الصدق منجاة و لو كان فضيحة

خميس, 2023-02-16 01:45

صَدَقَ محافظ أريحا حين قال: “ماكو أوامر بالمقاومة”. نستطيع فقط أن “ندعي عليهم”. الصراحة راحة و الرجل كان صادقاً فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. تذكرتُ حين سمعتهُ والي ولاية جنوب كردفان في السودان التي كنتُ أزورها و في سيارته الرسمية الفارهة من نوع تويوتا لاندكروزر ذات الرائحة العطرة و الفرش الوثير اشتكى لي الرجل عن حالة الطلبة الذين يمشون كيلومتراتٍ طويلة لمدارسهم. ثمن سياراتُ موكبهِ كانت تكفي لشراء حافلاتٍ مناسبة. المحافظ و الوالي يمثلان سلطةً تعرف قدر نفسها. في حالة الوالي من المؤكد أنه ذهب مع ذهاب حكومة البشير لكن الممارسة لا تزال سارية. و محافظ أريحا باقٍ لأنهُ لا يشذ عن قاعدة سلطةٍ ملتصقة بالسلطة و ما توفرهُ لشخوصها من أبهة. الفلسطينيون لهم مقالات خادشة في وصف هذه الحالة، مثل “كُبْرَة ولو علي خازوق!”. يعني إن كنتَ “محافظ” فعلى ماذا تحافظ؟!

إنما لنكن واقعيين. فما هو الذي ستفعله السلطة لتقاوم جيشاً بمثل تسليح و تقنية رعاع الصهيونية؟ قطعاً ليس الكثير و لا الطويل من الزمن. على الغالب ستنتهي المعركة لصالح الصهيونية و ربما بنزع سلاح السلطة و حصار مقر السلطة و سلسلة اجراءات انتقامية ضد السلطة و الفلسطينيين عموماً. لن نتوقع دعماً دولياً و لا عربياً للفلسطينيين لأن المكتوب مقروءٌ من عنوانهِ. فاختصرها المحافظ من آخرها.

ثم إن تاريخ المقاومين في العالم يدلنا على أن نجاحهم يعتمد بشكلٍ رئيسي على دعمٍ مستمرٍ من جوارٍ متعاطفٍ مؤازرٍ يمدهم سياسياً و عسكرياً و طبياً و حياتياً. لا مقاومة غزة و لا مقاومة باقي فلسطين تحظى بهذا الامتداد الهام من الدعم، خاصةً العسكري. الدول العربية المحيطة مثل مصر والأردن لن تسمحا بما يضر اتفاقيات السلام و التزاماتها المتراكبة. و بين سوريا و الصهيونية ثارٌ مستمرٌ و قوات حفظ سلام (!) و مع لبنان لا تنام العين الصهيونية و لا اللبنانية المقاومة في وضعِ لا سلام و لا قتال و تجميدٌ للحدود من الثغرات التي قد تسمح بالمدد. هذا يترك السلطة، لو قررت المقاومة المسلحة و هو مستحيل، مقتنعةً باللامقاومة . و يترك مقاومة غزة و باقي فلسطين محاصرةً لا تستطيع الاندفاع في العمق الفلسطيني بالمقاتلين. و الحرب لا تكسبها الصواريخ و لا الطائرات و لا اللجوء لمقار تبدو مخفية داخل المدن و المخيمات و هي للعيون ظاهرة.

كما أن فلسفة المقاومة الفلسطينية متناقضة مع الواقع و مع عواطف و أماني الفلسطينيين. مقاومة غزة تتجهز لمعركةٍ و ليس لحرب و لا تحسب للزمن كثيراً. هل المعركة غداً أو بعد عام أو عقد أو قرن؟ لا أحد يقول أو يعرف لأن لغزة هي معركةٌ سماوية لها شروطها. و أن ينطق عندها الحجر و الشجر. و لباقي فلسطين، السلطة علمانية تخاطب المجتمع الدولي بلغة الدبلوماسية الراقية و آملةً يوماً ما لا ندري متى و كيف بدولةٍ و نصف عاصمة وسلطانٍ تحت رهن الجيش “الإسرائيلي” تماماً كما هو الحال اليوم. و المقاوم في عرينه محاصر بين سلام السلطة و انتقام الاحتلال.

صَدَقَ محافظ أريحا في مراوغةٍ ومناورةٍ عنوانها البقاء سُلطةً من غير سلطة. علي فلسطين الانتظار و أن تدعو عليهم. علي من؟ علي من يحتلها ولا يدافع عنا بالطبع، و لو صَدَقَ. لها الله فاسطين. فقط.

 

علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق