خميس بن عبيد القطيطي: في ذكرى ميلاد عبدالناصر: عندي خطاب عاجل اليك

جمعة, 2021-01-15 12:11

تحتفي الجماهير العربية من المحيط الى الخليج وفي سائر أنحاء العالم دائما بمناسبات مئوية الزعيم جمال عبدالناصر أو رحيله أو أي مناسبة كان عبدالناصر جزءا منها وباعثها، وتستمر تلك الاحتفاليات حتى بعد مرور نصف قرن على رحيل عبدالناصر، مما يؤكد على حقائق ودلالات ومعاني قد لا يدركها بعض المتأدلجين بإعلام الاسلام السياسي أو المشوهين الذين طالهم أعلام التشويه منذ نصف قرن على رحيله، وللأسف لم يتأمل لهذه الظاهرة الجماهيرية التي لم تأت من فراغ، وهنا لن أتحدث عن أعداء الرئيس عبدالناصر فهؤلاء حاولوا مرارا وتكرارا عبر منابرهم وأجهزة إعلامهم نسج الادعاءآت والأباطيل والأكاذيب في محاولة لتضليل الرأي العام والانتقام من هذا الزعيم الذي كان سدا منيعا في وجه قوى الاستعمار ومجتمع (النصف في المائة) من رجال المال والاقطاع والمستفيدين من حقبة العهد الملكي أو جماعة الاخوان المسلمين الذين حاربوا عبدالناصر حيا وميتا ودسوا الاباطيل ونسجوا الأكاذيب واعترفوا بتلك المؤلفات الكاذبة لاحقا، وكذلك الرجعية التي عملت وما زالت تعمل وفق إرادة الاستعمار القديم والحديث، كل هذه المجاميع ورغم قدراتهم الاعلامية الضخمة لم يتمكنوا من زحزحة عبدالناصر قيد أنمله من صدارة المشهد العربي ومن قلوب الملايين فبقي صامدا رغم تقادم الأعوام والسنين وتناسخ الرؤساء والقيادات من بعده حتى اليوم، فلماذا غاب الجميع وظل عبدالناصر وحده خالدا وشامخا في قلوب الملايين رغم كل ذلك الهوس التضليلي وحجم منظومات التشويه والمحاولات المسيئة الى تاريخه؟!!

ظلت صور عبدالناصر مرفوعة على الهامات في كل مناسبة عربية سواء كان عبدالناصر جزءا منها أو لم يكن كذلك فلم يستطع الاعلام المعادي تغيير هذا المشهد طوال نصف قرن بعد رحيله وسيظل الى أبعد من ذلك لأن هذا الاعلام لا يمكن أن يغير المفاهيم ولا يمكن أن يقلب الحقائق ولا يمكن أن يسيء لمبادئ جليلة تمثلت في الحرية والاشتراكية والوحدة والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار، رافقها إحداث ثورات صناعية وزراعية وتعليمية وبناء السد العالي كأعظم مشروع في القرن العشرين وتجميع القران الكريم بأصوات القراء في مصحف مرتل عبر اسطوانات التسجيل ووصوله الى كافة أنحاء العالم، وقوانين الاصلاح الزراعي ودعم السلع الاساسية وبناء الكثير من المساجد والجسور وافتتاح مبنى الاذاعة والتلفزيون وبرج القاهرة والكثير من البنى التحتية في مصر، وجلاء قوات الاحتلال الانجليزي وتأميم قناة السويس وغيرها من المنجزات العظيمة في بلده، كل ذلك جاء بعزيمة وإصرار في تحقيق نهضة وطنية، بالاضافة الى دعم ثورات التحرر في الوطن العربي والتي مازالت تدين بهذا الفضل لجمال عبدالناصر الى اليوم، وتجاوز عبدالناصر الدور المحلي والاقليمي الى العالمية في تأسيس منظمة عدم الانحياز، والتصدي بقوة وندية لقوى الاستعمار في سبيل تحقيق مشروع وطني وقومي عربي حتى اعترف أعداء عبدالناصر أنهم يكرهون عبدالناصر ولكنهم لا يستطيعون شراءه أو مساومته أو تهديده لانه بلا رذيلة، والتفت الجماهير العربية حوله في جميع خطاباته فأصبح عبدالناصر مركزا من مراكز القوة العالمية حتى قال عنه الرئيس الامريكي نيكسون: أن العالم يتحكم به ثلاث قوى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ومصر عبدالناصر، فهناك من الشواهد ما أثبتت ذلك منها تواجده على منبر الامم المتحدة ليلقي خطابه الذي كان أول خطاب باللغة العربية فوقفت جميع الوفود لتحيته وهو يتقدم لالقاء خطابه عام ١٩٦٠م، وعندما انسحب عبدالناصر حين أراد مندوب كيان الاحتلال إلقاء كلمته انسحب معه عدد كبير من وفود العالم، وكذلك حادثة سفينة كليوباترا التي رست في ميناء نيويورك ومنع اتحاد العمال الذي يتحكم به اليهود تفريغ السفينة من القطن وإعادة شحنها بالقمح للضغط على مصر وشعبها بسبب مواقف عبدالناصر، لم يستغرق الأمر سوى ثلاث ساعات فتوجه عبدالناصر الى اذاعة صوت العرب موجها خطابه الى اتحاد العمال العرب في مختلف الموانئ العربية ليتوقف الجميع عن تفريغ وشحن كل السفن الامريكية مما أجبر الخارجية والرئاسة الامريكية لانهاء الازمة واعادة تفريغ وشحن سفينة كليوباترا، كل ذلك عندما تمتلك الأمة قيادة محورية قادرة على مخاطبة الجماهير والارتباط معها في مواجهة التحديات الدولية، وهو ما أكدته الجماهير العربية يومي ٩، ١٠ يونيو ٦٧م بعد اعلان تنحيه بعد الحرب عندما خرجت تلك الملايين في مسيرات للمطالبة بعودة عبدالناصر في أضخم استفتاء شعبي على زعيم في التاريخ وتكرر ذلك المشهد المليوني يوم رحيله رحمه الله، فهكذا كان عهد عبدالناصر الذي أسس لنهضة صناعية وزراعية وتعليمية في مصر وهكذا هو الحال لأي أمة أرادت النهوض والتقدم لتعيش معززة مكرمة بين الأمم، ونظرا لهذه المنجزات التي حققها عبدالناصر أراد الاعداء محاربته والانتقام منه، وليس غريبا على قوى الاستعمار ذلك، فهي التي زرعت كيان الاحتلال في قلب الوطن العربي وعملت على تقويته على حساب العرب، فلا يمكن أن تسمح بنهضة عربية في أي بلد عربي، لذلك يراد للوطن العربي التبعية والتخلف والتشرذم، لذلك أدرك عبدالناصر تلك الحقيقة فكان قارئا جيدا للتاريخ فكافح طوال (18) عام منذ ثورة الضباط الاحرار في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م ولغاية رحيله في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠م، فجاءت رسالته رحمه الله لتحقيق نهضة وطنية وعدالة اجتماعية وتأميم خيرات بلده لأبناءه وتحقيق مشروع عربي لصالح أمته، اجتهد كثيرا وحقق الكثير من المنجزات، لذلك حاول أعداءه التخلص منه وكسر شوكته فلم يفلحوا لأنه صادق في نواياه ومخلص تجاه وطنه وأمته، وعرف عنه الزهد والبساطة فلم يجدوا فرصة لاسقاطه، وهكذا سيظل منهج الاستعمار في لعبة الأمم مع كل بلد أو قائد يحاول التخلص من التبعية وأسباب التراجع ويحاول بناء أمة متسلحة بالعلم والمعرفة وتعتمد على نفسها في دورة حياتها المعيشية، لذلك ستظل معادلة المواجهة قائمة .

عندما تصدر بعض الاصوات النشاز التي تقول ماذا جنينا من عهد عبدالناصر سوى الحروب، نقول نعم عندما فرضت الحروب كان على العرب التصدى لها، نعم خسرنا في ٤٨م ونجحنا في ٥٦م ثم خسرنا في ٦٧م لكننا لم نفشل كانت هناك إرادة حقيقية ولم ترفع الراية البيضاء بل أعقبها مزيدا من التحدي على الصعيد السياسي الوحدوي العربي، واستمرت عجلة التنمية الصناعية والزراعية والعلمية على مسيرتها مما يؤكده تقرير الأمم المتحدة للتنمية عام ٦٨م بعد الحرب الذي سجل معدلا مرتفعا للتنمية في مصر، وهذا يعني أن مصر رغم الحرب لم تنحني وبقيت صامدة قوية واستمرت فيها عجلت البناء والتنمية، بل انها استفادت من دروس حرب ٦٧م فعملت بقيادة عبدالناصر على إزالة آثار العدوان، فسخرت قوى الاقتصاد والتنمية لتعزيز القوات المسلحة وتم تحديث الجيش وتغيير القيادات والاستعداد للحرب بكل ما أمكن والاستفادة من دعم الأشقاء في تغيير ميزان القوى، ولأن الأمة العربية كانت تحمل قضية مصيرية فكان العمل بكل عزيمة واصرار بقيادة عبدالناصر لازالة آثار العدوان من خلال حرب الاستنزاف الطويلة التي أرهقت كيان الاحتلال الصهيوني، الذي طالب بوقف إطلاق النار وتوقيع اتفاقية سلام مع مصر عبدالناصر، لكن عبدالناصر قالها أن الصراع مع العدو هو صراع وجود لا صراع حدود، ورفع العرب لاءآتهم الثلاث في مؤتمر الخرطوم لا صلح لا تفاوض لا اعتراف وما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، وكان رحمه الله صادقا وأثبتت الايام ذلك، رغم أن كيان الاحتلال كان يبادر بإعادة سيناء كاملة دون قيد أو شرط مقابل تخلي مصر عن دورها القومي العربي في مواجهة الاستعمار وعدم المطالبة بتحرير كامل الأراضي العربية، لكن لم يكن لقائد مثل جمال عبدالناصر أن يتخلى عن دوره العروبي فأكد على عودة كل الاراضي المحتلة من الجولان الى القدس والضفة والقطاع وأخيرا سيناء، فكان الاعداد المنظم لجبهات القتال والدعم العربي لها، لذلك تحققت ملحمة العبور عام ٧٣م التي أستعدت لها مصر والأمة العربية منذ نهاية حرب يونيو ١٩٦٧م وأجريت التجارب والخطط في عهد عبدالناصر، ورغم الأخطاء التي حدثت لاحقا بعد العبور إلا أن حرب أكتوبر ١٩٧٣م كسرت مقولة الجيش الذي لا يقهر وأثبت أن العرب متى ما اتحدوا وعززوا قدراتهم واعتمدوا على أنفسهم وحققوا مبادئ التعاون التضامن والدفاع العربي المشترك وتم تفعيل العمل العربي المشترك، ومدوا جسور التعاون في مختلف المجالات فإنهم قادرون على تحقيق الأنتصار .

وعندما نعيد تذكير الأجيال بالزعيم جمال عبدالناصر فإننا نستذكر رمزا تاريخيا ترجم معاني العزة والكرامة للأمة العربية وحقق عدد من المنجزات في بلده وعلى خارطة الوطن العربي والعالم، ورسخ مدرسة فكرية ما زالت قائمة الى اليوم تعرف بإسمه، واستذكاره هنا لتحفيز الاجيال وتعريفهم بتاريخ عظيم لاستنفار معاني ومبادئ القومية العربية والاعتماد على الذات العربية في إقامة نهضة صناعية وزراعية وعلمية في مشروع عربي متكامل اقتصاديا وسياسيا، وتطوير العمل العربي المشترك دائما، لذا سيظل عبدالناصر خالدا في تاريخ العرب لانه أسس لتلك المفاهيم وطبقها على أرض الواقع، ولا توجد تجربة بشرية معصومة من الخطأ بطبيعة الحال لكن يظل عبدالناصر أحد الرموز العربية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، فلا غرابة أن تكون جنازته أكبر جنازة في التاريخ، وظل معلقا في قلوب الملايين من أبناء الأمة العربية من المحيط الى الخليج وملهم الأحرار في سائر بلاد العالم، وهذه من محبة الله لتجتمع على محبته هذه الملايين، وعلى المشوهين والمؤدلجين تأمل هذه الحقيقة.

خميس بن عبيد القطيطي كاتب عماني

[email protected]