السيد نعمان قورطولموش نائب رئيس الوزراء التركي اختار لقاءا جمعه مع عدد كبير من الصحافيين العرب والاجانب لكي “يبشرنا” بأن منطقة “الشرق الاوسط” مقبلة على تقسيم جديد كتقسيم “سايكس بيكو” الشهير، الذي جرى رسم حدود الدول فيه بالمسطرة والقلم بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، وانهيار الامبراطورية العثمانية لصالح الدول الاستعمارية الغربية (بريطانيا وفرنسا).
نائب رئيس الوزراء التركي فسر نبوءته هذه بشكل اكثر وضوحا عندما قال ان العراق سيقسم الى ثلاث دول، وليبيا الى دولتين، واليمن كذلك، ومصر ستتقسم ايضا الى كيانين، اما سورية فستقسم الى عشرات الاجزاء.
لم يقل لنا السيد قورطولموش ما اذا كان يقدم لنا تحليلا يأتي نتيجة استقراء للامر الواقع على الارض، ام ان اقواله وبنوءاته هذه جاءت استنادا الى معلومات مؤكدة استقاها من الدوائر الغربية وحلف الناتو، ذراعها العسكري الذي تتمتع بلاده بعضويته، وايا كان المصدر فان ما تفضل به ينطوي على الكثير من الاهمية والخطورة معا، علينا كعرب بالدرجة الاولى، وبعد مرور مئة عام بالتمام والكمال على “سايكس بيكو” الاولى.
توقيت تصريحات السيد قورطولموش يستمد اهميته ايضا من تقارير ايرانية جرى تداولها في الايام الثلاثة الماضية تحذر من مخطط تركي سعودي قطري يرمي الى اقامة دولة في شمال غرب سورية تكون مدينة حلب عاصمة لها، في خطوة تمهيدية لحصر النظام السوري في منطقة الساحل الشمالي، حيث مخزون التأييد الرئيسي له بعد ان فشلت محاولات اسقاطه عسكريا.
وما يضفي بعض المصداقية الى هذه التقارير الايرانية تكثيف دعم المثلث السعودي التركي القطري للمعارضة السعودية المسلحة بالمال والسلاح في الفترة الاخيرة، مما ادى الى استيلائها على مدينتي ادلب وجسر الشغور والاستعداد لخوض معركة الاستيلاء على مدينة حلب، مع الاخذ في الاعتبار ان “الدولة الاسلامية” تقوم حاليا على معظم الشرق السوري، في الرقة ودير الزور والحسكة.
وكان لافتا ان “انتصارات” المعارضة المسلحة تعززت امس من خلال نجاحها في السيطرة على اكبر قاعدة عسكرية متبقية للنظام السوري في منطقة ادلب وهي قاعدة “المسطومة” واستيلاء قوات “الدولة الاسلامية” على شمال مدينة تدمر السورية الاثرية، وتزايد امكانية سيطرتها على كل المدينة في الايام المقبلة.
فاذا كانت سورية ستنتهي الى عشر دول في اطار مخطط “سايكس بيكو جديد” الذي تحدث عنه نائب رئيس الوزراء التركي الجديد فإن الثلاثي التركي السعودي القطري ضالع فيه بشكل مباشر او غير مباشر، سواء بدعم المعارضة المسلحة او الصمت عليه، وعدم التبصر بنتائجه او الاثنين معا.
اللافت ان تركيا كدولة نجت من مخطط تقسيم “سايكس بيكو” للامبراطورية العثمانية، وجاء هذا المخطط على حساب المنطقة العربية التي خضعت، او اخضعت، للاستعمار الغربي من خلال رسم حدودها الجديدة، وتقسيمها بين فرنسا وبريطانيا، ويبدو ان مخطط “سايكس بيكو” الثاني سيجهز على العرب ودولهم القطرية مرة اخرى، من خلال تفتيتها الى كيانات هشة صغيرة ضعيفة، غير قادرة على حماية نفسها، مما يجعلها تتطلع للحماية الخارجية والغربية خاصة.
مخطط التفتيت هذا لا يشمل ايران وتركيا واسرائيل، القوى الاقليمية العظمى الرئيسية في المنطقة، ويتركز على الدول العربية فقط، ومن المؤلم ان دولا عربية مثل قطر والسعودية اللتين تورطتا في حروب في ليبيا واليمن وسورية والعراق تشارك فيه بحماس غير مسبوق، وتوظف كل امكانياتها في خدمته انطلاقا من موقفها المعادي للنظام السوري، ورغبتها في اطاحته مثلما ساهمت في اطاحة انظمة اخرى في الدول المذكورة آنفا.
واذا كانت الدول العربية تقف في طابور “التقسيم” والتفتيت، ونحن نرى بواكير نتائجه عمليا على الارض، فاننا لا نعتقد ان الدول الاخرى ستكون “محصنة” من تبعاته، وخاصة ان تركيا التي جاءت تركيبتها الديمغرافية والجغرافية والمذهبية مشابهة لدول جوارها مثل سورية والعراق وايران نفسها، فنجاتها لو جزئيا من “سايكس بيكو” الاولى قد لا يعني نجاتها من الثانية.
احتمالات التقسيم وفق المخطط الذي تحدث عنه السيد قورطولموش كبيرة بالنظر الى القوى التي تقف خلفاها، والدعم الذي تحظى به من الولايات المتحدة الامريكية والدول الاوروبية الاخرى، وما يعززها ايضا ان الشعوب العربية “مغيبة” عن الوعي هذه المرة، ملثما كانت مغيبة في المرة الاولى، مع فارق اساسي وهو ان لا عذر لها الآن، ولا تستطيع نخبها ان تبرر الغيبوبة الثانية بغياب التعليم والسيادة وانعدام وسائل الاتصال الثقة بالغرب، وعدم رؤية مخططاته الاستعمارية والتقسيمية.
نحن في هذه الصحيفة “راي اليوم” وقفنا منذ اليوم الاول ضد مخططات التقسيم والتفتيت هذه، وحذرنا منها قبل اربع سنوات، وسنستمر في تبني الموقف نفسه، لان التاريخ لن يرحم اي مقصر او متواطيء مع هذه المخططات، فما زلنا نعاني من اتفاق “سايكس بيكو” الاول، وعدم تصدي اجدادنا له، ولا نريد تكرار الخطأ نفسه مرة اخرى بأيدي بعضنا، خسرنا كرامتنا ووحدتنا وفلسطين في الاتفاقات الاولى، ولا نريد خسارة امننا واستقرارنا، وما تبقى من سيادتنا وعروبتنا في “سايكس بيكو” الثانية.
“راي اليوم”