ضمن إطار محاولة الدول الإقليمية التأثير في محيطها الجغرافي وتوسيع إطار نفوذها إلى الحدّ الأقصى الذي يمكن أن تمتدّ إليه بحسب قدرتها، تنظر الدول إلى الفضاء الذي يمكنها التأثير فيه للتمدد، والذي يقسم إلى نوعين: فضاء طبيعي، وفضاء مكتسب.
بالنسبة إلى الفضاء الطبيعي، تشكّل الثقاقة والدين والتاريخ والهوية دوراً مهماً في إنشائه، وخصوصاً أن التفاعلات ضمن هذا الفضاء تبدو طبيعية ومنطقية، ولا تثير أي حساسيات، بل تبدو نوعاً من الروابط التي تهيمن على العقول والقلوب.
أما الفضاء المكتسب، فهو ما تحاول الدولة الإقليمية أن تصنعه وتكتسبه بواسطة المساعدات التنموية والاقتصادية والتعاون العسكري والاستراتيجي وغيره... ولا شكّ في أن علاقات الفضاء الأول هي أعمق وأثبت وأكثر صلابة من علاقات الفضاء الثاني وتفاعلاته، والتي تحكمها المصلحة المشتركة، وعادةً ما تكون متبدّلة بتبدّل الأحداث والظروف الدولية والإقليمية.
من ضمن ما تقدّم، يمكن أن نرى أن للسعودية فضاءً طبيعياً في لبنان، حيث يمثل العامل الثقافي والديني بعداً مهماً في العلاقة بين السعودية والشعب اللبناني، وخصوصاً في البيئة السنية اللبنانية التي ترتبط بروابط لغة وتاريخ ودين مع المملكة.
وقد رسخّت السعودية نفوذها في لبنان تاريخياً عبر هذا الرابط بالتحديد، وخصوصاً بعد الحرب اللبنانية، إذ قام الرئيس الراحل رفيق الحريري برعاية المصالح السعودية في لبنان وتعزيزها وإكسابها أبعاداً شعبية، استطاعت معها وراثة المدّ الناصري القومي - العروبي الذي ساد في لبنان خلال الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي.
ساءت العلاقات اللبنانية السعودية في العقد الأخير نتيجة عوامل عدّة، منها الحرب في سوريا واليمن وموقف اللبنانيين منها وغير ذلك. وحصل الانكفاء السعودي عن لبنان بعد سلسلة من الأزمات، كان أولها اعتقال سعد الحريري في الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، وآخرها افتعال أزمة نتيجة حديث وزير الإعلام السابق جورج قرداحي، والتي انتهت بإجبار سعد الحريري على الاستقالة من الحياة السياسية.
واليوم، نشهد محاولات سعودية للعودة إلى لبنان من بوابة دعم القوات اللبنانية، التي تتمتع بدعم سياسي ومالي سعودي هائل. وتسعى السعودية من خلال دعم القوات إلى التأثير في نتائج الانتخابات النيابية لتغيير الغالبية النيابية لمواجهة حزب الله وعزله.
المشكلة تكمن في أن الاستثمار السعودي في دعم القوات لتحقيق هدف عودة النفوذ السعودي إلى الساحة اللبنانية، تشوبه عدّة مقاربات خاطئة ستؤدي إلى الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة سعودياً، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إذا كانت القوات هي الطرف الوحيد الذي تنطّح ووعد بمواجهة حزب الله عسكرياً، فإنَّ ذلك لا يعود إلى وجود قدرة لدى القوات في ظل عجز الآخرين، بل إلى واقعية الآخرين وعدم انجرارهم إلى إعطاء وعود غير قابلة للتنفيذ.
يشعر السعوديون بالاستياء من عدم اندفاع تيار المستقبل إلى التنطح لهذه المهمة، ولكن تجربة تيار المستقبل مع السنيورة الذي أعطى وعوداً لوزيرة الخارجية الأميركية بنزع سلاح حزب الله في العام 2005، والتي أدّت إلى حركة 7 أيار 2008، تدفعه إلى عدم إعطاء وعود لا يمكن تنفيذها، ويمكن أن تؤدي إلى حرب سنية شيعية في لبنان، سيكون الجميع فيها خاسراً.
ثانياً: بدا من التعليقات على مشاهد الإفطار الرمضاني الذي أقامه جعجع ومشهد العمائم التي أتت لمبايعته، أن محاولة تنصيبه "زعيماً للسنّة" في لبنان لن تمر مرور الكرام، ولا يمكن أن تلقى استحساناً لدى الجمهور السنّي في لبنان.
انتخابياً، هناك أجواء سائدة تشجّع على التصويت الانتقامي ضد اللوائح التي تدعمها القوات لدى السنّة، كما أنَّ أجواء جمهور تيار المستقبل تشي باتهامات فحواها أنَّ لوائح "القوات" في المناطق السنية موّجهة ضد الحريري أكثر مما هي موجّهة ضد قوى 8 آذار.
ثالثاً: على الرغم من كل محاولات القطع مع تاريخ الحرب الأهلية، ومحاولة نزع صفة الميليشيا التي رافقتها، يعيد القواتيون دائماً تذكير اللبنانيين بتاريخهم. وما إن تتاح لهم الفرصة لترويع المواطنين العزّل الآمنين حتى ينتهزوها.
خير مثال على ذلك هو اعتداء عناصر القوات اللبنانية على وزير الطاقة وليد فياض (أعزل ومن دون مرافقة في الشارع)، وقيام مجموعة قواتية أخرى بترويع المواطنين في المطاعم في العاصمة وطردهم، بحجة الحداد على ضحايا غرق المركب في طرابلس.
هذه المشاهد أعادت التذكير بالغدر والقتل الذي اعتمدته القوات تجاه معارضيها خلال الحرب الأهلية، والتنكيل بالناس العُزل كلما سمحت لها الظروف بذلك. واللافت كان محاولة تخفّي المعتدين تحت شعار "الثورة"، ما دفع العديد من رموزها إلى التنصل من هؤلاء واتهام القوات بمحاولة تشويه صورة "الثورة" عمداً.
في النتيجة، إنَّ الاستثمار السعودي والخليجي بالقوات اللبنانية طمعاً بتغيير سياسي في لبنان لا يبدو استثماراً ناجحاً، فعلى الرغم من القدرة المادية الهائلة والتنظيم والدعم غير المحدود الإعلامي والسياسي والمالي الذي تحصل عليه، فإنّ من الصعب تسويقها كقوة وطنية عابرة للطوائف، أو كقوة زعامة للمعارضة، ومن الأصعب تسويق سمير جعجع كرئيس للجمهورية (مهما كانت حجم الكتلة التي سيحصل عليها).
وبناءً عليه، إنَّ استبدال فضاء مكتسب بالفضاء الطبيعي، ومحاولة فرض زعامة سياسية خارجية على بيئة معينة، لا يمكن أن تنجح، وخصوصاً في لبنان، الذي يعيش شحناً طائفياً ومذهبياً وتقوقعاً طوائفياً يجعل من الصعب على السعودية تنصيب سمير جعجع زعيماً للسنّة في لبنان، مهما بلغت قدرتها وضغوطها.
ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية