الفصل الاول : رحلة العبور نحو السنغال
إذا لقد اتخذت قرار السفر صبيحة يوم الإثنين ذلك اليوم الذي أفضل السفر عادة فيه بحيث قد خرجت باكرا عبر بوابة الوطون الغربية من ( روصو ) تجاه السينغال ولما قطعت النهر بواسطة زورق خشبي كاد أن يغرق بسبب ثقل حمولته ، رغم قصر تلك المسافة التي لا تتجاوز عدة امتار , ولما قطعت النهر فإذا بملامح الضفة السنغالية منه قد تغيرت وصارت مكسوة بالخضرة والأزدهار . بينما الضفة الشرقية مصفرة الوجه كالحة الملامح ، وكأنها في حالة غيرة من شقيتها الغربية .أو لرما فهي في حالة حداد على الفرص الضائعة التي ربما لو استغلت جيدا كما يجب لكانت الآن تشبه مثيلتها السينغالية أو لربما أحسن منها بكثير بقدر فوارق الإمكانيات الإ قتصادية بين الدولتين !
وكذا ملاحظتي أيضا حول النهر الذي قد تراءى لي ضيقا للغاية وكأنه صار شبه جرح بدأت تلتئم شفتاه .
ولقد وجدت على ضفته السنغالية يومئذ كثيرا من الرجال والنساء في حالة استنفار يبدو أنهم قاصدين تجاوز النهر صوب الضفة الشرقية الموريتانية، وكأنهم في حالة فرار من أمر مجهول لا أعرف كنهه ويظهر بأنهم في حلة خوف شديد منه ولربما فهم بسبب ذلك الفزع الشديد في حالة سباق مع الزمن !
وأنا بدوري أيضا أسبح عكس التيار أوشبه مطارد مثلهم من الضفة الشرقية ولكني أعرف جيدا من يطاردني من وطني فإنهما ضائقة البطالة وظلم الغبن من ذوي قرابة الوطن !
إذن فلقد وصلت إلى الضفة الغربية واستقليت حافلة متجهة صوب مدينة داكار و قد انطلقت بنا كالسهم غربا وكأن الدور و الاشجار و الأ رصفة كلها تتقافز خلفنا و هي تسير بنفس السرعة باتجاه الضفة الأخرى الشرقية التي تركتها للتو وأنا مرغم على ذلك بسبب ظروفي الخاصة !
ولقد تعجبت حينها من اختلاف أطوار البشر و همومهم بحيث أن كل واحد يفتح الله له مجالا خاصا به فلا يراه غيره ,
فها أنا ذاهب مثلا إلى السنغال بحثا عن العمل والرزق ، في حين فهؤلاء الأخوة السيناغليون فهم عكسي قاصدون موريتانيا لنفس الغاية أو الهدف ، كما يظهر من حالهم !
فقد كان هذا من جملة ماكان يشغل ذهني التأمل فيه وأنا أقطع النهر و أتجاوز المسافات الطويلة و المدن الكبيرة العامرة وذلك باتجاه مدينة دكار لعلي أجدها هي الاخرى على ما تركتها عليه من ازدهار وعمران . أم أنها لربما قد أصابتها عدوى بلادي، تلك التي طردتني ظروفها القاسية !
إذا لقد واصلت رحلتي عبر ذلك الطريق الذي لم تختفي عن ناظري على جوانبه المباني والمطاعم وكذا المحلات التجارية إلى أن وصلت أخيرا إلى مدينة بيكين التي كانت هي وجهتي الأساسية .
وحيث نزلت ضيفا على صديقي القديم السيد بلال ولد معتوگ حيث استقبلني في منزله جزاه الله خيرا . وبعد عدة أيام من الإستراحة من وعثاء السفر وأنا في ضيافة السيد بلالا وكذا صحبة بعض الأصدقاء القدامى ، حيث قد نزلت إلى السوق صبيحة أحد الأيام لكي أجس نبضه وأتعرف عليه من جديد لأستطلع ما آل إليه حاله بعدي .
وحيث أني قد اتصلت يومئذ ب (جولات ) الذين بقوا على قيد الحياة ممن كنت أعرفهم ، وقد كانت المفاجأة غير السارة بالنسبة لي فهي كوني قد وجدت كل شيئ قد تغير بعدي بما في ذلك جلات الذين قد سبقت معرفتي بهم وكنت أتعامل معهم حيث علمت بأنه مات البيض منهم للأسف وقد عاد البعض الآخر منهم إلى وطنه ممن قد كان بإمكاني أن أشتري منهم شياها من الغنم أو (زولا ) من البقر بثمن مؤجل السداد مضمونا بالذمة المدعمة بالثقة ، وذلك لكي أبيع ما اشتريت منهم سابقا لأشتري أيضا من جديد زولا وشياها أخريات وأدفع لأولائك التجار صافي رأس مالهم وكذا أربا حهم ، ثم أشتري من جديد وهكذا دواليك وإلى أن تنتهي تلك المعاملات كلها برضى جميع الأطراف بما قدر الله من ربح لبعضهم من بعض .
أما الآن فقد صار معظم تجار ذلك السوق كما قابلتهم في ذلك اليوم على أرض واقع السوق فكأنهم قد أصبحوا مصبوغين بلون اللامبالاة البغيض . ولقد انعدمت الثقة لديهم فيما بينهم، وصار من لا رأس مال طائل ومعتبر لديه لا يمكنه حتى مجالستهم ، ولربما لا يردون السلام الواجب عليه إذا ما حياهم به .
كما أن السوق هي الأخرى قد تغيرت أيضا وقد أصبحت يسودها طابع الإحتكار والمنافسة غير الشرعيين ، مما جعل أمثالي من المتطفلين على التجارة لا يمكنهم مجرد دخول تلك الاسواق إلا إذا كانوا مارين بها خجولين وعلى عجلة من أمرهم !
أما العمل فيها فهو نوع من المستحيلات السبع ولما .
تأكدت مما حصل للتجار وللسوق معا مما ذكرت بعضا منه ، فقد أصبح بصيص الأمل الذي كان قائما لدي منذ حين في تجارة المواشي ضئيلا جدا إذا لم يكن منعدما . اللهم إلا إذا كان ربما مجرد الحصول على وعاء ما يشبه حقيبة منكب نحمل في داخلها ما يشبه دكانا صغيرا أدور به كل يوم بين الأزقة والشوارع داخل الأحياء الشعبية . ولكن هيهات فمن أين لي الحصول على ذلك ياترى وممن سيكون فاعل الخير ذلك ؟!
إذا فلقد تركت التفكير في الأمر عدة أيام . وخلال خلوتي مع نفسي في تلك الأيام أفكر في كيفية العمل أوالحصول على مال قد أبدأ به أي شيئ أقلب به يدي في السوق حتى أعيد وجودي فيها ولكي يتذكرني من نسيني ،ويتعرف علي من جديد من لم يسبق له أن عرفني . إلا أني لم أوفق في بادئ الأمر كعادتي في كل البدايات وذلك لإيجاد الحلول المناسبة في الوقت المناسب .
إلا أنني أخيرا قد اهتديت إلى فكرة مؤداها أن أطرح الأمر برمته على زميلي بلال ولد معتوك الذي أقيم في منزله وهو من سكان مدينة كيفه أصلا ، وهو الذي قد خصص لي بيتا من داره جزاه الله خيرا ، و لقد سبقت معرفتي به منذ عشرين سنة خلت تقريبا عندما كان بائع ماء بمدينة دكار ، والآن فهاهو و الحمد لله قد أصبح صاحب منزل وحانوت كبير لبيع اللحم المشوي في ضواحي المدينة، ولديه أيضا عدة أولاد قد تخرج بعضهم من جامعة دكار، ويساعده البعض الآخر منهم في دكانه الموجود بمدينة ( بكين ) السينغالية .
وفي أحد تلك الأيام الصيفية من تلك السنوات التي كانت قبل أزمتنا مع السينغال بحيث قد اختليت ببلال عشية أحد تلك الأيام ولقد لخصت له خلال حديثي معه كامل أنشطتي في موريتانيا
طيلة المدة التي قضيت في الوطن ، وقد قلت له حينها بأني قدمت هنا على أمل أنه بإمكاني أن أعيد نشاطي السابق في تجارة المواشي، ولكني وجدت ذلك قد أصبح صعبا للغاية بسبب ظروف السوق التي قد ذكرت آنفا ، وكذا المتعاملين فيها,وعليه فقد طلبت منه التفكير مليا معي من أجل إيجاد مبلغ ولو متواضع كسلفة وذلك لكي أبدأ به شراء حقيبة وطاولة أعرض عليها بعض البضائع الخفيفة لليكون ذلك بداية دخولي تلك الأ سواق من جديد إن شاء الله .