الإحتواء والتشكيك والخداع

خميس, 2024-07-04 20:39

في زمن “كورونا” تم احتواء المجتمعات عن طريق العزل.  كلنا تمنطقنا بالكمامات و القفازات والعزل الإجباري، تماماً كما تغلف شيئاً تود الاحتفاظ به من عثرات الزمان. ولليوم تنطلق حملات التعريف بما حصل لنا؛ أو هي حملات التجهيل؟ هل بدأ الوباء في خُفَّاشِ الصين أم مختبرات أمريكا؟ وهل كانت اللقاحات ضروريةً أم ملوثةً بنانوياتٍ تسبب العقم؟ هل كانت الكمامة والقفاز والعزل ضروريةً أم لا؟ ستبقى هذه الأقاصيص الحقيقية والمزيفة تترددُ علينا. لكننا في شهورٍ من حياتنا تم فعلاً احتوائنا  بالعزل و إخضاعنا بالنظريات الصحيحة والكاذبة و التشكيك حول الكورونا.

ثم ها هي غزة والعرب! حكاية الاحتواء والتشكيك والخداع الجديدة.

حُمَّى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ المجيدة أصابتنا من فورها.  وما تلاها من مجزرةٍ وصمودٍ كان يرفع من حرارتنا و يدنيها، فتارةً النصر أقرب وتارةً اليأس هو الأقرب. ثارت الجماهير وانتشرت المظاهرات والتبادلات الإعلامية.  العَلَمْ و المثلث الأحمر وشرحة البطيخ والكوفيات والأهازيج صارت سِمةً للمؤيدين الذين استثارتهم الدماء الفلسطينية.  في المقابل ابتدأت الهجمة المضادة التي تكونت من إعلامٍ مُشَكِّك وقيودٍ حكوميةٍ استُخدمتْ فيها فتنة الطائفة والعِرْقْ.   عند الغرب كان يكفي وصف التأييد لغزة وفلسطين باللاسامية والأسلمة الإرهابية أو اللاأمريكية أو اللاوطنية الأوروبية.  كان التخويف من المتظاهرين يمتد من مؤسسات الجامعات للحكومات والإعلام وجوبه المحتجين بالطرد من دراستهم والاعتقال المؤقت أو الغرامات المالية وبالتشويه لهم وللقضية التي يتظاهرون بشأنها، بالتوازي مع تبييض صفحة الصهيونية والمستعمرين والدفاع عن حق الصهيونية شن حملات الإبادة ضد الهمجيين الفلسطينيين.  كان الهدف هو احتواء المتظاهرين ومؤيدي فلسطين عموماً وتجهيل الرأي العام.  تنطلي هذه السياسة على جمهورٍ غير مطلعٍ على قضية فلسطين أو غير مهتمٍ والمتصهين، ولكن الحملة لم تنجح تماماً فقد هزمها سيل الدم الفلسطيني فكان الاحتواء صعباً ومحرجاً خاصةً مع قرارات المحاكم الدولية وانكشاف الجريمة الصهيونية. فصار المطلوب إضافةً للاحتواء و للتشكيك هو السماح باستمرار المذبحة عبر الدعم العسكري و السياسي الصهاينة بموازاة اختراع حلولٍ سياسية تنصر الصهيونية وتهزم المقاومة لكي لا تقوم لها قائمة.  وهو ما يدور اليوم بحذافيره.

عربياً، كانت المفاجأة ليست في سَوْرَةِ الغضب بل في سكون العرب. لم يستدعِ الأمر جهوداً كبيرةً للاحتواء والتشكيك والانضمام لجوقة الباحثين عن حلولِ السياسة على حساب المقاومة. معظم الدول العربية فَعَّلَتْ هذا الأسلوب.  بلادٌ قَنَّنَتْ المظاهرات وبلادٌ منعتها و بلادٌ لاحقت النشطاء وبلادٌ لم يجرؤ فيها كائنٌ أن ينشط. سقط على الجميع غلافٌ ثقيلٌ عزلَ المتظاهر في مكانٍ وزمانٍ لا يتجاوزه و منع الأغلبية من أن تتفاعل بالتظاهر مطلقاً وإن فعلت فتلاقي عقوبةً لا تُنسى.  وهكذا صار التعبير عن الرأي بالتظاهر كأنه مثل اللعب بتلك الكرة الزجاجية التي تهزها وتخضها فيطير داخلها شبيه الثلج و سرعان ما يترسب وتضع الزجاجة مكانها. أما التشكيك فأخذ مناحٍ مخزيةٍ ومحزنةٍ.  وقفت الدولة العربية مع الشعب الغزاوي في مذبحته وليس مع مقاومته.  المساعدات للناس، إن وصلت وكلنا شاكرين لمرسليها، لكن ولا رصاصةً واحدةً للمقاوم عبر العرب. مبدأ الدولة العربية هو تغذيةَ الغزاويين بما يصل لهم من إرسالياتٍ مع تركهم لمصيرهم بمواجهة الجيش الصهيوني.  كان هذا هو الاحتواء للداخل الساخط وللغزيين الضحايا. أما التشكيك فاتَّبَعَ نسقين.  التفرقة بين المواطن الغزِّي الضحية و المقاوم الغزِّي “المذنب” لأن الأخير استثار الصهيوني ولو أنه لم يفعل لما ذُبحَ مائة ألف غزَّاوي. ثم رَبْطَ المقاوم بالمذهبية أو النفاق كونَ مناصريه هم حزب الله وأنصار الله وإيران وجهاتٌ عراقية مذهبها شيعي، فيم يتخلف السُنَّةَ عن نصرته.  وكأن هؤلاء (مع تحفظي على غلواء مذهبية لا تخفى) لا يخوضون حرباً ضاريةً مع الصهيونية وأعوانها. فأصبح تشويهَ المقاوم الفلسطيني تصنيفُهُ حليفاً باللبناني من الحزب واليمني من الأنصار مع اشتراكهم جميعاً في شرفٍ لا يناله إلا الصادقين، وكلهم من الشاهدين.  وهكذا ذُنِّبَ الفلسطيني، و شُكِكَّ لمذهبهِ المقاوم اللبناني واليمني.  مشى التجهيل مسافاتٍ طويلة حتى في خطبة الجمعة، فالدعاء فيها، إن سمحت الدولة، للغزّّاوي فقط، وشكراً عليه. أما الدعاء للبناني واليمني فلا.  ثم الخداع الذي أتى بالسياسيين لكي يوقفوا الحرب و الذين وضعوا ثقلاً على المقاوم ليتنازل كما يطلب الأمريكان رغم الإصرار الصهيوني المتواصل المتكرر أنهم ماضون في الحرب للقضاء على المقاومة في غزة ولبنان وربما اليمن التي يقصفها الحلفاء الأمريكيون والبريطانيون يومياً.

الإحتواء والتشكيك والخداع سياسةٌ اتّبعتها عديد الدول العربية و الغربية مع  الشعوب والمقاومة، ولكن وصولاً لأي هدف؟  الواضح أن الدول العربية لا تريد “التورط” في نزاعٍ ضد الصهيونية و تفضل التصالح معه لكنها في ورطةٍ من نوعٍ صاعقٍ. فالصهيوني أثبتَ أنه دمويٌّ مخيفٌ والعرب طالبي وُدِّهِ يخافونه لهذا ولا يستطيعون صدَّهُ. و هذه هي معادلة المهزوم نفسياً التي ترافقها خيبة الأمل الخالدة، أن يرتمي الإنسان في أحضان من يستطيع و يريد تدميره. و الهدفُ هو إنهاءَ المقاومة التي تُنَّغِصَ جو السلام المهزوم، ويأتي التنفيذ بمزيج الاغتيالات الصهيونية والحروب والحصار متعدد الأشكال والتشويه، وبالتصريح الخفي للأصدقاء أن لا عرباً رسميون مع المقاومة.  والهدف هو خلق توازنٍ بين عالمي سُنَّةَ العرب و الشيعة أينما كانوا يقوم على برزخٍ بينهما فلا يبغيان، مع استشراس عُنصريةِ الطرفين رغم ما يظهر من طراوةٍ سرعان ما تبددها الأقوال و الأفعال من الطرفين.

واقعٌ عربيٌ و دوليٌ يتبادلون فيه الأدوار ونعيشهُ متمسكين بأهداب الأمل بالمقاوم أن يجعل على يديه النصر.   الله أعلمُ أين يضعُ نصرهُ ومع من لكن الاقتناع البشري الأليم لدينا أن دولنا العربية أبعدَ ما تكون عن هذه العَطِّيَةِ الإلهية والكرامة الربانية في ظل سياساتها لإحتواء الحق والتشكيك فيه وخداعنا.  وأن المقاوم السُنِّي و الشيعي يقاتلان عدواً تم تعريفهُ بالعداوة لنا بلا منازع.  فلندعهما يقاومان ولندعمهما بما نستطيع، على الأقل بالدعاء لهما بالتوفيق والهداية والنصر، ونترك لربهما أن يحكم على صدق إيمانهما.  فمن غير المعقول أن نؤيد و نحتضن جنوب إفريقيا في دعواها القانونية ولا نؤيد المقاومة و حقها في مقاومة المستعمر الذي هو أساس الدعوى!

علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق

الأردن