الحريري الجديد، أكثر نضجا وقلقا/ مستعد للعودة الى رئاسة الحكومة

خميس, 2020-10-08 23:18

في اطلالته الأولى بعد غياب أشهر طويلة، بدا الرئيس سعد الحريري أكثر نحافة جسديا من السابق نظرا للنظام الغذائي الدقيق وطريقته الجديد في العمل حيث صار يتولى بنفسه معظم الملفات ويصحو باكرا لمتابعة ادق التفاصيل، ويمارس الرياضة، كما ينقل عنه سفير عربي صديق. فالرجل الذي أصيب بخذلان المقربين أكثر من الخصوم، حيث استل كثيرون من محيطه وحلفائه  الخناجر ضده، بات أكثر حذرا في منح ثقته لأي كان، وأدرك ان الفخاخ هي جوهر السياسة اللبنانية، فقرر تفاديها. 
 
 بدا وجه الحريري كذلك في مقابلته مع الزميل مارسيل غانم على شاشة ‪MTV‬ التي غالبا ما يختارها دون غيرها لمقابلاته، عاكسا قلقا واضحا، يتعلق قسمٌ منه، لا شك، بالوطن المنهار واحتمالات جنوح الأمور صوب حروب داخلية بسبب انتشار " عراضات السلاح" كما اسماها في كل الشوارع وبين الطوائف، ويتمحور القسم الثاني حول مستقبله السياسي، ذلك ان ثمة تغييرات كثيرة طرأت على المنطقة ولبنان مُرشّحة لتغيير المعادلات، وتهدده شخصيا.  
كان الحريري صريحا في كلامه أمس الى حد الشفافية، راغبا بالتسويات لا بالعنتريات، معترفا بأخطائه واخطاء كل الطبقة السياسية " الشعب مش طايقنا" مكررا غير مرة عبارة:" إذا ما مشي الحال بقعد بالبيت". وفتح الباب لاحتمال عودته الى تولي رئاسة الحكومة، بعد سلسلة الاتصالات التي يبدأ بإجرائها اليوم. 
 
لا جدال في أن سعد الحريري الجديد، أكثر نضجا سياسيا واعمق وعيا بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، فخطابه الهادئ يعكس فهما أدق لمسارات الأمور في المنطقة، ثم تجربته الطويلة نسبيا في السياسة، منحته خبرة أوسع وأعمق في الملفات، وفي التقاطعات الداخلية والخارجية. ولا يمكن بالتالي فهم ما قاله أمس دون وضعه في سياقه الاوسع محليا واقليما ودوليا، وأبرزه التالي: 
 
١-أولا: الحريري صادق بخوفه على انهيار لبنان وعلى عودة شبح الفتن والحروب الصغيرة، فالشارع سيحمّله كما كل الطبقة السياسة مسؤولية الانهيار ولا أحد غير الله يعلم الى اين يمكن ان يذهب الشارع، وهو بالتالي يشعر بثقل المسؤولية السياسية والأخلاقية والأمنية عليه وبضرورة المبادرة لفتح الأبواب. وقد اعطى مثالا على ذلك الحرب السورية مشيرا الى انها أدت الى اضعاف السُنة بدلا من تقويتهم، لكنه كرر موقفه الداعم للمعارضة والثورة هناك. 
٢-ثانيا إذا كان تفجير مرفأ بيروت، الذي قال الحريري نفسه ان لديه شكوكا حول أسبابه، قد أحدث الزلزال السياسي والأمني والاقتصادي الأهم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فلا شك أن اعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري عن " إطار" المفاوضات مع إسرائيل عبر أميركا لترسيم الحدود البحرية والبرية، كان الزلزال السياسي الثاني منذ تفجير المرفأ. 
 
فتح هذا الإعلان باب الأسئلة على مصراعيه، وبينها كيف نضُج الإعلان الآن رغم ان المشاورات متواصلة منذ ‪10‬ سنوات؟ هل جاء خضوعا لبنانيا امام العقوبات الأميركية، أم انه انطوى في سياق مسار التطبيع الإسرائيلي العربي بضغوط أميركية وان له ثمنا؟ 
وبقدر ما سلط الإعلان الاتهامات على الثنائي الشيعي (أي حزب الله وحركة امل بقيادة نبيه بري) بأنهما يذهبان باتجاه التطبيع رغم التوضيح والنفي من الثنائي، بقدر ما أثار قلقا عند خصومهما من ان يؤدي ذلك الى قلب المعادلة، بحيث يصبح الشيعة في لبنان الأكثر حظوة عند الاميركيين، فتركب تسوية سياسية تساهم في تعزيز مكانتهم بدلا من الضغوط والعقوبات. وذهب البعض الى حد السؤال: الم يحصل هذا مع سوريا حين كانت تعقد تسويات مع اميركا فتأخذ في لبنان مساحة واسعة جدا؟ 
مثل هذا الكلام، اقلق الطوائف الأخرى في لبنان، خصوصا انه ترافق مع تسريبات كثيرة حول الرغبة في تعديل النظام اللبناني وسقوط اتفاق الطائف، وتوسيع صلاحيات الطائفة الشيعية في النظام. وهذا يفرض على الحريري ان يستعيد زمام المبادرة الآن وليس غدا.
 
٣-ثالثا: مع الانهيار الاقتصادي اللبناني وتفلت السلاح وتعاقب الاحداث الأمنية وبينها ما كان إرهابيا وأدى الى استشهاد عناصر من الجيش اللبناني، ارتفع مستوى القلق من الغرق بفتنة داخلية. ويدرك الرئيس الحريري أكثر من غيره أنه قد يكون الأكثر تأثرا بذلك، ليس فقط لأنه ليس طرفا مُسلحا ولا يرغب بالقتال والحرب، ولكن أيضا لان ثمة أصواتا متطرفة داخل طائفته مستعدة لاستلام زمام المبادرة وخوض مغامرة قتال حزب الله، او الغرق بالفتنة. لا احد غير الحريري اذا يستطيع وأد هذه الفتنة بالتعاون مع الأطراف الأخرى وبينها الثنائي الشيعي .
٤-رابعا، صحيح ان الرئيس الحريري يؤكد على جودة العلاقة مع اميركا، وانه يتواصل مع السفير السعودي في بيروت ويقول ان علاقاته بالرياض جيدة، لكن كل الظواهر والمعطيات كانت على الأقل حتى الان تشير في أفضل احوالها الى ابتعاد سعودي عن الساحة اللبنانية بذريعة ان حزب الله يسيطر على القرار، وفي أسوأها الى تنافر عميق بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس الحريري لأسباب كثيرة سيقت سابقا. 
هذا الأمر جعل بعض المقربين السابقين من الحريري ومن الذين كانوا طويلا تحت كنف الرئيس الشهيد رفيق الحريري واثروا من ماله ، يهاجمونه عبر الاعلام السعودي، ويتهمونه بالخضوع والتنازلات. 
قد يكون ابتعاد الحريري لفترة مقبلة طويلة إذا عن ممارسة السلطة مباشرة، خصوصا مع الفرصة المتاحة حاليا، أي مع المبادرة الفرنسية، وبعض الرضى الأميركي بسبب ترسيم الحدود، تعني احتمال ان لا يعود ابدا الى ممارسة السلطة. لذلك فان خياره بإعادة فتح الباب الى العودة مفيد جدا في الوقت الراهن. 
٥-خامسا: اشتدت خصومات الحريري مع كل الأطراف اللبنانية، فالأبواب مغلقة مع القوات اللبنانية، والحزب الاشتراكي، والتيار الوطني، وحزب الله وأخيرا مع الرئيس بري. صحيح انه يشعر بالخذلان وبان بعضهم خانه او تآمر عليه (مثلا حين احتجز في السعودية)، الا ان الصحيح كذلك هو استحالة العمل سياسيا إذا ما استمر التنافر، فزعماء الطوائف قد يتمترسون في مناطقهم، اما هو فاين يتمترس؟ 
لعل الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت مع الرئيس نبيه بري، في اعقاب المشكلة المتعلقة بوزارة المالية. يُروى عن رئيس المجلس قوله:" كم خاب ظني بمن اهديته ثقتي فاجبرني على هجرانه" ويُحكى  ان رئيس المجلس قال في أحد آخر الاتصالات مع الحريري في خلال مشكلة تأليف حكومة مصطفى اديب:" امامك التأليف أو الانتحار سياسيا، وخسارتك لي يا سعد أكبر من خسارتك لابيك " فالرئيس بري الذي أطاح بحكومة حسان دياب، تعمّد ان يُسمي الحريري لحظة الإطاحة، وهو ما لم يفعله مطلقا في حياته. 
لعل الرئيس الحريري بفتحه الأبواب في مقابلته أمس، أراد قبل كل شيء ان يبعث برسالة تجديد الثقة مع الرئيس بري، واستعادة فتح العلاقات مع معظم الأطراف الأخرى. 
 
يبقى ان سعد الحريري الذي فتح ابوابا كثيرة امس، والذي يتمتع بكاريزما شبابية مؤثرة على الشباب من طائفته وخارجها، ما زال الزعيم السني الأقوى رغم كل الرياح، لكنه ربما بحاجة واكثر من أي وقت مضى الى مشروع وطني يتخطى الطوائف والمذاهب، لان اللبنانيين كفروا بكل الساسة، وهم يحتاجون الى من يقدم لهم مشروعا انقاذيا لا من يرد الهجمات بالهجمات. 
لعل سعد الحريري الجديد يُدرك هذا الآن أكثر من أي وقت مضى، أن غضب الناس سيُطيح بالجميع لو استفحل وبقيت الطبقة السياسية متمسكة بمطالبها المذهبية ومحاصصتها. ويدرك كذلك ان التعاون مع الثنائي الشيعي حاليا اقل وطأة من السابق بعد السير في ترسيم الحدود. فالأميركي يرُحب رغم احتمال ارتداده ضد الحزب وبري في أي لحظة. 
 
الرئيس الحريري فتح الباب أمس، فهل يكون الرئيس بري اول من يلاقيه رغم العتب والغضب ام يتشدد معه لفترة ثمنا لموقفه من وزارة المالية . ربما ما عاد الوطن يحتمل نكايات من احد، فهو  على سرير الموت، وما عاد قادرا على الانتظار، وثمة فرصة دولية متوفرة الآن رغم ضعفها قد لا تعود قبل فترة طويلة. وفي حال لم تنجح مساعي الحريري، فهو قد ينفذ فعلا ما وعد به بان يبتعد عن السياسة، فقد كان صادقا امس في التعبير عن يأسه وقلقه وخشيته من تحمل مسؤولية ما قد تؤول اليه الاوضاع. وكأنه يقول : قد اعذر من انذر، وهذه محاولتي الاخيرة. 

سامي كليب مؤسس ورئيس تحريري موقع خمس نجوم السياسي الفكري