يذكر القراء الكرام مقال “على خلفية الأزمة الروسية -الأوكرانية: يجب الخشية من كل دولة ذات ماضي حضاري..” و الذي أشرت فيه إلى : ” حين تعتزم حضارة معينة كالحضارة العثمانية مثلا أو الفارسية أو الصينية أو الروسية أو العربية-الإسلامية أو المغاربية-الأندلسية …استرجاع أمجادها التاريخية و الحضارية، فإنها حتما ستراجع حدودها الاستراتيجية و تعيد تعريف أمنها الجيواستراتيجي و ليس بالضرورة إعادة ضم أراضي جديدة ..فروسيا الحالية بحسب تصريحات زعماءها لا تسعى لضم أراضي الدول المجاورة و في مقدمتها أوكرانيا، و التي كانت تابعة لحكم الإتحاد السوفياتي السابق، و لكن لا تريد السماح لحضارة منافسة أن تقف على حدودها. فالتخوف الأمني لروسيا ليس مصدره أوكرانيا تحديدا او السلطات السياسية الأوكرانية، و إنما تخشى روسيا من تواجد قوات غربية و الحلف الأطلسي بجانب الحدود الروسية..”
و قد إختار الرئيس الروسي حسم المعركة عسكريا، فبداية قام بالتوقيع على ما يعتبره اعترافًا روسيًا باستقلال إقليميْ “لوهانسك” و”دونتسك” شرقي أوكرانيا، و كما أنه إعتمد في مفاوضاته مع الغرب على إعتماد الرسائل الضمنية و تبني نهج استراتيجية صناعة الفعل، ووضع الغرب في خانة ردة الفعل، ضمن ميزان استراتيجي متقلب في إدارة أخطر أزمة وأضخم حشد عسكري في شرق أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، من خلال تبني استراتيجية “غزو” مفادها أن الوضع في شرق أوكرانيا يستدعي نشر “قوات حفظ سلام” روسية…
و علاقة بمصطلح “الغزو” الذي تم تبنيه من قبل الغرب، أكدت المتحدثة باسم الخارجية الصينية، “هوا تشون يينغ”، أثناء موجز صحفي عقدته يوم الخميس 24-02-2022: “رفض الصين وصف العملية العسكرية الروسية بأنها “غزو”، مشيرة إلى أن هذا المصطلح متحيز” و أشارت إلى أن : “روسيا دولة كبرى وتتصرف بشكل مستقل بناء على قراراتها الاستراتيجية، ولا تحتاج إلى موافقة الصين قبل اتخاذ أي خطوات”.كما شددت المتحدثة على أن الصين تتابع عن كثب تطورات الوضع في أوكرانيا، داعية جميع الأطراف إلى “ضبط النفس ومنع خروج الوضع عن السيطرة”.وقالت إن القضية الأوكرانية لها “خلفية تاريخية معقدة جدا” ووراءها “عوامل مختلفة” كما أعلنت أن روسيا قررت شن عمليتها العسكرية في أوكرانيا بشكل مستقل دون التشاور مع بكين واعتبر بكين أن هذه العملية “ليست غزوا”…و سنحاول من خلال هذا المقال تحليل الموقف الصيني من الأزمة
أولا- عدم التدخل و الاكتفاء بالدعم الدبلوماسي
عمليا الموقف الصيني لن يخرج عن نطاق الدعم الدبلوماسي والاقتصادي، مع الحرص على تهدئة الغرب..و موقف الغرب من روسيا و الذي اكتفى بفرض عقوبات إقتصادية على روسيا دون التصعيد إلى أبعد من ذلك، بل كل وعود الغرب لأوكرانيا ذهبت مهب الريح و هو ما أكده الرئيس الأوكراني الذي صرح بأن بلاده تحارب لوحدها، فأمريكا عينها على الصين بدرجة أولى و هي تعلم أن سقف روسيا لن يتعدى أوكرانيا ، بل و تصريح بايدن و قيادات حلف الناتو بأن تدخل روسيا في دول الحلف سيؤدي حتما إلى تدخل عسكري، هو محاولة لمواجهة المعارضة الداخلية، فالرئيس بوتين نفد تهديداته و تحدى الغرب، لأنه درس الظرفية الدولية و الوضع الجيواستراتيجي العالمي جيدا ، و قام بحساب الربح و الخسارة..و قرر المجازفة بالتدخل العسكري..
و بعيدا عن العواطف، ندين التدخل الروسي في أوكرانيا، ندين إلحاق الأذى بالشعب الأوكراني و بنيته التحتية ، لكن من الناحية الجيواستراتيجة و الأمنية فإن أوكرانيا المجال الحيوي لروسيا ، و مصلحة أوكرانيا مع روسيا والقيادة الأوكرانية لم تقرأ التاريخ جيدا، و السماح للغرب بابتلاع أوكرانيا يعني انهاء روسيا كقوة عظمى بل إسقاط بوتين من السلطة..الغرب قرر الخضوع مؤقتا للإرادة الروسية و التضحية بأوكرانيا، و ربما سيحاول إغراء روسيا بالانضمام إلى الحلف الغربي و إبعادها عن الصين..
و بالعودة إلى العلاقات الروسية الصينية ينبغي وضع في الاعتبار التنافس بين الطموح الحضاري الروسي و الطموح الحضاري الصيني، فالعلاقات الروسية – الصينية تميزت على مر السنين بالغموض والتعقيد و بحالة من المد و الجزر، فعلى الرغم من تصنيفهم دائماً ضمن قطب واحد، انطلاقا من الإيديولوجية الشيوعية المشتركة في فترة الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى نظام الحكم الشمولي المتطابق في كثير من النقاط وصولاً إلى التقارب الجغرافي والخوف العالمي من احتمالية تشكيلهم لقطب واحد مضاد للقطب الغربي، لكنها شهدت تاريخاً من التقلبات بين التحالف والتنافس وحتى النزاعات المسلحة المحدودة.
و بالرجوع الى تاريخ علاقات كل من الصين وروسيا، يمكن الإشارة بأنه لا يمكن اختزالها في فترة زمنية محددة، فهي عميقة وممتدة إلى ما قبل تأسيس جمهورية الصين الشعبية. ولكن مع إعلان تأسيس الجمهورية، كان الاتحاد السوفياتي أول دولة تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين، وانحازت هذه الأخيرة إلى جانب الاتحاد السوفيتي بقيادة جوزيف ستالين باعتباره “الأخ الأكبر” من حيث الدبلوماسية والتنمية الاقتصادية وتصميم النظام، وتم عقد الكثير من الاتفاقيات في تلك الفترة بين الطرفين.
ولكن بعد أن تولى نيكيتا خروتشوف زمام الأمور، أدت التحولات السياسية في الاتحاد السوفياتي إلى حدوث خلافات بين البلدين، حيث تخلي الاتحاد السوفيتي عن موافقته على توفير التكنولوجيا النووية للصين. وبدورها، انتقدت بكين الرئيس خروتشوف واصفة علاقتها مع الغرب بـ “طاعة وعبودية مفرطة”، وهذا ما ساهم في تدهور العلاقات، إذ إستمرت العلاقات على نفس المنوال إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أخذة في التقلّب ما بين الخلاف والتعاون..
كما أن المحدد -السوفياتي-الروسي مهم و محوري لفهم تطور العلاقات الصينية الأمريكية، و في هذا السياق من الضروري التمييز بين مرحلتين : مرحلة ما قبل نجاح الثورة الماوية و ما بعدها ، فقبل قيام الجمهورية الصينية الشعبية بزعامة “ماوتسي تونغ” كانت العلاقات بين البلدين علاقات تعاون و تحالف عسكري و استراتيجي لا سيما في مرحلة الحرب العالمية الثانية، و شكل الاحتلال الياباني لتايوان و البر الصيني نقطة الارتكاز لهذه العلاقات الصينية الأمريكية فالعدو مشترك، لا سيما بعد دخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء…
ثانيا- الصين ترى في “أوكرانيا” “تايوان أخرى”:
لكن بالمقابل الصين ترى في “أوكرانيا” “تايوان أخرى” و قد أعلنت وزارة الدفاع التايوانية، اليوم الخميس، أن 9 طائرات عسكرية صينية دخلت المجال الجوي التايواني..فالصين تنظر للخطوة الروسية و تنتظر النتائج ، وربما ستحاول بدورها استغلال الأزمة و تقوم بمهاجمة تايوان واحتلالها …و قد اشرت سابقا في مقال” لماذا أرى أن دعوة القيادة الصينية شعبها لتخزين المواد الغذائية، قد يكون لها صلة بقرار غزو جزيرة “تايوان”..؟” إلى أن دعوة القيادة الصينية الشعب إلى تخزين المواد الغدائية، ليس له صلة مباشرة بالتخوف من انتشار وباء جديد و إنما رد سياسي على التهديدات الأمريكية و التحالفات الدولية التي تتشكل منذ قمة مجموعة السبع G7 في مدينة “كورنوَل” جنوب غربي إنجلترا، لذلك لا أستبعد إمكانية قيام الصين بغزو جزيرة “تايوان” و حسم المعركة مع الولايات المتحدة و حلفاءها، قد يبدو هذا التخمين بعيد لدى البعض ، لكن القيادة الصينية التي في الغالب تميل للحكمة و التأني، إلا أنها تملك ميزة غاية في الأهمية و هي قدرتها الفائقة على إقتناص الفرص، من المؤكد أن المواجهة بين الصين و أمريكا قادمة لا محالة ، و من المهم حسم قضية تايوان، فهذه القضية لها أهمية جيواستراتيجية بالغة الأهمية لمستقبل الصين، كما أن التنافس بين الصين و باقي القوى الدولية العظمى على الفضاء الرقمي و السيبراني، سيكون له بالغ الأثر في تغيير موازين القوى الدولية ، و الصين تسعى بكل ما لديها من عضلات إقتصادية و قدرات بشرية، للعب دور أساسي في تطوير وتوجيه هذه البنية الرقمية الجديدة لخدمة تطلعاتها الاقتصادية و السياسية و الثقافية، و لعل طريق الحرير الرقمي الذي تسعى الصين من خلاله إلى إعادة هيكلة نظام حوكمة الإنترنت العالمي، و الاستثمار الكثيف في بناء شبكات الجيل الخامس مع التركيز على دعم التكنولوجية المحلية و بعقول صينية، كلها خطوات عملية لتنفيذ التطلعات الصينية، و أعتقد أن الصين تتجه بثبات نحو فرض أجندتها على العالم قريبا، و ضم تايوان يسهل مهمة الصين في السيطرة على الفضاء الرقمي و السيبراني…
أعود و أؤكد أن العلاقات الصينية الأمريكية أصبحت شبه محسومة، فقبل أيام صرح الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض أن الرئيس “بايدن” لازال متمسكا بضرورة معرفة منشأ فيروس كورونا، و يلمح البيان إلى الصين، و هذا يذكرنا بموقف الرئيس الأمريكي السابق الذي سمى فيروس كورونا بالفيروس الصيني، الاستراتيجية الأمريكية تستهدف فرملة الصعود الصيني ، لكن الأهم و الأخطر بنظر الاستراتيجية الأمريكية هو التحالف الإستراتجي بين الصين و روسيا…
فالصين لها مشروع واحد عابر للحدود و هو مشروع الحزام وطريق الحرير، و الصين تدرك جيدا أن التفوق التقني والاقتصادي هو الطريق القادم في المستقبل للسيطرة والهيمنة على العالم، و لعل هذا التوجه الصيني هو نتيجة للاستفادة من درس شريكها التقليدي “الاتحاد السوفيتي سابقا” و كيف أن الاتحاد السوفيتي بالرغم من أنه قوة عسكريا متفوقة، لكن ضعف الأداء الاقتصادي قاده إلى الانهيار و التفكك، و هو ما تخشاه القيادة الصينية و التي منذ إطلاق إصلاحات 1978 أصبحت شرعيتها مستمدة من فعالية النمو الاقتصادي و شرعية الإنجاز فكلما وسعت خيارات الشعب الصيني إقتصاديا و اجتماعيا إلا و إحتفظ الحزب الشيوعي بالسلطة..
لذلك، أرى أن موقف الصين سوف يتجه نحو التهدئة و الابتعاد قدر الإمكان عن التصعيد، مع محاولة ضمان تحالفها مع روسيا دون التفريط في علاقاتها مع الغرب عموما و أمريكا خاصة، فهي تدرك أنها مستهدفة لكن الصين لها حساباتها الخاصة، و انهيار النظام المالي و الاقتصادي العالمي سيضر بمصالح الصين على المدى القريب و المتوسط، و القيادة الصينية تدرك أن المواجهة قادمة حتما، لكن ترغب في تأجيلها قدر الإمكان…و هو ما سنحاول تفصيله في مقال موالي إن شاء الله تعالى … و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…
د. طارق ليساوي إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة.