الفصل الثالث : البحث عن العمل في العا صمة
إذن فلنعد إلى بداية مجيئي إلى انواكشوط حيث أنه بعد وصولي إلى المدينة واستراحتي عدة أيام قد اطلعت خلا لها على أحوال المدينة وكذا أمكنة مظان العمل التي ربما يوجد بها ، حيث كنت أذهب كل صباح باكرا أبحث عن العمل لدى المؤسسات العامة والخاصة والمتاجر والموانئ ثم أدور حول المخازن والأسواق العامة و حتى أسواق السمك و مرابط الحيوانات لعلي أجد عملا ما قد يناسب قدراتي وذلك لربما في الحراسة أو مهما كان نوعه من الأعما ل المشابه !
أو لعلي أصادف يوما ما نفحة من فضل الله مقدمة من طرف محسن يهدف من ورائها إلى تحقيق أهداف مهمة يريد الحصول عليها ، وفي نفس الوقت فلربما تخفف عني شخصيا تلك النفحة أو الصدقة ضائقة البطالًة وصعوبة المعاش ، لقد كنت أمارس تلك الأنشطة في النهار أما في الليل فإني أبقى حبيس سكني مثل الطيور التي تعشى في وكناتها طيلة الليل ودام تقسيم الزمن لدي على هذا المنوال دون تسلية ولا مؤا نسة إلى أن أصابني ملل شديد من بقا ئي وحيدا طيلة الليالي وأنا في تلك العزلة الموحشة أحملق في ظلام غرفتي بين اليقظة والمنام ، أفكر في كيفية الحصول على العمل ذلك العمل الذي يبدو جليا بأن ملكته لم تنزل بعد من السماء كما أبقى طول ليلي أجتر ذكرياتي (منولوجيا ) وأنا صامت !
وبعدئذ بدأت التسلل ليلا عبر الطرقات الرملية في مدينة الميناء متأسفًا على مناظر البؤس المنتشرة في أطرا فها وذلك لعلي أستطيع الحصول على تسلية ما قد تساعدني على المزيد من الصبرلكي اجد كلما من شانه أن يمكنني من إيجاد عمل مهما كان مستواه في هذه المدينة عساه أن يوفر لي الاستقرار الدائم في هذه البلاد و حينئذ أحط عن كاهلي عصا الترحال !
وقد صرت مع طول الوقت أتسلى بتلك السهرات الليلية الراجلة لعلها هي الأخرى تجلب لي من ورائها قدرا لا بأس به من راحة البال و كذا طمأنة النفس أثناء تنقلا تي تلك في أزقة المقاطعة السادسة الرملية تلك الباردة المنعشة وذلك بسبب إعتدال مناخها طيلة معظم فصول السنة لقربها من البحر ، ومما سيساعد في ذلك أيضا فهو إنارتها تلك الخافتة التي تشجع الساهرين المتنقلين كثيرا على قطع مسافات طويلة دون تعب أو ملل يذكر .
وبالتالي يتم اطلاعي كل ليلة كبقية السائحين المتجو لين على أوضاع المدينة ، وكذا ما يدور فيها من امور جميلة ، و أخرى شاذة و مشينة يندى لها جبين الإسلام و يتفصدً منها أيضا الضمير الوطني عرقا إذالم يكن دما للأسف !
ومن تلك المشاهد الغريبة في تلك المدينة والتي ظلت عالقة في ذهني وتؤ رقني دائما حتى الآن وما زلت أتعجب من أسباب وجودها ! ومن وراء ذلك الوجود فعلا وهو: منظر تلك السيارة الزرقاء المغطاة بإحكام والتي قد كنت أشا هدها عادة ليلا مرتين أو ثلاثا من كل أسبوع وهي تحط حمولتها تلك من الأطفال السمر الذ ين ربما تتراوح أعمارهم ما بين تسع سنوات أوعشر وذلك قرب (سنما ) المقاطعة السادسة ، وكل واحد من أولئك الأطفال ليس لديه من أمتعة تصاحبه سوى ثيابه الرثة التي على بدنه ، وكذا حك فارغ ( من الطماطم ) !
ثم تذهب عنهم تلك السيارة إلى حال سبيلها وتتركهم دون أن يظهر للمارة وجه سا ئقها ! وبالتالي يتوجه أولئك الأطفال إلى حائط مهجور بالقرب من تلك السنما لا يوجد به سوى شجيرات من ( تورجة ) شجر العشر !
وفي الصباح الباكر يتفرقون أولئك الأطفال أيادي سبإ في أحياء المدينة بحثا عما يقتا تون به ، ويستمرون على ذلك الحال إلى أن يندمجوا رويدا رويدا مع طول الوقت بعد تكيفهم مع المجتمع وتعلمهم إحدى لغاته أو أكثر ، وكذا التعرف على نمط حياته و عاداته وتقاليده وأسلوب عيشه ولقد رابني مشهد تلك السيارة المتكرر يومئذ في نفس المكان والزمان !
و من الملفت للإنتباه حقا بالنسبة لي فهو مصير أولائك الأطفال الصغار المبعدين ربما عن والد يهم ! والذين قد خمنت حينها في شأنهم المريب الذي يعود أمرهم رما إلى احتمالين اثنين لا ثالث لهما أبدا فالأول هو أن تكون بعض تلك العائلات الإفريقية الزنجية من دول الجرا ن قد ثقلت على بعضها مؤونة أطفالها ربما ،حيث يريدون من يتولى عنهم تلك الأعباء تحت غطاء إرسالهم إلى الدولة المو ريتانيا المعروفة بتعليم ونفقة من يأتي إليها طلبا للعلم والمعرفة !
والأحتمال الثاني - وهو وارد أيضا - أن يكون وراء هجرة أولئك الأطفال منظمة عقائدية سياسية يريدون من وراء هجرتهم محاولة زيادة نسبهم الديمغرافية لصالح بعض قوميا تهم في موريتانيا وذلك بتوطين هؤلاء الأطفال بهذه الحيلة الذكية دون أن يشعرالمسؤولون عن الأمن الوطني بذلك التحايل الماكرالذكي والخبيث في نفس الوقت ! وربما يكون وراء هجرة أولئك الأطفال الأمرين معا !
ولما تكرر علي ذلك المشهد أكثر من مرة فحينئذ ذهبت بنفسي صبيحة أحد أيام الأثنين من شهر غشت 992 1 م إلى مدير الأمن الجهوي في مدينة انواكشوط يومئذ وقد أخبرته بقصة تلك السيارة وكذا الأطفال ، ولم يستغرب الرجل حينها ما قد قلت له ، بل فلربما قد كان على علم مسبق بكل تفاصيله ، و ممايدل على ذلك فهو قوله لي - مكفر الوجه وبدون استغراب مما أخبرته به - إذهب أنت فلا عليك فهذا الأمر لا يعنيك في شيئ !
ولقد خرجت من مكتبه حينئذ وأنا مكسور الخاطر بسب ذلك التجاوب الجاف غير المتوقع من مسؤول كبير قد أخبر ته بنبإ خطير ربما يهدد أمن وطنه مستقبلا !
وأظن أن ذلك الضابط السامي لربما كان مصابا يومئذ بمعدة حادة تشغل باله و يحتاج إلى علاج بجرعات كثيرة من ضمنها طبعا سعرات من الوطنية !
فقلت لاطول عمرو مستفهما وأنا مصغ لما يقول باهتمام فهل مازلت تعرف اسم ذلك الضابط فقال نعم نعم أعرفه وكذلك أعرف أسماء معظم من أشرت إليهم صراحة أو ألمحت لك في شأن أي واحد منهم ضمنا . ولكني احتراما لذويهم ومحيطهم أتكتفي فقط بوصفهم !
(يتبع)