمكن تناسيه والتغاضي عنه، وهي محفورة في الذاكرة بالنسبة لكل الدول الأوربية بدون استثناء، وإن كان المجرمون طبقاتٍ وطبقات.

ولقد سجل التاريخ جرائم فرنسا في الجزائر والمغرب وتونس وسوريا والفيتنام وجرائم إيطاليا في ليبيا وفي الحبشة وجرائم هولندا في اندونيسيا وجرائم ألمانيا في ناميبيا وجرائم بلجيكا في الكونغو وجرائم إسبانيا والبرتغال في أمريكا الجنوبية، وبالطبع جرائم بريطانيا في الهند ومصر وفلسطين، وبدون أن ننسى أم الجرائم الأمريكية.

لكن تلك الجرائم لا يمكن أن تنسينا أن الغرب، الذي استفاد من الحضارة العربية الإسلامية وحقق الكثير من التقدم العلمي والتفوق الحضاري الذي نعتمد عليه في الكثير من أوجه حياتنا، هو اليوم قدوة في مجالات متعددة يُعتبر تجاهل الاستفادة منه قِصر نظر لا تعالجه أي نظارة.

وأتذكر سطورا ساخرة قرأتها عن مواطن عربي يلبس بدلة إيطالية وكرافات فرنسية ويضع ساعة سويسرية ويتلذذ بأكل شوكولاه بلجيكية ويركب سيارة أمريكية ثم يروح يدبج مقالات تلعن الغرب طولا وعرضا لأنه فشل في الحصول على تأشيرة “شنغن”.

من هنا رأيت أن أضع أمام القارئ عددا من الانطباعات التي سجلتها من خلال التلفزة التي رابطت أمامها معظم الساعات المتوفرة في الأيام الماضية، وأرى أنها مما يمكن يُقتدى به.

 وأعترف أنه كان من خلفياتي أن الملكة إليزابيث كانت الأوربية الوحيدة التي تعاطفت معنا في الزلزال الرهيب الذي ضرب الجزائر في أكتوبر 1980، وبادرت بزيارة المصابين الذين نقلوا إلى مستشفى مصطفى باشا، وأن البرتوكول الملكي لم يعبر عن امتعاضه من رفض السيدات الجزائريات الثلاثة الترحيب بالملكة الترحيب با بالانحناءة المطلوبة بثني الركبتين، حيث اكتفت كل من حرم الرئيس الشاذلي بن جديد وحرم وزير الخارجية محمد بن يحيى وقرينتي بإحناء الرأس وهن يستقبلن الملكة.

سر النجاح

من الآخر، كما يقول أشقاؤنا في المشرق، أسجل أن كل ما شاهدته يثبت أن الدولة البريطانية نجحت في تجنيد كل طاقات الأمة لتحقيق النجاح في أكبر تحدٍّ تنظيمي تواجهه، وكان أروع ما عشناه هو تكامل كل أجهزة الدولية الديبلوماسية والإعلامية والأمنية والبروتوكولية لتعطي للعالم أجمع درسا أرى أن تجاهله حماقة لا تغتفر، والذي كان من أبسط مظاهره تحرك الجثمان من “وستمنستر” على العاشرة و 46 دقيقة، وليس قبل ذلك أو بعده بدقيقة واحدة

وإذا صحّ ما رُويَ فإن فضل النجاح الأول يعود للملكة الراحلة التي أعدت بنفسها أهم المعطيات التي ترتبط بسفرها إلى العالم الآخر، لكن هذا لا يمنع من تسجيل التقدير لكل من كان جزءا فاعلا في التنظيم.

وإذا جاز لي أن أعطي أسبقية التقدير لجهاز ما فإنني أرى أن الجهاز الذي يستحق علامة كاملة هو القيادة الإعلامية التي مكنت التلفزة البريطانية من تصوير اللقطات التي وضعت تحت تصرف تلفزة العالم لتعطي صورة دولة متكاملة الأركان، يتكامل شعبها مع سلطاتها، وأسرة مالكة رائعة يتعانق أجيالها الثلاثة، من الملك شارل إلى حفيديه الصغيرين جورج وشارلوت، بجانب الصورة الإنسانية التي ظهر عليها الملك الجديد وساهمت في محو كثيرٍ حُسِب عليه في السنوات الماضية.

ولعل بث صورة الملك وهو “يتنرفز” في قضية المحبرة كان تصرفا بالغ الذكاء لا يجرؤ عليه إلا من يعرف أن بعض الأخطاء تستكمل صورة الشخصية الرسمية بما يقربها، إنسانيا، أكثر فأكثر من جمهور المشاهدين.

وكصاحب خبرة متواضعة في مجال الإعلام أقول إن تعبير القيادة الإعلامية لا يقتصر على محترفي الإعلام بل يعني مجموعة عمل متكاملة تضم خبراء إعلاميين وأطباء نفسيين وقادة عسكريين أمنيين ومؤرخين وديبلوماسيين ورجال بروتوكول، يعطي كل منهم وجهة نظره فيما يجب أن تكون عليه التغطية الإعلامية بل وعناصر التنظيم الأخرى، وهكذا لم يرتكب تنظيم الجنازة حماقة احتكار سلطة ما، عسكرية أو مدنية، للعملية التنظيمية التي حققت النجاح الأسطوري.

ولعلي ألاحظ هنا أن الرئيس الأمريكي كان الوحيد من القيادات الأجنبية الذي برز خلال الأيام الماضية، ربما لأنه الوحيد الذي “سُمِح” له باستعمال سيارة خاصة، بينما لم يبرز “إعلاميا” قائد واحد من القادة الذين شاركوا في جنازة آخر العمالقة، وخصوصا من العالم الثالث، ويمكن أن نتخيل صورة ما كان يمكن أن يحدث لو شارك في الجنازة أمثال هواري بو مدين وأحمد بن بله وعبد الناصر ومحمد الخامس وشارل دوغول وكاسترو وأديناور وفرانكو ومانديللا والقذافي وبهوتو…الخ

خيبة أمل عربية

رحت أقفز بين قنوات التلفزة التي تنقل الحدث على المباشر، واخترت في البداية، وبحكم مرض أعتز به، قناة الـBBC بالعربية، لكنني أصبت بخيبة أمل فرضت عليّ أن ألتصق أكثر بقناة BFM الفرنسية، برغم أن بعض المذيعين الفرنسيين مارسوا نوعا من التهريج المبتذل، وكأنهم ينقلون مباراة في الكرة أو عرضا للأزياء..

والذي حدث هو أنني كنت أحاول أن أفهم كل ما أراه وأسمعه، لكنني رأيت أن الإرسال العربي اعتمد على سرد أحداث ووقائع تاريخية لها أهميتها لكنها بعيدة عن شرح العناصر التي أشاهدها على الشاشة، وهو ما أصابني بخيبة أمل من كان يعتبر الـBBC في مرحلة معينة قدوة يحتذى بها للتلفزة العربية.

وكمثال، عندما كان الموكب الجنائزي يخترق شارع “وايت هول” الذي يتوسطه نصب تذكاري عن ضحايا الحرب العالمية لاحظت أن الملك وولي عهده وكبار العسكريين التفتوا نحو اليسار مؤدين التحية العسكرية للنصب، بينما لم يلتفت لذلك معلق التلفزة الذي كان يجتر معلومات وثائقية عن الملكة الراحلة، ولم يشرح ما حدث لمشاهدين معظمهم لم يفهم خلفية تحية نصْب (CENOTAPH) الذي أقيم تخليدا لضحايا الحرب العالمية، ممن لم يُعثر لهم على جثث وظلوا بدون قبور.

وكان مما لاحظته عدم إشارة المذيعين إلى اللوحة الأرضية الموجودة في مدخل كنيسة وستمنستر، والتي كانت محاطة بسور من الورود حتى لايطأها أحد، وهي على ما أعرف، قبر للجندي المجهول، يستكمل نصب “وايت هول”، والتعريف بها من واجبات المذيع الذي يعرف مضمون مهمته في نقل صورة الحدث.

وأعترف أنني توقفت عن متابعة الإرسال بالعربية بعد أن لاحظت أن مذيع الـBBC راح يجتر معلومات تاريخية تم تناولها ولم يشر إلى أن السلام الملكي، الذي عُزف تحية للراحلة والسيارة الجنائزية تحمل جثمانها نحو مدفنها، كان سلام الملكة الذي يُعزف للمرة الأخيرة، وسيستبدل بسلام ملكي يحيي الملك الجديد.

ولأن الحدث يتناول الهنات أعترف أنني لم أستسغ تعبير المذيعة السمراء التي قالت عن فتح أبواب الكنيسة أمام الجمهور بأنه سيسمح الآن للعامة بالدخول، ولا أعتقد أن تعبير “العامة” كان ملائما.

اللائكية واللادينية والنفاق السياسي

أعود للملاحظات التي استقيتها من التلفزة، حيث كان أول ما لاحظته ونعش الملكة يخرج من “بالمورال” متوجها إلى أدنبرة عبر الطريق، التي أخليت منها كل ذات عجلات، أن السيارة الجنائزية كانت تسير على جانب الطريق في الممر العادي للسيارات، ولم تحاول أن تسير في وسط الطريق متجاوزة الخط الأبيض الفاصل بين الحارتين، أي أن السيارة الملكية التي تحمل جثمان أهم ملكة في التاريخ المعاصر احترمت قواعد المرور.

وكان الأمر الثاني هو الاحترام الكامل للانتماء الدين، وكان هذا واضحا في خطاب الملك وترديد جميع الحاضرين للأناشيد الدينية في الكنيسة، ورأيت في هذا درسا لمن يتصورون أن العلمانية معناها اللا دينية، والذين يخلطون بين فصل “الدين” عن الدولة، وهو خرافة لا يؤمن بها عاقل، وبين فصل “الكنيسة” عن الدولة، وهو اختيار فرضته الثورة الفرنسية، ويتناسون أن الجنرال شارل دوغول، رئيس الدولة العلمانية المثالية، أقام منذ الأيام الأولى لرئاسته كنيسة صغيرة داخل قصر الإليزيه، وأنه رفض جنازة رسمية بينما أوصى بقداس جنائزي في “نوتردام”، ويتناسى لائكيونا أيضا أن نفس الدولة اللائكية لا تقبل أن يرأسها غير كاثوليكي، ولا أقول غير مسيحي.

لكن الأمر الآخر هو ما رأيت فيه الكثير من النفاق السياسي، حيث قيل أن السلطات البريطانية لم توجه دعوة لقيادات دول معينة تتهم بخرق حقوق الإنسان، وهو ما كان يُمكن أن تُشكر عليه، لولا أن القيادة الإسرائيلية لم تُحرم من شرف المشاركة في جنازة القرن، كما أصبحت تسمى، وهي كذلك بكل تأكيد.

ولن أشير إلى وجود دول أخرى دُعي ممثلوها حتى لا أتسبب في هجومات جديدة تنال من “رأي اليوم”، التي تواجه حملة شرسة ممن ترهبهم حرية التعبير.

مدنية لا عسكرية

كان استعمال عربية المدفع لحمل الجثمان أمرا جديرا بالتنويه، وهو قرار كانت الملكة وراءه، انطلاقا من أنها مقاتلة تنتمي لأسرة من المقاتلين، وليست مجرد عاهلة عجوز ألقت بها إلى العرش بعض المقادير.

وللعلم، فإن عربة المدفع تتلقى الصيانة اللازمة عبر العقود وكأنها ستستعمل في اليوم التالي، وكان جر جنود البحرية الـ148 تذكيرا للجميع بجنازة ونستون تشرشل في 1965، وهو الذي ينسى كثيرون أنه أساسا رجل عسكري، خاض حرب جنوب إفريقيا تحت العلم الملكي.

وبرغم الطابع العسكري الواضح لكل الترتيبات الجنائزية فإنني لم أسمع من أصحاب شعار “مدنية لا عسكرية” تنديدا بالجريمة الكبرى التي ارتكبتها السلطات البريطانية الديموقراطية التي تدعي المدنية.

لكن أهم الملاحظات هو الانضباط الواضح للجماهير والالتفاف الاختياري الرائع حول العرش الملكي، بحيث أن كثيرين قد يكرهون الملكة ولكنهم يلتزمون باحترام النظام الملكي، وكثيرون يرفضون النظام الملكي لكنهم ينحنون أمام تابوت الملكة.

ويرتبط هذا بالهدوء الرهيب الذي ساد الطوابير الألفية، والتآلف الملحوظ الذي ميز العلاقات بين المصطفين، الذي كان من بينهم شخصيات رفضت وضعية الـVIP التي تسمح لهم بتخطي الآخرين.

كان التنظيم رائعا، وكل شيئ كان حيث يجب أن يكون وعندما يجب أن يكون، كل خطوة كانت محسوبة ومكان كل فرد كان مخططا له، لكن ما يجب أن يقال أيضا هو أن الاستعدادات بدأت منذ شهور وشهور، وتمت الاستعانة بكل العناصر البشرية التي كانت قد ساهمت في عمليات مماثلة، ولم يكن هناك من ينصح باستبعاد فلان أو فلتان من القيادات المتقاعدة بحجة أن صلاحيته انتهت، وكأنه بعض الأطعمة أو الأدوية التي ينصح بعدم استعمالها بعد تاريخ معين..

وكان مما سمعته تعبير للورد “نورفولك”، الذي نظم تتويج الملكة في 1953، خيث رُوِيَ عنه قوله ما معناه: نجاحنا في تنظيم وضعية دورات المياه للجمهور هو من أهم معالم النجاح.

وكان رجال البروتوكول يجسدون خبرة سنوات وسنوات، وكان واضحا أن منهم مسنون ارتئيت الاستفادة من خبراتهم، وكان كل عنصر يعرف شخصية المدعوين في الموقع الذي يقوم فيه بمهمته، ويوجه المدعو بابتسامة وقورة ولكن حازمة.

لكن أهم ما يجب أن يسجل هو الجهد الرائع لرجال الأمن، الذين جمع أداءهم بين الفعالية والوقار (DESCRETION ولم أجد ترجمة مناسبة للكلمة) ومن حق الأمن البريطاني هنا أن نسجل له انحناءة احترام وتقدير، وهكذا لم نشاهد حرس القيادات الأجنبية المدعوة يتقافزون كالقردة حول زعمائهم، لمجرد إشعارهم بأنهم يقومون بحمايتهم.

وكانت طوابير الموطنين الذي يتوجهون لإلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان في “وست منستر” صورة للتصرفات الحضارية التي يفترض أن يعتز بها كل البشر، برغم أن ساعات الانتظار تجاوزت 23 ساعة، وبرغم أن مئاتٍ بل آلافا كانوا ممن تجاوزا سن الشباب.

لم تكن هناك زفرة تذمر أو صرخة غضب أو نرفزة من أي نوع كما نشاهده عند البعض في أي طابور تفرض الحاجة اللجوء له، فليس هناك من يعتبر “مواطنته” مزية في الوطن وتنازلا يستحق أن يُكافأ عليه.

هنا نفهم سر قوة الشعب البريطاني، فهو شعب مقاتل دفع من دمه وعرقه وأشلاء أبنائه ثمنا لحرية بلاده، وهو يتعامل مع وطنه كجزء من وجوده البشري وليس كمجرد فندق يأوي إليه ثم يفرّ منه إذا أحس بالقصور أو التقصير، وهو يتحمل كل ما يفرضه الوطن من التزامات، ولا يتصرف كبعض من لم يقدم لوطنه قطرة عرق واحدة لكنه يتخطى الصفوف في يوم الجمعة ليكون في الصف الأول، وكأنه يحاول خداع من يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

التاريخ جزء من المستقبل

يرتبط كل ذلك، فيما رأيت، بأمر بالغ الأهمية وهو التمسك المطلق بالتقاليد التاريخية، سواء في تنظيم الجنازة بكل عناصره وتفاصيله أو الالتزام بالملابس العريقة، وكانت تلك رسالة ضمنية تقول إن من ينكر تاريخه يصبحا لقيطا، مثله في ذلك مثل من يحاول أن يخترع تاريخا لوجودٍ، جذوره مشكوك فيها.

وكان دور التلفزة رائعا وهي تنقل تفاصيل تاريخية تجسدا صورا إنسانية لها أهميتها، كدقات جرس “بيغ بن ” الـ96 التي تذكر بعُمر الملكة عند وفاتها، وكرفع التاج الذي كان فوق نعش الملكة قبل مواراتها الثرى إشارة إلى انتهاء مهمتها لملكة وكرئيسة للكنيسة، وكلقطة عازف موسيقى القرب الذي رأيناه يعزف ألحانه ثم يعطينا ظهره ويبتعد مواصلا العزف إلى أن يختفي الصوت والصورة معلنا اختفاء الملكة كوجود إلى الأبد.

وهكذا تطوى صفحة من أهم صفحات التاريخ المعاصر.

 

الد كتور محي الدين عميمور مفكر ووزير اعلام جزائري سابق