بسبب السياسات القطرية التي تنتهجها الأنظمة العربية، تشتتت الثقافة العربية ولم تعد كلا متكاملا يجمع العرب. تعمدت أنظمة الحكم العربية صناعة ثقافات قطرية محلية بمعزل عن مجمل ما يمكن أن نطلق عليه الثقافة العربية، وذلك لتكريس التجزئة العربية وإبعاد خطر الوحدة العربية عن أنظمة التجزئة والانفصال والتشتت. صحيح أن الاستعمار تعمد تفتيت الوطن العربي، وعمل على تصميم الإقطاعيات العربية بطريقة تقود في النهاية إلى خصومات ونزاعات بين الأقطار العربية، وربما إلى حروب. هدف الاستعمار الغربي كان وما زال واضحا وهو الإبقاء على الأمة العربية ضعيفة مفتتة غير قادرة على مواجهة التحديات، وكان ضمن اهتمامه منذ البدء أمران وهما: الحيلولة دون وحدة عربية أو إسلامية تشكل كتلة حضارية جديدة تنافس الدول الغربية، والاطمئنان على مستقبل الوطن القومي اليهودي في فلسطين. مزق الاستعمار الوطن العربي، ونصب على أغلب الأجزاء حكاما يسهرون على التمزيق ويحولون دون تقارب الأقطار العربية إلى حد الوحدة. فلتت مصر وسوريا يوما من العقال وتوحدتا تحت راية الجمهورية العربية المتحدة، لكن تلك الوحدة واجهت حربا إعلامية شعواء ومؤامرات من قبل أهل الغرب وعدد من الأنظمة العربية إلى أن انهارت. وقد ساعد سوء تصرف المسؤولين في الجمهورية العربية المتحدة على ذلك الانهيار.
دور الأنظمة العربية كان مكملا لدور الاستعمار. الاستعمار فتت الأوطان، والأنظمة العربية مزقت الأمة، وحولتها إلى شعوب متخاصمة في كثير من الأحيان. منذ البدء، عمل كل نظام عربي على صناعة ثقافة محلية خاصة منفصلة إلى حد كبير عن الثقافة العربية عموما. طبعا من الصعب الإمساك بحدود الثقافة العربية كما هو الأمر بالنسبة لكل ثقافات العالم. لكن الواضح أن الأنظمة العربية تعمدت صناعة هموم وآلام وآمال وتطلعات قطرية جديدة منفصلة عن تطلعات واهتمامات العرب أجمعين.
بدأنا بعد الحرب العالمية الثانية، وربما قبل ذلك بسنوات، نتحدث عن الوحدة العربية والقضايا التي تشغل بال العرب. تصدر اهتمامات العرب قضايا: الوحدة العربية وقضية فلسطين والتحرر من الاستعمار وإعادة بناء الحضارة العربية الإسلامية. اهتمت الشعوب العربية بجمع الشمل وإقامة أمة عظيمة تساهم في الحضارة العالمية وتنافس الحضارات الأخرى بالأخص الحضارة الغربية. لكن هذا الاهتمام أخذ بالتراجع، وأخذت الشعوب تركز على همومها الخاصة دون الهم العربي العام. وقد نجحت الأنظمة العربية بمخططها الذي قضى بإشغال العرب بلقمة الخبز وتعليم أطفالهم ومكافحة الأمراض والجهالات التي تلاحقهم. وإذا كان العربي يعاني من البطش ومن الجوع والجهل والمرض، فإنه من الصعب أن ينشغل بوحدة الأمة أو قضية فلسطين، أو قضايا التخلف العربي، وقضايا قمع الإنسان وقهره وملاحقته من قبل أجهزة الأمن العربية. وركزت الأنظمة العربية على توليد أعداء عرب لها، ووصل بالأمة الأمر إلى حد الاقتتال بين الجيشين الجزائري والمغربي، السوداني والمصري، الأردني والسوري، والتحالف السعودي والمقاومة اليمنية، الفصائل اللبنانية والفلسطينية . ونشبت حروب داخلية في لبنان والأردن والعراق وليبيا، وتولدت خصومات داخلية في عدد من البلدان العربية مثل مصر والجزائر والبحرين واليمن.
أساءت الأنظمة العربية للشعوب العربية، وللثقافة العربية الإسلامية، ومارست الإرهاب والإرعاب ضد الشعوب، وصنعت الأزمات التي يمكن أن تساهم في بقائها في الحكم. وقد تخلت أغلب الأنظمة العربية عن فكرة الوحدة العربية نهائيا، وتم التستر على هذا التغييب أحيانا بشعار التضامن العربي، وأحيانا أخرى بشعار العمل العربي المشترك. وتخلت أغلب الأنظمة عن قضية فلسطين وقضية نهر النيل، وقضايا المغرب العربي الموحد، وبلاد الشام الموحدة. حتى بلاد الشام اعترفت باتفاقية سايكس بيكو المشؤومة من الناحية العملية وعمل بعضها مثل سوريا والأردن على ترسيم الحدود فيما بينها. وذهبت أقطار الشام إلى مؤتمر مدريد عام 1991 بوفود تفاوضية منفصلة اعترافا منها بالاستقلال واستبعاد فكرة وحدة أرض الشام.
إذا كان لنا أن نرصد سفاهة الحكام العرب وتآمرهم على الأمة العربية، يكفينا الحديث عن إقامة ثقافات عربية ممزقة وكل ثقافة تتمحور حول الهموم القطرية وليس الهموم القومية والإسلامية الجامعة. وجرّت هذه الثقافات معها عملية التجهيل وإشغال الناس بهموم يومية مثل لقمة الخبز وأمراض الأطفال ونقص المواد الغذائية والمياه. أجرمت الأنظمة العربية بحق الأمة وما زال إجرامها مستمرا حتى الآن، ولا اظن أنه سيتوقف ما دامت هذه الأنظمة قائمة وهمها الأوحد المحافظة على كراسي الحكم.
وبسبب ما مثلته الأنظمة العربية من أخطار على الأمة العربية بمختلف مكوناتها العرقية والدينية وعلى المسلمين عموما، أرى أنه من الضروري أن يتجمع بعض مفكري ومثقفي الأمة العربية لكتابة كتاب بعنوان الحفاظ على الثقافة العربية وتطويرها في مواجهة تآمر الأنظمة واستهتارها بمستقبل الأمة. صحيح أن أنظمة العرب لن تغير من سلوكها المشين ولن تقرر الخروج من تحت عباءة الدول الاستعمارية بخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الكتاب يمكن أن يكون صرخة تصل إلى الجماهير العربية لتجتمع جميعها حول ثقافة عربية واحدة. من الوارد أن يساهم الكتاب في بث الوعي في صفوف الشعوب العربية، وأن يساهم في بناء الوعي بالمصير الواحد والتطلعات الواحدة، ويحفزها نحو بناء الأمة بدل الانصياع لمؤامرات الحكام.
وأقترح أن ينقسم الكتاب إلى الفصول التالية:
التعريف بالعرب من ناحية التاريخ والعرق والتركيبة الاجتماعية وأسس الثقافة العربية على مر الزمان؛
المراحل التاريخية التي مرت بها الثقافة العربية ومكونات هذه الثقافة؛
مواطن الضعف والقوة على المستوى الجمعي في الثقافة العربية؛
مكونات وأسس وعناصر الثقافة العربية في العصر الحديث. أي منذ محمد علي باشا حتى الآن؛
الأطماع الاستعمارية في المنطقة العربية وأساليب السيطرة؛
ثقافة التحرر العربية والوحدة والبناء الحضاري؛
سياسات الأنظمة العربية في طمس الثقافة العربية؛
أسس الثقافة الإسلامية الجامعة للأمة العربية؛
إعادة بناء الثقافة العربية في مواجهة تحديات الاستعمار والأنظمة؛
بناء منظومة قيمية أخلاقية عربية.
الباب مفتوح أمام مختلف الاقتراحات إلا من اقتراحات الإحباط والإصرار على الخيبة. أستقبل الاقتراحات لتحسين ما أطرح بالأخص فيما يتعلق بفصول الكتاب الذي من المفروض أن يكون كتاب يد لكل عربي. والهدف في النهاية هو تطوير وعي عربي عام بأننا أمة واحدة ولا مستقبل لنا بدون الوحدة.
وبعد تلقي الاقتراحات والتنقيح، سيتم الطلب إلى مثقفين للكتابة حول أحد مواضيع الكتاب. وكل بحث تتم كتابته سيخضع للتقييم العلمي من قبل محكمين اثنين.
والخطوة النهائية بعد مراجعة مختلف المواضيع القيام بعملية النشر والتي سأتولى مسؤوليتها.
وأذكر الجميع أن اليهود تشردوا على مدى طويل من الزمن، لكنهم اجتمعوا على ثقافة واحدة وهي الثقافة التي تستند إلى التوراة التي بين أيديهم والتي يسميها بعضهم العهد القديم. من الضروري أن تتطور لدينا ثقافة تجمعنا. هناك ثقافة إسلامية تجمع أغلب العرب، لكن هناك من أفسدوا الفكرة الإسلامية بأعمالهم الخارجة عن المقاصد الإسلامية وأساؤوا للإسلام والمسلمين.
عبد الستار قاسم/ كاتب فلسطيني