لا يمكن فهم الإنسان (الفرد أو الجماعة) بمعزل عن زمانه ومكانه. فالحياة هي دائماً تفاعل لحظة زمنية مع موقع مكاني وظروف محيطة تؤثّر سلباً أو إيجاباً على من هم - وما هو موجود - في هذه اللحظة وهذا المكان.
وما قد يراه فرد أو جماعة في لحظة ما بالأمر السلبي قد يراه آخرون إيجابياً. والحال نفسه ينطبق على الاختلاف في المكان. حتى بعض القيم والمفاهيم الإنسانية فهي رهينة الزمان والمكان. فما هو الآن من المحرّمات، كان من فترة زمنية أخرى من المباحات. كذلك بالنسبة للمعتقدات العلمية التي تتغيّر تبعاً لتغيّر الزمن.
إذن، هي ثلاثية "الزمان والمكان والظروف" التي تتحكّم في أفكار الإنسان وسلوكه ومعارفه. لكن مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة وما يحيط بها من ظروف وأوضاع، فإنّ الإنسان يبقى هو الأساس والمحور في كل هذه التفاعلات، كما يكون هو دائماً قائد التغيير الذي يحدث.
وقد انقسم الناس في كل الأزمنة والأمكنة على أنفسهم بين "الأنا" و"الآخر". فكانت الصراعات بين الأفراد والجماعات والأمم تخضع لاختلاف الرؤى وتناقض المصالح بين من هو في موقع "الأنا" ومن هو في الموقع "الآخر". هكذا هي سيرة البشرية منذ تناقض مفاهيم ومصالح قابيل ضدّ شقيقه هابيل، وكلاهما من أبناء آدم عليه السلام!.
وغالباً ما يقع الناس في أحد محظورين: تسفيه الإنسان الآخر والتعامل معه بأقل من قيمته كإنسان، فيتم استعباده أو استغلاله أو التحكّم بمصادر رزقه أو إهانة كرامته لمجرّد التواجد في موقع آخر أقلّ قدرة أو أكثر حاجة في لحظة معينة أو ظروف محيطة بمكان محدّد. أمّا المحظور الآخر، فهو حينما ينظر الإنسان إلى بعض الناس وكأنّهم أكثر من إنسان آخر، كأن يقدّسون هذا الإنسان أو يرفعون من شأنه ومن قيمته إلى ما يفوق بشريته مهما كان عليه من صفات كريمة أو طبيعة خاصّة.
في الحالتين: التسفيه أو التقديس للإنسان الآخر، هناك ظلم يحدث، فإمّا هو ظلم الإنسان للآخر من خلال تحقيره، أو هو ظلم للنفس من خلال تقديس من هو بشر مثلنا مهما علا شأنه أو عظم دوره الفكري أو العملي في هذه الحياة.
ولقد سبقت الرسالات السماوية حالات كثيرة لدى شعوب مختلفة فيها رؤى وممارسات احتقرت وأهانت الإنسان الآخر من جانب، أو جرى فيها تقديس وعبادة لناس آخرين. لذلك جاءت الرسالات السماوية واضحة في دعوتها للناس بعبادة إله واحد هو خالق كل شيء، وبالتأكيد على إنسانية الإنسان مهما ارتفع أو تدنّى في حدود القيمة الإنسانية. حتى الأنبياء والرسل، فإنّ منزلتهم الكبيرة المكرّمة لدى الله تعالى لا تخرجهم عن كونهم من سليلة آدم ونسبه. وهم كما وصفهم القرآن الكريم: "بشر مثلكم" و"يأكلون ممّا تأكلون".
فالأنبياء والرسل اختارهم الله تعالى ليكونوا رسله، ولم يختر أي نبي أو رسول هذا الموقع أو الدور. فإرادة الله تعالى هي التي ميّزت الأنبياء والرسل عن باقي البشر لكن لم تنزع عنهم صفتهم الإنسانية، بل أخضعت الكثيرين منهم لتجارب الحياة ولاحتمالات الخطأ والصواب في أمورهم الدنيوية وفيما يخرج عن موقعهم الرسولي.
كذلك نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم"، وفي ذلك ارتباط حتمي بين الإنسان عموماً في أي زمان ومكان، وبين الكرامة في الوجود والتكريم في الحياة والدور.
لكن أين هي هذه المفاهيم في واقع وسيرة الناس، أفراداً كانوا أم جماعات وأمما؟ صحيح أنّ الرسالات السماوية وضعت الكثير من ضوابط السلوك الإنساني تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، لا يحسنون دوما الاختيار، فتتغلّب لديهم الغرائز على القيم، والمصالح على المبادئ، والأطماع على الأخلاق. فتكون النظرة إلى "الأنا" قائمة على مدى استغلال "الآخر" وتسخيره، وليس على المشترك معه من مفاهيم وقيم إنسانية.
ولعلّ لائحة المفردات التي تشمل: الاستعباد، العنصرية، الاستغلال، الاحتقار، الكراهية .. وغيرها الكثير من التعابير التي تصف رؤية أو ممارسات بعض الناس تجاه البعض الآخر، ما يلخّص مشكلة خروج الإنسان عن فهمه لنفسه وعن فهمه للآخر أيضاً. فكم من ربّ عمل يرى العاملين لديه وكأنّهم عبيد له، يستغلّهم ويحتقرهم ويسيء معاملتهم، فيكون بذلك قد ظلم حقيقة نفسه كما هو يظلم غيره من الناس.
وكم من حاكم أو موظف أو شرطي جعل من موقعه المهني الرسمي وكأنّه بعض من لحمه ودمه يستحق لأجله أن يخافه الناس وأن يركعوا له ويقدّسوا مقامه!
وكم من حروب وصراعات دموية حصلت وتحصل لمجرّد وجود الإنسان "الآخر" في موقع طائفي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي مختلف، دون حتى أي معرفة مباشرة بهذا الإنسان "الآخر"!!
ثمّ في حالات معاكسة، كم أخطأت شعوب وجماعات حينما قدّست بعض قادتها ونزّهتهم عن أي خطأ أو عقاب!؟
وكم يخطئ أيضاً من يرفض وجود "الآخر" في العائلة الواحدة فيريد من أولاده أو أفراد عائلته أن يكون كلٌّ منهم نسخة طبق الأصل عن "أناه" في الفكر والسلوك والمهنة أحياناً!!
فنفي وجود "الآخر" ونكران حقوقه هي مشكلة من لا يرى في الوجود إلا نفسه، ومن لا يرى في الآخر إنساناً له حق التكريم الذي منحه إيّاه الخالق تعالى ولا يمكن أن تنزعه عنه إرادة أيٍّ من البشر.
وكم يغفل الكثير من الناس عن حقيقة الوجود الإنساني في الحياة الأولى، وعمّا هو موعود يوم الحساب في الحياة الآخرة.
فكل البشر هم تواصل مع الإنسان الأول ومن سلالته، وحياتهم مرتبطة بحياة الإنسان الآخر، بينما تُحاسب كلُّ نفس في الآخرة على أعمالها فقط، فتنفصل المسؤولية المشتركة عن الحياة عند لحظة الموت، ليكون الثواب والعقاب تبعاً لميزان العدل مع النفس والآخر، أو بتعبير آخر، بمقدار ظلم النفس و"الآخر".
وأذكر في هذا السياق إحدى ندوات "مركز الحوار العربي" بواشنطن مع الدكتور سهيل بشروئي، الأستاذ في جامعة ميرلاند الأميركية، حين أخبرنا عن أول زيارة له إلى السودان حيث ذهب لتدريس اللغة الإنجليزية هناك، وكان ما زال شاباً في مقتبل العمر، وحيث التقى بشيخ سوداني كبير في السن بادر إلى القول أمام الدكتور بشروئي "أستغفر الله" مكرّراً ذلك عدّة مرّات، فسأله الدكتور بشروئي: لِمَ تقول ذلك بعد السلام عليّ، فهل فعلت شيئاً أغضبك؟ ردّ الشيخ السوداني: لا يا بني، بل إني أقول ذلك عند لقائي مع أي إنسان للمرّة الأولى، حيث أجد في كل إنسان شيئاً من نفس الله وروحه، كما علّمنا الخالق ذلك، فأكرّر الاستغفار بحضور هذه النفس الجديدة أمامي عمّا فعلته نفسي في هذه الحياة!!
حبّذا لو كل إنسان يرى في "الآخر" إنساناً" فيه من نفس الله ..
صبحي غندور مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]
لقراءة مقالات صبحي غندور عن مواضيع مختلفة، الرجاء الدخول الى هذا الموقع:
http://www.alhewar.net/Sobhi%20Ghandour/OtherArabicArticles.htm