ولكن إذا توجهت إلى اختبار ما مدى صحة ذلك الأدعاء ، على ارض الواقع فلن تجد معظمه إلا عكس الحقيقة . فهذه هي مدينة أنواكشوط حين جئتها.ويوم تركتها ، وما أظنها قد تغيرت كثيرا ولن تتغير ما دام قادتها مجموعة التبتابه . وما داموا أحياءا يرزقون بعد ما يقارب من اربعة عقود من الزمن فلا يوجد من بينهم داخل المقابر سوى النزر القليل ، وسوف يظلون كذلك ما داموا نافذين ومن أهدافهم الأساسية هو تزييف الحقائق وخداع الرأي العام الوطني . وكذا الدولي وذلك بتظاهرهم الدائم أمام العالم بمسائل تتعلق بالعلم والمعرفة والأدب والشعر . في حين يظل خريج الجامعة الوطنية أو الأجنبية وهو رمز للعلم والأدب فليس أمامه من فرص للعمل سوى بردع حمار يعتلي صهوته وهو يجر عربته تلك لليبيع الماء متنقلا بين أحياء القصدير في أطراف العاصمة ، مخفيا ملامح وجهه عن انظار الناس احتراما للعلم المهان والمداس الكرامة في بلاد شنقيط من خلال با ئع ذلك الماء المتجول !
إن كل ذلك لم يحدث في بلا دنا يومئذ للأسف إلا بعد أن تحكمت التبتابه في راقب البلاد والعباد في ظل النظام العسكري . وقبل ذلك فقد كان العلماء والشعراء معززون مكرمون في هذه البلاد ، ولكن بظهور التبتابه وتحكمهم مع بداية نشأة الدولة الموريتانية كبذرة فساد قد بدأت صغيرة سرعان ماكبرت وتعاظمت فروعها وتضخمت حتى
صارت دوحة مع تتابع الأ نقلابات العسكرية المتعددة ، ولا تزال تكبر وتتمد حتى غطت كامل أرجاء التراب الوطني بأغصانها الجرداء الشائكة ، وكذا بجذعها المجوف المليئ بالنمل والقوارض والزواحف السامة !
وهي مازالت هي نفسها تلك المنظمة غير المنظمة التي تحكم وتمارس دكتاتوريتها في البلاد من خلال ديمقراطية الأستبداد الحالية ذاتها ، وأعتقد جازما بإنها سوف تقود في قابل الأيام والشهور و السنوات عصر الديموقراطية الحقيقية إن وجدت في بلادنا و توفرت ظروف وشروط تحقيقها ،ولكن طبعا سيكون ذلك بالطريقة (التبتابيه ) المعهودة . إنهم كما يبدو فلا مفر من استمرار وجودهم وذلك رغم أنف الجميع . ما داموا لا توجد لد يهم ملفات في الإدارة العامة موثقة يمكن أن يتقاعدوا بموجب الزمن المرقوم في سجلاتها ، وكذا الحماية المو فرة لأفرادهم من طرف الجيش وكذا قبائلهم للأسف !
فهذا بعض مما قد اختزنت ذاكرتي عن مدينة أنواكشوط ، لما أتذكر اليوم تلك الأيام الخالية، التي قضيت فيها شبه سكران ذاهل غير مرتاح البال وعاجز عن فهم تناقضات سكان هذه المدينة الغريبة !
ويمكنني الآن وعلى عجل إن شئت أن ألخص لك بعض ممارسات تحالف جماعتي الأ نقلابيين العسكريين وكذا التبتابه في بلادنا كما أراه ماثلا أمامي الآن !
ففي مجال التعليم مثلا فقد أفسداه تماما جملة وتفصيلا وذلك بأمور كثيرة ومن ضمنها ضعف رواتب المعلمين وكذا الإساتذة بحيث صار الواحد منهم يبحث عن عمل إضافي لليسدبه النقص الحاصل في معاش أسرته وبالتالي لم يعد متفرغا لتحضير دروسه وتأديتها كما يجب . ثم أن التلميذ وكذا الطالب فهما معا أيضا بسبب التزوير الدائم لنتائج المسبقات والإختبارات والأمتحانات صارا لا يهتمان كثيرا بدرو سهما لمعرفتهما المسبقة بكونها لن تقود أيا منهما إلى الوظيفة العمومية ولاشبه العمومية ولا حتى القطاع الخاص ، ومازال الأمر هكذا ساريا كذلك وإلى الآن
ومما يصدق، ذلك فإني أعرف شخصيا -كما يقول إطل عمرو - أسرة لديها ثلاثة أبناء موظفين الثلاثة في الوظيفة العمومية جنبا إلى جنب وذلك على شهادة واحدة تعود في الأصل لصهرهم ، و قدتم ذلك بمجرد تغيير الأسماء فقط ، وعلى ذلك فقس عائلات أخرى أكثر نفوذا وتحكما ! وحتى أن التبتابه قد قننوا تشريعا جديدا يسمح لهم بما يعرف بالأنتقاء من بين المترشحين لكي يتمكنوا بواسطة ذلك القا نون الجديد من توظيف وتعيين كل من أرادوا دون قيود ، وكأن الذي سوف يتولى تصحيح و فرز ملفات أولئك المترشحين والأ نتقاء من بينهم يعد ملكا مقربا معصوما من الغائية المشينة ، أم هو مجرد تبتاب وقح قد تدرب على يد الشيطان الرجيم ذاته وعا ش في معيته ردحا من زمننا الضائع ! وهل يوجد تحد أكثر ظلما وإيلاما ووقاحة للتلميذ وللطا لب وكذا لأ يهلهما أشد من هذا التشريع الجائر؟ !
أما أبناء الضباط الكبار والوزراء ورجال الأ عمال فيدرسون في مدارس خاصة لايمكن لأبناء العامة دخولها ولو لمجرد الفرجة . ثم يمنحون لاحقا في الدول الغربية على حساب الدولة الموريتانية لكي يتخرجوا من تلك الدول بمؤهلات علمية عالية ، ووظائفهم محجوزة لهم سلفا دون منافس يذكر ! وبلا مسابقات ولا اختبارات ولا هم يحزنون !
أما أبناء العامة فإن تخرجوا محليا من جامعاتنا ومعاهدنا فليس أمامهم سوى الأ نتظار أوالبطالة و تلك المقنعة منها إن وجدوا عملا بوساطة ، أو الهجرة إلى خارج البلاد ! وإن حصل الواحد منهم ربما على جنسية دولة أخرى ، فتسحب منه جنسيته الأصلية الموريتانية قسرا ويصبح ليس بإمكانه زيارة أبويه إلا بتأشرة كتلك التي تمنح لأي أجنبي مثله تماما !
فإذا غابت العدالة وتكافؤ الفرص في بلد ما فلن يبقى مايمكن الثناء به على نظامه الحاكم مهما كان مصدر سلطته !
أما ما يتعلق بالصحة فحدث ولاحرج فالنظام لم يضع قوانين تعد رادعة وتعاقب على أخطاء العاملين في مجال الطب أوالصيدلة ، وإن وجدت تلك القوانين فإن إرادة تنفيذها باتت شبه منعدمة حتى الآن ، ممانتج عن ذلك شبه انعدام ثقة معظم المواطنين في الطبيب الوطني ، وكذا بمايوجد في صيدلياتنا من دواء وعقاقير متنوعة !الشيئ الذي جعل الأغنياء في بلادنا يلجؤون في علاجا تهم إلى السفر نحو تونس أو المغرب أو السينغال وحتى أوربا أما الفقراء المساكين المغلوبين على أمرهم فينتظرهم -والحال هكذا -الهلاك للأسف في بلادهم بسبب عدم أخذ الدولة بمسؤولياتها تجاههم ، وذلك في الحد الأدنى على الأقل !
أما المواد الغذائية والصيدلة فيتولى توريد معظمها رجال كبار من التبتابه ترى وجوه بعضهم بيضاء تتلألؤ نضا رة ، ولحاهم تغطي معظم صدورهم سواء كانت سوداء حالكة أم هي شمطاء غامقة أو بيضاء خالصة . فالمشترك بين أولئك الرجال جميعا فهو إظهارهم للتدين وتصدرهم صفوف المصلين خصوصا أيام الجمعة والأعياد مقصرين ثيابهم ومباعدين مابين أرجلهم واسمين جباههم حيث كانت صلاتهم تلك عبارة عن مكاء وتصدية ورياء ونفاق ، بدليل كون صلاتهم تلك لم تنههم أو تمنعهم من تزوير الأدوية حين يطلبونها من الخارج ، بمقادير ومواصفات معينة تعد ناقصة العناصر الفاعلة في الدواء ونفس الشيئ يقومون به في استراد وتخزين بعض المواد الغذائية المنتهية الصلاحية في بعض الأحيان أو الناقصة لبعض مكوناتها الضرورية الأساسية وكذا تخزينها السيئ !
ونتيجة لما يقوم به هؤلاء وأولئك ، فقد انتزعت البركة من بلادنا تماما وحبس الله المطر عنا في سمائه حيث صارت أرضنا جرداء قاحلة ، وقلل قيمة عائدات معادننا ونفطنا وسمكنا وحتى عملتنا وجميع مواردنا ! كما سلط علينا الأ نقلابيو ن والتبتابه يسوموننا سوء العذاب في كل مايتعلق بعدالتنا وأرزاقناوأمننا وكلما قد تعرضنا له من طرفهم من سوء المعاملة ونقص في الموارد والأرزاق !
إلا أن كل ذلك يعود معظمه إلى جبننا نحن وتقاعسنا عن الدفاع عن حقوقنا المشروعة التي قد انتزعت منا قسرا من طرف مجمو عة التبتابه بالحيلة و بالقوة من طرف حلفائهم العسكريين ، وكذا أيضا بركون بعضنا لأ لئك الظالمين ، وربما بمساعدته لهم على ظلمهم لنا ، ذلك الظلم القاسي والمستمر كما يبدو وإلى حد الساعة ، وربما إلى أجل غير مسمى ،مالم يستقظ شعبنا من سباته العميق ويواجه واقعه المعيش كما يجب بكل حزم وصبر وأناة ثم تضحية من أجل تغيير ذلك الواقع وإلى الأفضل مسددين ثمن أسباب ذلك التغيير بكل شجاعة بما لدينا من غال ونفيس !
(يتبع)