الجزء السابع إطول عمرو يصف الأحداث كما عاشها :
ولنعد إلى تأثير الوزيرين السينغالي والموريتاني على حكومتيهما وذلك على دورهما في المسؤولية التقصرية التي أدت بدورها إلى تلك الأزمة الخطيرة وما قد تفرع عنها من خروقات يصعب رتقها في وقت قريب !
الفصل الأول تداعيات الأزمة كما عاشها إطول عمرو :
إن تقصير السيدين وزيري الداخلية في كل من البدين وكذا حكومتيهما يكمن معظمه في عدم محاولة علاج الأزمة في مهدها بالطرق الدبلماسية السليمة ، وقبل أن تستفحل إلى حد يشبه الإبادة الجماعية لكلا للشعبين في البلدين ، وربما بتغاضي السلطتين عن ذلك إذالم تكونا قد أمرتا به انتقاما من بعضهما البعض ، وكذا أيضا بانشغال الرئيس معاوية يومئذ بتركيز معظم السلطات في يده منفقا في سبيل ذلك جزءا كبيرا من أموال الدولة ، وكذا إهماله لخطورة ذلك الذي كان يحاك ضد الدولة الموريتانية من مؤامرات مدمرة كانت تخطط لها تلك الحركات الزنجية . وذلك بمساعدة كل من السينگال وفرنسا ، وكذا أيضا انعدام أي دور إيجابي قد قامت به وزارة خارجيتنا يومئذ للحيلولة دون وقوع تلك الأحداث وكذا معالجتها بعد أن وقعت !
والتي قد بدأت يومئذ بسيطة جدا و تحدث اعتيادية أحيانا بين فلاحين سينغاليين ومنمين موريتانيين في معظم المواسم الخريفية إلى خلق كارثة إقليمية قد كادت أن تتحول إلى أزمة دولية يصعب علاجها !
ولقد كان بالإمكان حل تلك الإشكالية بواسطة إعلام وطني هادئ ومرن , و بذلك نكون قد تفادينا أحداثا قد داست شرف وكرامة ومصالح شعبين شقيقين قد كبدتهما أكثر من ألفي قتيل وجريح , ورغم تلك الكارثة الخطيرة فقد ظل الوزيران في منصبيهما و كأنهما في نزهة صيد وهما يمتطيان صهوة خيل جياد مطهمة ويتفرجان على مآسي شعبيهما وهما يذرفان دموع الندم جراء أحداث قد تركت جروحا غائرة في نفس ووجدان كل من مواطنيهما والذي أتمنى لتلك الجرح أن تندمل ولو مع طول الوقت إن شاء لتعود اللحمة التي تجمع الشعبين على ما كانت عليه !
فقلت له فكيف كانت تلك الأحداث باعتبارك أحد شهود العيان الحا ضريين لما قد حدث في السينغال يومئذ ؟ فقال نعم فأنا واحد منهم وأقول لك بإن الذي قد حدث يومئذ قد كان يشبه إلى حد ما تلك الكوارث الطبيعية التي قد حلت ببعض الأمم قبل مجيئ الإسلام وذلك بسبب عصيانهم لربهم حيث قد كان بعضهم ينام ليلا ثم تأتيهم صاعقة أوبركان عاصف ويقضي عليهم ولم يعد التاريخ يذكر هم اليوم بسسب عدم بقاء أي أثر يدل على وجود تلك الأمم الموصوفة أصلا بالبائدة التي قد حلت بها تلك الكوارث !
وهذا ما قد حدث معنا ما يماثله في تلك الأزمة السنغالية حيث كنا ننعم في دولة السنغال بالأمن والكسب الحلال ، وإلى أن قد حلت بنا يومئذ تلك الكارثة الكبرى التي عمت مختلف المدن السنغالية وأريافها الشيئ الذي حول سكان السنغال الذين قد كانوا في الأصل مسالمين إلى شياطين مردة بسبب تلك الصدمة التي حلت بهم جراء سوء تعامل بعض السلطات الموريتانية مع مواطنيهم المقيمين في موريتانيا يومئذ كما يزعمون !
وبالتالي فإن الشعب السينغالي انتقاما لمواطنيهم فقد صاروا يذبحون بلا رحمة ولا شفقة كل من يحمل بين فكيه لسانا ناطقا باللهجة الحسانية !
وكلما أتذكره اليوم عن تلك الأحداث الأليمة التي عشناها فهو كو ني قد وجدت نفسي يومئذ بدون أن أعرف السبب الفعلي لما قد حصل وسط مجموعات من الناس وكأننا نساق إلى ما يشبه (ساحة المحشر ) من طرف شياطين العذاب السود أولئك الذين كنا نسمع عنهم في تراثنا الوطني , وقد صرت أتساءل يومئذ وبدون أن أعرف من أوجه له تلك الأسئلة عما إذا كانت هذه هي القيامة التي تصفها لنا الكتب المقدسة ؟ وهل يمكن للقيامة أن تقوم قبل أن يموت الناس أصلا ؟ !
وهل يمكن أن نكون قد متنا ولم نشعربذلك ؟ وهل هذا الذي نمر به نوعا من البعث نشهد أطوار فصوله الأخيرة ؟ فإن ذلك اللبس الذي قد حصل لي جراء تلك الأ زمة بين الحياة والموت بسبب تلك الأحداث المفاجئة فأظنه ربما يشبه إلى حد بعيد ذلك اللبس الذي قد حصل لأصحاب الكهف بعد استفا قتهم من سباتهم الطويل بين الحياة والموت ، وذلك لما بعثوا أحياء في الدنيا وقد أرسلوا من يشتري لهم طعاما بورق أمتهم القديم ، على أن يتلطف ذلك الرسول ليلا يكتشف أمرهم من طرف أعدائهم ظنا
منهم بأن مصدر خوفهم ذلك مازال موجودا يتربص بهم الدوائر وباكتشافهم لتغيير عملة بلادهم فلقد تولد لديهم الشك حول ما إذاكان الذي قد حصل لهم أهو مجرد نوم عادي أم هو بعث بعد موت مؤكد ؟
ولكن الحقيقة الدينية تقول بأن أهل الكهف قد ماتوا فعلا ثم بعثوا أيضا في الدنيا مؤقتا وذلك لحكمة يعلمها الله عز وجل ، ولربما نكون نحن أيضا قد متنا ولنفس الحكمة فلربما هذه بداية بعثنا !
كل تلك الأسئلة الحائرة وغيرها وردت على ذهني يوم ذاك ودون أن أرى هامشا من طمأنة البال يسمح لي بمحاولة الإ جابة على بعضها ممن قد كانوا معي في نفس الرحلة وذلك بسبب آلام السياط التي كنا نساق بها وبلا رحمة ولا شفقة ومما قد صدق عندي كون هذه الآخرة وأن هذا ربما شيئ من عذابها وذلك لما رأيت بعضنا يحرق يومئذ في الأفران السينغالية وغير ذلك من التنكيل والعذاب الشديد ين الذين قد تعرضنا لهما نحن الموريتانيون في السينغال ، وربما يعود ذلك في واقع الأمر إلى نوع من العقاب الأليم قد خصنا الله به جراء تلك الأعمال التي كانت تمارس في أرضنا والتي لا يرضى الله عن فعلها ولا رسوله ، وذلك لكون قادتنا قد كانوا يتغاضون عنها في كل من مدينتي أنواذيبو وأنواكشوط لكونها قد كانت تمارس علنا ليلا ونهارا وعلى مرأى ومسمع من المسؤولين وكذا المواطنين على حد سواء من طرف صاحبات الرايات الحمراء وزبنائهم الآثمين !
وأحيانا يكون ذلك أيضا بمباركة التبتابه المتحكمين في البلاد يومئذ ! وأمة قد كانت تقبل تلك الممارسات على أرضها وبعلمها فيجب ألا تتوقع من حصاد سوى ذلك الذي قدحصل لنا في السنغال و ربما ما يماثله في بلدان إخرى نسأل الله أن يجنب بلادنا كل ضرر يصيبها في أي زمان أومكان !
أيها الأخ الفاضل والله ثم والله ما كنت أحسب أني سأراك وأحدثك بهذا الحديث الطويل والمحزن ، الذي لم افكر يوما من الأيام بأني أحدث به أحدا ، وما كنت أظن يومئذ إلا أننا نساق حقا إلى الجحيم، وذلك لكون الجنود قد كانوا يسقوننا بلا شفقة ولا رحمة وتحت لهيب العصي وأخمص البنادق اتجاه مستنقعات الذل والعار ودون أن تصل استغاثاتنا إلى مسامع خليفة المسلمين العباسي (المعتصم) رحمة الله عليه ، لكي يلبي نداء (عمورية )أو (داكار ) إن كان قد بقيت لديه في جيناته بقية نخوة من الشهامة العربية الأصيلة !
إذا فقد واصلنا السير بعد اليأس من الحياة دون أن نعرف الوجهة التي نساق إليها إلى أن وجدت نفسي أخيرا وبدون سابق إنذار داخل حافلة تطير بي في عنان السماء حيث كان قلبي ومعدتي يعلوان ويهبطان معها كلما طلعت تلك الطائرة أو هبطت عبر أجواء مرتجفة ، وكأنها تسير بنا فوق ممرات صخرية وعرة متعرجة الشيئ الذي لم يترك لي حينها الفرصة الكافية لكي اضبط و لو وجها واحدا ممن كانوا يستقلون معي نفس الطائرة يومئذ ، أو من هم كانوا معي ونحن في الطريق إليها ، وذلك بسبب هول الحدث من جهة وكذا خطورة تبعاته المحتملة من جهة ثانية ! ولكوني كذلك لم يسبق لي أن ركبت طائرة على الإطلاق ، وقد بقى الحال هكذا إلى أن وجدت نفسي أخيرًا تتقاذفنا موجات من المسفرين والمستقبلين الذين قادونا يومئذ إلى مخيم أعد خصيصا لاستقبالنا في فناء الملعب الكبير بالعاصمة ، حيث قد ضربت لنا تلك الخيام البيض من طرف سلطات المدينة للتقيم فيها مجموعات المسفرين الذين لم يجدوا من يستقبله من ذويهم.
ولم تكن تلك المخيمات لتماثل خيمنا التي كانا نضرب أطنابها في ربوع بوادينا الجميلة في أيام الخريف ولكنها كانت خياما خاصة متواضعة ،كما كان متواضعا كل ما يقدم فيها ، من خدمات يومئذ لأولئك المقيمين فيها وحتى لزوارها ، وقد كان عزاؤنا الوحيد فيها فهم نظرات العطف والشفقة الصادقة التي أستقبلنا بها مواطنونا والتي قدكانت عكس نظرات الخجل الواخزة تلك المعبرة عن العجز الذي قد كانت معالمه بادية للعيان على وجوه قادتنا المسؤولين عن استقبالنا !
إن نظرات العطف الصادقة تلك التي كادت تنسينا شبح الخوف الذي صاحبنا طيلة الأحداث الأليمة السابقة لولا شعورنا بتقصير المسؤولين عن إيجاد عمل لنا من قبل في وطننا حيث لقد كان ذلك العمل لربما يغنينا عن السفر يومئذ إلى الخارج ، ونحن نوجد في بلد غني مثل بلادنا التي تتوفر على تنوع إقتصادي لا مثيل له في المنطقة ، من ممعادن وأسماك وزراعة وغير ذلك كثير من الموارد التي لو تم أستغلالها برشاد وحكمة لحصل الجميع على رفاهية يمكن حقا التفا خر بها على بعض الجران كعادتنا !
كما أنه لوكانت لدى قادتنا الحنكة السياسية وكذا المهنية لمكنتاهما من اخماد تلك الفتنة في مهدها وذلك بمجرد اتصالات دبلوماسية هادفة تتلاءم مع الحدث وعلى قدر المستوى , ولكن هيهات أن يكون في جيشنا يومئذ من قد يستطيع فعل أي شيئ من ذلك القبيل ! إذن فلقد بقيت مع آلاف الناس عدة أيام في تلك الخيم البائسة التي كانت تعد إنجاز الحكومة الوحيد يومئذ في تلك الأزمة ، والتي ظلت تفاخر بها طيلة عدة سنوات كما تعتبرها إنجازا عظيما ، رغم أن أكثرية تلك المساعدات قد تبرع بمعظمها كثير من المواطنين الشرفاء لأولئك المنكوبين ، ولكنها الأسف قد استولى على بعضها رجال من النظام الحاكم والذين كانوا يشرفون على صرفها لصالح الجماعات المسفرة من السينغال !
إذن فلقد بقيت في تلك المخيمات مقيما يتفرج الناس علينا وكأننا في حديقة حيوا نات بشرية قد مسخوا قردة في الحين ! كما قد كنا نحن أيضا نشفق على أولئك الذين كانوا يستقبلوننا والذين نراهم وكأنهم سكارى وما هم كذلك إلا أنهم ذاهلون بسبب هول تلك المأسات التي قد حلت بالمسفرين من جهة ، وكذا حرص أولئك ( الخلطة ) الشديد على تلك المكاسب التي ربما قد تم تطفيفها من تلك الأموال التي قد رصدت لمساعدة أولئك المسفرين من جهة ثانية . وذلك ليلا يضطروا لاحقا إلى انفاق جزء معتبر منها على جحافل أولئك المرحلين !
إذن فلقد ظل جو تلك المأسات مسيطرا علينا عدة أيام في تلك المخيمات خصوصا فيما قد تعرضنا له من تنكيل وسلب لممتلكا تنا التي كنا نخطط لأستغلالها في مصالحنا وإذا بنا يومئذ بين عشية وضحاها أسارى واقع أليم أقوى منا ومن غيرنا ، حيث صرنا نعيش تحت عطف ومواساة الناس وذلك لا لذنب قد إرتكبناه في حق شعبنا ، ولا في حق أنفسنا ولا في حقوق غيرنا . وإنما الأمر يعود كله إلي رعونة أولئك المسؤولين الحكوميين من كلا الطرفين ، وكذانعدام الكفاءة السياسية والأخلاقية لدى مسؤولي الدولتين معا مما جعل علاقات شعبين شقيقين قد كانت ضاربة في القدم ومبنية أصلا على الود وحسن الجوار منذ مائآت السنين لتنهار دفعة واحدة ودون سبب مقنع يبرر ما قد حصل !