إنَّ الصراع الدولي على النفوذ وعلى تحقيق المكاسب الاستراتيجية بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية، والذي احتدم في القرن الماضي، تسبب بحربين عالميتين أنتجتا واقعاً دولياً بالغ التعقيد، تدفع تعقيداته هذه في اتجاه حرب كونية ثالثة بدأت نُذرها تلوح في الأفق قبل الحرب الأوكرانية وخلالها.
ولئن توافرات أسباب عديدة كانت كفيلة بإشعال الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإنَّ أسباباً قديمة وأخرى مستجدة أسهمت في تأزيم الصراع الدولي من جديد في هذا القرن. ولعلَّ أزمة الموارد والصراع عليها، وفي مقدمتها الصراع على موارد الطاقة والغذاء، قد يدفعان نحو حرب كونية ثالثة تدور رحاها في جغرافيا واسعة تبلغ قارتي آسيا وأفريقيا، لكون الأولى مصدراً مهماً للطاقة، والأخرى مصدراً مهماً للطاقة والغذاء والموارد الأخرى.
وبينما تُطل أزمة الغذاء في العالم برأسها في هذه المرحلة من التاريخ، وبشكل خاص بعد الحرب الأوكرانية، فإنَّ على الدول العربية والأفريقية البحث عن السبل الكفيلة بتحقيق أمنها القومي على المستويين القطري والإقليمي، كما عليها أن تسعى إلى المساهمة في تحقيق الأمن الدولي، من خلال توظيف إمكاناتها ومواردها الطبيعية، وأن تختص بتوفير الأمن الغذائي، وتوفير الطاقة لشعوبها وللإنسانية، ولا سيما أنَّها تملك من الموارد ما يؤهلها لذلك.
في العام 1902، طرح مهندسو هيئة مياه النيل السودانية المصرية المشتركة فكرة استشرافية تقوم على الربط بين نهر الكونغو ونهر النيل، ورأوا في هذه الفكرة فوائد كبيرة تعود على مصر كدولة مصبّ، وتعالج أزمة المياه التي ستقابلها في القرن الحادي والعشرين، وهي فكرة بالغة الأهمية، ولها من الفوائد ما يتجاوز هدف سد فجوة المياه في مصر. وقبل أن يستعرض هذا المقال ملامح هذه الفكرة أو المبادرة الاستراتيجية، لزم تقديم نبذة مبسطة عن دولة الكونغو ونهرها المعول عليه في هذه المبادرة.
تقع الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) - دولة أفريقية - في وسط أفريقيا جنوب الصحراء. تحدها من الشمال الغربي جمهورية الكونغو، ومن الشمال جمهورية أفريقيا الوسطى، ومن الشمال الشرقي دولة جنوب السودان، ومن الشرق دول أوغندا ورواندا وبوروندي، وتنزانيا عبر بحيرة تنجانيقا، ومن الجنوب والجنوب الشرقي دولة زامبيا، ومن الجنوب الغربي دولة أنغولا، ومن الغرب المحيط الأطلسي الجنوبي ومحافظة كابندا التابعة لأنغولا.
تقع الكونغو بين خطي العرض 6° شمالًا و14° جنوبًا، وخطي الطول 12° شرقًا و32° شرقًا، وتقطع خط الاستواء، ويقع ثلثها شماله، وثلثاها الباقيان إلى جنوبه. تمتد الكونغو على مساحة 2,345,408 كيلومترات مربعة، وهي أكبر بقليل من أراضي إسبانيا وفرنسا وألمانيا والسويد والنرويج مجتمعة. الكونغو ثاني أكبر بلد في أفريقيا، بعد الجزائر من حيث المساحة، والثالثة بعد نيجيريا، ثم إثيوبيا من حيث عدد السكان، وهي تتشارك مع مصر في الموقع الأفريقي الخاص بعدد السكان.
وبسبب موقعها على خطِّ الاستواء، تهطل في جمهورية الكونغو الديمقراطية أمطار غزيرة، وفيها أكبر تكرار للعواصف الرعدية في العالم. قد يبلغ الهطل السنوي نحو 2,000 مليمتر في بعض المناطق، وتشمل الكونغو أيضاً غابة الكونغو المطرية، وهي ثاني أكبر غابة مطرية في العالم بعد الأمازون.
هذا الوجود الكبير للغابات الكثيفة يغطي معظم حوض النهر المركزي المنخفض، الذي ينحدر إلى المحيط الأطلسي في الغرب. هذه المنطقة محاطة بهضاب تختلط بحقول السافانا في الجنوب والجنوب الغربي، ومدرجات جبلية في الغرب، ومراعٍ كثيفة تمتد من جانب نهر الكونغو في الشمال. وفي أقصى الشرق، توجد جبال رونزوري الجليدية.
ينبع نهر الكونغو من جنوب شرق الكونغو الديمقراطية، ويعد ثاني أطول نهر في أفريقيا بعد نهر النيل، إذ يبلغ طوله 4700 كلم، وهو أكبرها من حيث مساحة الحوض، وثاني أكبر نهر في العالم من حيث التدفق المائي بعد نهر الأمازون، إذ يلقي هذا النهر ما يزيد على ألف مليار متر مكعب من المياه في المحيط الأطلسي، وتمتد مياهه العذبة إلى مسافة 30 كيلومتراً داخل المحيط، وتتدفق داخل المحيط بمقدار 41700 متر مكعب في الثانية. ويفوق النهر في قوة دفعه هذه نهر النيل بنحو 15 مرة.
عُرف نهر الكونغو قديماً بنهر زائير، ويمتدّ حوضه داخل عدد من الدول، هي: جمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى والغابون وجزء من غينيا الاستوائية. ويعتبر من أعظم الأنهار من حيث الحجم ومن حيث تعدد قنواته، وهو غني بالتنوع الحيوي، ويعتبر موطناً لأنواع كثيرة من الأسماك.
كانت فكرة المشروع الأولى التي طُرحت في العام 1902 قائمة على ربط نهر الكونغو بالنيل الأبيض عبر قناة بطول 600 كيلومتر، لتنقل 100 مليار متر مكعب من المياه إلى النيل الأبيض، ومن ثم إلى نهر النيل، وبالتالي مضاعفة حصة السودان ومصر من المياه الواردة من نهر النيل وروافده المختلفة، لتضاعف حجم المساحات الزراعية في مصر بعد اكتمال المشروع، لتبلغ نحو 16 مليون فدان عوضاً عن 8 ملايين فدان تزرع حالياً.
ولكن هذا المقال يطرح مساراً جديداً لهذه القناة، يقوم على جعل هذه القناة ممتدة في خط موازٍ لنهر النيل من غربه، وتمتد حتى أقصى شمال مصر، لتشق الجزء الرابط بين دولتي وادي النيل الواقع في الصحراء. وبهذا، تعبر بشكل طولي منطقتي كردفان ودارفور، حيث الأراضي الشاسعة والثروات الحيوانية الهائلة العدد، وحيث تنعدم الأنهار وتعتمد الزراعة فقط على موسم الأمطار.
وإذا عبرت القنوات بهذا المسار، فإن بالإمكان الاستثمار في مساحة زراعية تبلغ نحو 100 مليون فدان، و100 مليون فدان أخرى كمراعٍ طبيعية داخل السودان، و80 مليون فدان في مصر بدلاً عن 8 ملايين، ومثليها داخل الكونغو وجنوب السودان، وفي ذلك مضاعفة للفائدة المحدودة التي تتحقق من المسار الأول المرسوم منذ العام 1902.
إنَّ اشتمال هذه المبادرة على برامج استراتيجية أمر يعظم من عائدها، فعبر هذه القنوات يمكن تأسيس برنامج ضخم لإنتاج الطاقة، صمم في النسخة الأولى لينتج 18 ألف ميغاوات، تكفي حاجات الدول التي تتأسس المبادرة فوق أراضيها وتفيض على دول الجوار، ومن الأهمية بمكان تأسيس برامج للأمن الغذائي في شقيه النباتي والحيواني، وبرنامج للإنتاج الصناعي الذي يستفيد من الموارد الهائلة التي تحتضن هذه المبادرة، وبرنامج نقل سككي يحقق الربط بين الدول المالكة للمشروع.
تستطيع هذه المبادرة أن تحقّق مكاسب استراتيجية عديدة، منها:
- تعزيز الشراكة الأفريقية الأفريقية، والأفريقية العربية.
- تحقيق الأمن الغذائي العربي والأفريقي، والمساهمة في تحقيق الأمن الغذائي العالمي.
- تحقيق الاكتفاء الذاتي من الكهرباء، وتحقيق عائد اقتصادي من الفائض عبر تصديره.
- التأسيس لنهضة الدول الأفريقية المالكة للمبادرة.
- تحقيق تفاعل حضاري عربي أفريقي في وسط أفريقيا، وتعزيز التفاعل القائم في بقية أقاليم القارة الأفريقية.
- المساهمة في تحقيق الاستقلال الوطني.
- خروج الدول التي تعاني من الفقر المائي إلى مصاف الثراء المائي.
- المساهمة في إحلال واردات هذه الدول، وتنويع صادراتها وتعظيمها.
- المساهمة في الحد من الفقر والبطالة.
- المساهمة في تنمية المجتمعات المحلية.
- المساهمة في تحقيق الأمن والسلم الأهلي في الدول المالكة للمبادرة.
- تعزيز القدرات الاقتصادية للدول المالكة للمبادرة.
- تعزيز المكانة السياسية للدول المالكة للمبادرة على المستويين الإقليمي والدولي.
إنَّ تنفيذ هذه المبادرة تقف أمامه تحديات، أولها هو توفر الارادة السياسية، وثانيها نسج الشراكة بين الدول وفق معادلة منصفة تحقق المنفعة المشترك لأطرافها، وثالثها القدرة على تحقيق شراكة على مستوى المجتمعات المحلية، ورابعها الصراعات السياسية الداخلية، وخصوصاً تلك التي تتخذ طابعاً مسلحاً. أما خامس التحديات، فهو توفير التمويل من مصادر عربية.
أما مهدّدات هذا المشروع الخارجية، فهي نفوذ الدول الكبرى وأطماعها في الثروات، وهي أطماع تاريخيَّة استحكمت خلال الحقبة الكولونيالية، واستمرت حتى الساعة. مثل هذا المشروع يهدد استمراريتها ويضعف حيثياتها. وهنا، يجب عدم نسيان المصالح التي تحققت لهذه الدول عبر التاريخ في أفريقيا، ومن بين هذه الدول الكيان الصهيوني الّذي أسس شبكة من العلاقات والمصالح الكبيرة في القارة الأفريقية.
إن مبادرة كهذه قابلة لمضاعفة حجمها، وبالتالي مضاعفة العائد منها، وذلك بضخّ مزيد من المياه شمالاً للتوسع في برامج الزراعة والصناعة وإنتاج الكهرباء، وهي بكل ذلك قد تكون مكوناً رئيساً في مسيرة الاستقلال والنهوض العربي والأفريقي، وفي التأسيس لتنمية مستقلة مستدامة قابلة لمخاطبة المستقبل، وخصوصاً أن برامجها تمكن من دخول المستقبل بالاعتماد على الذات فيما يتصل بتحقيق الأمن الغذائي، وتحقيق هدف الاكتفاء من الطاقة الكهربائية، وتعزيز الشراكة العربية الأفريقية التي ترتقي بالشركاء إلى مصاف الاستقلال الوطني والمساهمة الإيجابية في القرار الإقليمي والدولي.
محمد حسب الرسول باحث في الشؤون الإقليمية