كفى كذبا واستهتارا وصناعة للأصنام... / محمد ولد الطالب ويس

خميس, 2015-10-22 10:52

لو لم يكن البرزخ الشنقيطي معزولا عن امتداده العربي الإسلامي لما وُجد مصطلح عصر الضعف لأن الضعف الذي عرفه الشعر وحتى الفقه في المشرق العربي الإسلامي لم يعرفاه في هذه الأرض التي كان الشعر فيها ينبت بداهة وارتجالا إلى جانب الفقه والسيرة والحديث، حتى عُرفت الأرض بأرض

المليون شاعر وبأرض الرجال الموسوعات، ولو لم يكن البعد عزل شنقيط عن محيطها العربي لما كانت انطلاقة النهضة مع الثالوث المشرقي : البارودي وشوقي و الرصافي،  بل لكانت مع الثالوث الشنقيطي : ولد الطلبة و ولد محمدي و ولد الشيخ سيديا إذ أن نصوص ثالوثنا سبقت نصوص الثالوث المشرقي زمانا وفازت عليها لغة وبيانا، إلا أنها مع ذلك كانت أنقى وأصفى لأنها نبتت في بيئة بكر لم يتطاير عليها رذاذ العثمانيين ولا الفرس ولا حملات نابليون ولا غير ذلك، هكذا كنا بلاد شنقيط بلاد العلم والنقاء والشعر والصفاء والصدق والوفاء، ولأننا هكذا كنا كان الغير يجلنا ويحترمنا، كانت الجارة الجزائر بجوارنا تعرف ببلاد المليون شهيد لأنها قدمت أبناءها في سبيل الاستقلال لما آنست من المستعمر تشبثا وتمسكا بها، أما نحن فكنا نُعرف بالشعر والعلم ولم نعرف بالمقاومة كما يحلو للبعض اليوم أن يقول، وأصبحنا ـ مع الأسف ـ موريتانيا، وبتغير الاسم تغير كل شيء، وبدأ الزيف والمسخ والافتراء وراجت صناعة الأصنام.
إن موريتانيا لم تكن موجودة بهذا الاسم وعلى هذه الحوزة الترابية قبل فرنسا وأطماع كبلاني، وفرنسا أوجدت موريتانيا ومنحتها هذا "الاسم الروماني الهزيل" ليس رحمة بأهلها ولا تكرما عليهم بل لأن فرنسا دولة استعمارية توسعية منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم، وإن كانت فرنسا تركت في بعض مستعمراتها بقايا عمران، فإنها نهبت من تلك المستعمرات أضعاف ما تركت، أما موريتانيا فلم تترك فيها ما يستدعي البكاء على كبلاني ونظم القصائد في مدحه ورثائه رغم أنها نهبت البر والبحر وأثقلت كواهل الناس بالضرب والضرائب والسجن والاحتقار، فالذين يتباكون اليوم على فرنسا يحتقرون  أنفسهم من حيث لا يشعرون، من ناحية ثانية فإن الذين هبوا لمقارعة فرنسا ومحاربتها ويصر البعض على تسميتهم "مقاومة وطنية" فإنهم ربما ليسوا مقاومة وطنية، لأن المقاومة الوطنية تستدعي وعيا مدنيا و تتطلب وجود وطن والإيمان به حتى يتم الدفاع عنه بشكل منظم وهذا الشكل المنظم الذي له أهداف محددة وهي تحرير وطن مغتصب هو ما يمكن أن يطلق عليه مقاومة وطنية، الشيء الذي لم يحدث، فلم يكن لدى هؤلاء وعي مدني ولا أحتاج تقديم الدليل على ذلك ولم يكونوا يشعرون بالانتماء لوطن موحد يسمى "موريتانيا" أو "س" أو "ص" بل كانوا إمارات وقبائل لا تتجاوز رؤية الواحدة منها ما تحت أقدامها، ولم يكن قتالهم لفرنسا قتالا منظما منسقا، وما حدث بالضبط هو مناوشات منعزلة بين أفراد أو مجموعات وحاميات أو قواعد فرنسية، وهذه المجموعات أو الأفراد لا تنسيق بينها مما يدل على أنها إنما اشتبكت مع الفرنسيين دفاعا عن مصالحها التي تضررت بفعل وجود هذا الدخيل الغريب، أو دفاعا عن الملة والدين لأن هذا الدخيل الغريب كافر والكافر يجب قتاله إذا صال على  الأرض المسلمة، ويكون بذلك قتال الفرنسيين والتصدي لهم جاء لدافعين لا ثالث لهما، فالدافع الأول هو المحافظة على المصالح التي تضررت بعد دخول الفرنسيين وخصوصا لدى المجموعات التي كانت تعتمد على الغزو و الإتوات في معاشها لأن الفرنسيين احتكروا هذه النشاطات لأنفسهم ولم يعودوا يسمحون بها لأي كان تحت ذريعة الحفاظ على الأمن، أما الدافع الثاني فهو قتال الكفار الغزاة، وبذلك يكون قتال الفرنسيين ـ والذي استمر لفترة قصيرة وكان متقطعا خلال تلك الفترة ـ إما دفاعا عن المصالح الضيقة وتلك هي الغالبية وإما جهادا في سبيل الله، وبذلك تكون "المقاومة الوطنية" خرجت من هذا كله، إلا أننا نحن تعودنا على تلميع الصدإ وتبييض الفحم والمغالطة، فكما أننا نحن من صنعنا أنسابنا والتي أرجعناها في مجملها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وجعفر وعلي وعبد شمس، فإننا كذلك نصنع أمجادنا بالكلام حتى نتأكد فعلا أنها أمجاد نستميت في الدفاع عنها، فندرج في كل طبعة جديدة لكتاب التاريخ أسماء جدد لأجدادنا أو لأجداد أقاربنا أو لأجداد من تربطنا بهم مصلحة وقد نتاجر بذلك،!
في نهاية السبعينات كنا ندرس " المعارك وأبطال المقاومة" في كتاب التاريخ الطبعة الأولى والتي غُيبت نهائيا في زمن معاوية، ورغم أن عنوان هذا الدرس فيه مغالطة سياسية طبعا، إلا أن الذين أُدرجت أسماؤهم كأبطال للمقاومة كانوا قليلين جدا، أما اليوم فقد كثرت هذه المعارك وكثر أبطالها كثرة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة والمبادرات الداعمة لرئيس الجمهورية سواء من هو، وذلك لأن كل طبعة جديدة تدرج فيها أسماء جديدة لحاجة في نفس المؤلف،! فنحن نعبث بكل شيء، لا شيء إلا وتطاله يد العبث: التاريخ الجغرافيا الماضي الحاضر والمستقبل، لذلك لا غرابة إذا طالعنا أحدهم في إحدى الشاشات وتبجح علينا بأن آباءه طردوا عنا المستعمر ونحن نعلم ويعلم هو ـ والعهد منا قريب ـ أن آباءه لم يفعلوا ما فعلوه ليطردوا المستعمر، وأن المستعمر في النهاية لم يُطرد وإنما خرج من تلقاء نفسه بعد أن طلبنا نحن منه أن يبقى فينا سنتين وألاك على ذلك من الشاهدين،! أو يطالعنا آخر ليقول لنا إن فرنسا جاءت وليس لها من الأهداف إلا أن تطعمنا من جوع وتؤمننا من خوف وأن المجاهدين حقا الذين تصدوا لها واضعين أرواحهم في أكفهم ابتغاء مرضاة  الله  كانوا جهلة ظلاميين حاربوا النور الذي جاء به كبلاني وسكبوه في الصحراء لتبقى في جهالتها الجهلاء، كل هذا التناقض يدل على أن ماضينا منذ أن دخلنا المستعمر، دخله التحريف والزيف والكذب، وبدأنا منذ ذلك الوقت تلميع الصدإ وتبييض الفحم، فجعلنا من كل مَن حارب الفرنسيين أو غيرهم لأهداف تخصه بطلا للمقاومة، كما جعلنا المجاهدين في سبيل الله ظلاميين أعداء للنور المطل علينا من الغرب !، وبدأنا نعبد الأصنام فجعلنا من ولد داداه "وُدا" ومن ولد السالك "سُواعا" ومن ولد هيدالة "يغوثا" ومن ولد الطايع "يعوقا" وأخير من ولد عبد العزيز "الجنرال نَسرا" ويحاول المرجفون في عهد كل صنم أن يجعلوه الإله المقتدر، المعز المذل، الخافض الرافع، الطاعم الكاسي، والغريب أن المرجفين هم أنفسهم في كل عهد ومع كل صنم، أما كيف يبدلون الجلود فتلك تقنية من تقنيات الالتصاق الغريب، يضيفونها إلى نظرية "اكذب اكذب يتحول كذبك صدقا"، فيكذبون ويكذبون حتى يتصوروا الكذب حقا فيستميتون في الدفاع عنه ليقنعونا أن العهد عهد الرشيد والعيش الرغيد رغم أننا نرى ونسمع ونلمس ونتنفس بل ونتذوق بمرارة بؤس العهد وتعاسته، فنلجأ لتكذيب حواسنا والاستسلام لحلم الرخاء، وزيف الحياة والاستئناس بالنزر القليل من "المنجزات" والتي يتبجح علينا كل نظام بأنه أنجزها وكأنما أنجزها مما ورث على أبيه.