الجزائر... قصة ثورة وحب لا تشيخ. (الجزء الاول)

اثنين, 2018-11-12 01:01

لو كنتّ صديقي القاريء عربيا وتترنحُ عروبتُك على شفير الشك، اذهب الى الجزائر، ستعود بعروبة صلبة كالصخر.  لو كنتَ مُحبّا لفلسطين وساورك بعضُ يأسٍ من حال العرب حيالها، اذهب الى الجزائر، ستعود مُنتعشا بأمل كبير موسوم بالعروبة الخالصة. لو كنت مقهورا جعلتك الحرب تعتقد بأن العرب تخلَّوا عن بلادك أو تآمروا أو خافوا فانكفأوا، اذهب الى الجزائر سترى دمشق كما فلسطين وبغداد وصنعاء وطرابلس وبيروت، ياسمينة في قلب كل جزائري. ولو كنت عربيا تخال أن الفتنة المذهبية جعلت كل مقاوم راغب بتحرير أرضه إرهابيا على لوائح النظام العربي، اذهب الى الجزائر أرض الثوار الحقيقيين والمقاومين الشرفاء، ستجدها لا تزال حاضنة لكل من يرفع لواء التحرير ولكل من يقول ان إسرائيل دولة غاصبة محتلة وان صفقة القرن لن تمُرّ وان الاحتلال الى زوال. اذهب الى القيادة او الى مقابلة الضباط او الأحزاب او الناس العاديين او الكهل او الشاب او الصبي او البنت او البائع او المثقف او الوزير او المعارض، لن تجد الا صوتا واحدا يقول ان الجزائر على عهدها صلبة في دعمها لكل قضية عربية عادلة وان كل الضغوط التي مورست عليها لم تزدها الى صلابة ويقينا بأنها على حق. 
هذه هي حصيلة أيامي الجزائرية التي أمضيتها بين أحبة تنبض قلوبهم على وقع قضايانا، وتُفتح بيوتهم للضيف على مصراعيها، وينثرون الحب على الزائر خصوصا لو شعروا بأنه لا يزال حافظا للجزائر ثورتها ولهذه البلاد الساحرة فضلها على حركات التحرر العربية والافريقية، فلا يتنكر لها جهلا أو تجاهلا. 
لقد عرفت الجزائر في عزِّها وفي كبوتها. في أنفتها وفي عشريتها السوداء حين غرقت بعشر سنوات من الحرب بين الجيش الوطني والإرهاب. لكن هذه المرة رأيت العاصمة تبتسم، ووجه السماء فوقها وضَّاحا، ورأيت حجاب النساء فيها يجاور الوجوه الجميلة للفتيات السافرات وسط جيل يتحوّل ويتبدل عما كانت عليه حال من سبقه من قلق وخوف أثناء الحرب. لكن القلق عند النخب من رغبات دولية وإسرائيلية في احداث فتن داخلية بذريعة الانتخابات أو بعدها لا يزال قائما، أما بسبب التنافس الاميركي الفرنسي على البلاد وخيراتها، واما بسبب المواقف المشرِّفة للجزائر حيال فلسطين وقضايانا المعاصرة. 

هذه المرة جاءت زيارتي الى البلد الذي اُحب بالصدفة. كنتُ أستعد للذهاب لممارسة رياضتي اليومية في بيروت. هممت الى إقفال باب منزلي، فاذا بالهاتف يرن حثيثا. لست من النوع الذي يستعجل الجواب. فأنا منذ ريعان شبابي لا أحب الهواتف وكثرة الثرثرة عليها.  زادني نفورا منها، ذاك الهجوم التكنولوجي على عصرنا، بحيث نتحول شيئا فشيئا الى عبيد لوسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت في وطننا العربي الى وسائل التباغض اللاإجتماعي والتشاتم اللاأخلاقي. لكني هذه المرة سارعت للرد. ثمة ردود فعل عند واحدنا مرتبطة بالقلب لا يدري سرّها. كان على الطرف الآخر زميلي وصديقي النبيل إبن الجنوب الجزائري سفيان المراكشي. أخبرني أن وزارة الثقافة ترغب بدعوتي لتوقيع كتابي الجديد " الرحّالة" في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر. كانت دعوة مماثلة قد وصلتني قبل عامين ولم أستطع تلبيتها لسبب عائلي. لم أتردد هذه المرة ولا ثانية واحدة . قلت له على الفور:" أتشرف بهذه الدعوة وسوف ألبيها بسعادة كبيرة". 

آخر مرة زرت الجزائر كانت في خلال الانتخابات الرئاسية. ها أني اعود اليها في أوج الجدل حول الانتخابات. هل يترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة رغم المرض أم لا. هذا هو السؤال المركزي الشاغل الجزائريين هذه الأيام. لبوتفليقة في ذاكرتنا المشرقية مكان مُشرق، وله في قلوبنا محبة كبيرة. فالرجل كان نجم الدبلوماسية العربية في سبعينيات القرن الماضي. خاض في دهاليزها جولات وصولات كي يُنقذ جبهة فلسطينية هنا قد خطفت طائرة، أو يتوسط هناك لإنهاء أزمة عربية، أو يسارع الى فيينا ينقذ وزراء النفط حين احتجزوا في منظمة أوبك.  ليس دوري أن أوافق او لا على الترشح، هذا شأن الشعب الجزائري، هو الذي يقرر مصلحته، لكني أعرف أن بوتفليقة سيبقى في تاريخنا المعاصر علامة فارقة في قضايانا العربية التي طواها الزمن، ولعل أهل فلسطين ولبنان وسوريا وغيرها يعرفون ما فعله الرجل لأجلهم وهو القادم من ثورة الاحرار الى جانب رجالها الكبار. 

وصلت الى مطار هواري بومدين مُتعبا قليلا من رحلة قادتني من بيروت الى الجزائر عبر باريس حيث اضطررت للمرور الى العاصمة الفرنسية لمشروع أكاديمي. فرحت بالتجديد الذي طرأ على المطار. يقال ان العواصم تُقرأ من مطاراتها. المطار هو مفتاح المدينة. كل شيء أنيق ونظيف، ولكن يجاوره مطار ضخم سيُفتتح في العام المقبل.  ما أن وقفت في الصف أنتظر دوري لختم جواز سفري، حتى سمعتُ من ينادي بإسمي. تُقلقني عادة النداءات في المطارات العربية.  فلا المطارات ولا موظفوها يرتاحون للصحافي.  لكني هنا، في الجزائر، تلقيت النداء بشيء من السعادة. أعرف ان ثمة حبا متبادلا بين وبين هذا البلد وأهله.  ثم ان التلفزة تساعدنا في سهولة المرور الى قلوب الناس. رأيت من البعيد رجلا طويل القامة، أنيق الهندام، نصف شعره أبيض، ونصفه الآخر يغالب العمر حتى يحفظ ما بقي من شباب.  تقدّم صوبي باسما. لا يبتسم الجزائري بسهولة في العادة. تصافحنا ومررنا من باب جانبي بعد ختم جواز السفر، لتبدأ رحلتي الجميلة. 

ها هو سفيان يقف في باحة المطار. يلوح لي من بعيد. تعلو ابتسامته وجهه الشبابي الجميل فوق قامته المديدة.  يوحي لك بأن الشمس لوّحت وجهه مذ خُلق. نتعانق بعد فراق. نتبادل عشرات الأسئلة بدقائق معدودات. هي حماسة اللقاء، أو ربما فرحي بعودتي الى الجزائر. ينتظرنا رجل أنيق يوحي بأنه دبلوماسي معتق. لم يكن دبلوماسيا. هو سائق السيارة التي تكرّمت وزارة الثقافة بتخصيصها لي. يحدثني بشيء من العربية وكثير من الفرنسية. يبدو رياضيا رغم تخطيه الخامسة والستين. سرعان ما ينساب الود بيننا.  أرى سماء الجزائر أكثر زرقة من أي يوم مضى. بضع غيوم فقط تدغدغ وجه السماء كما الشامات على وجه حسناء عربية أو أمازيغية. 
يعتلي فندق الأوراسي تلة طبيعة في وسط الجزائر العاصمة. يُطل على المدينة البيضاء الساحرة. إجراءات بسيطة مقرونة بابتسامات الموظفين، ثم صعود سريع الى الغرفة. أفتح النافذة، أبعد الستائر عن المنظر الهائل. تُطل العاصمة بثوبها الأبيض وبقدميها المبلولتين بماء البحر، تبدو لي البيوت البيضاء وشجر النخيل وقرميد البيوت تحت السماء الزرقاء كعروس تُنهي تفاصيل جمالها قبل لقاء الحبيب. استنشق هواء العاصمة وأشجارها الغناء، يسافر نظري فوق البيوت والشوارع والبحر فيلتقط أجمل الصور. أنظر الى السماء شاكرا. ما أجمل هذا المساء. أترك الواجهة الزجاجية الواسعة مفتوحة، وأنزل سريعا الى بهو الفندق. أقترح على سفيان أن ننزل للسير في المدينة. أريد ان اتمشى في شارع ديدوش مراش الذي يأخذ اسمه من أحد مفجري الثورة المجيدة. أريد أن اروي ناظري بصور الشوارع والناس والحوانيت. أرغب بأن أمر قرب أحياء وزواريب القصبة الشهيرة الحافظة تحت كل حجر وخلف كل باب وشارع قصص الثوار ضد الاستعمار. يتعب سفيان قليلا، وأنا أكمل السير. يضحك ويقول لي:" يجب أن اعود الى الرياضة يا اخي سامي ". نضحك سويا ونكمل السير بين جيل معظمه من الشباب في مدينة ضاجة بالحياة. 
أنام ملء الجفون. أودع نهاري بأنوار العاصمة تنساب الى سريري من الواجهة الزجاجية. لا موسيقى تصدح من البواخر خلافا لما هو حال البواخر السياحية في نهر النيل بمصر، ولا ضجة ولا زحمة. كل شيء هاديء تماما مع هبوط شال الليل على البيوت البيضاء. 
اول اللقاءات كان مع وزير الثقافة عز الدين ميهوبي. كم يفرح الكاتب مثلنا حين يجد أن من يتولى حقيبة ثقافية في وطن عربي، رجل مثقف من طراز رفيع. شاعرٌ يكتب عيون الشعر فيرسم فلسطين ودمشق وغزة وبغداد وبيروت والعروبة والنضال والتحرر بكلمات من نور وعزة. روائي يستعيد من ثقافته الواسعة وفكره الموسوعي تاريخ نشوء الدول الحقيقية والكيانات المصطنعة ليكتب الروايات والمسرحيات. أديب فصيح اللسان جميل القلم سهل الأسلوب على ممتنعه، فكيف لا يحصل على عشرات الجوائز العربية والعالمية لأفضل مثقف عربي أو لأفضل كاتب مرات عديدة.  وحين تُلمُ مصيبة في وطن عربي، يسارع الى التضامن بالفكر والشعر والأدب، أو يقوم بمبادرات رائعة كمثل مبادرته بنقل مهرجان السينما السوري من دمشق الى وهران حين اشتدت وطأة الحرب. سوريا تبقى في القلب، والرئيس بوتفليقة أعطى تعليمات منذ الأشهر الاولى للحرب للوقوف الى جانب قلب العروبة النابض. 
يطول الحديث مع الوزير الأنيق والمثقف واللطيف، نعتذر منه رغم رغبتنا بالبقاء أكثر. نُضطر للمغادرة صوب صحيفة " الحوار". تفضلت أدارتها بتنظيم ندوة تحت عنوان " من الربيع العربي الى صفقة العصر". في القاعة نخبة من المثقفين والكتاب والإعلاميين. يدور نقاش يمتد على ثلاث ساعات. يفاجئني فعلا الجزائريون بوعيهم لمخاطر كذبة الربيع. يجتاحون قلبي بحبهم لفلسطين وسوريا ولبنان ومقاومة المحتل. يطرحون أسئلة في الصميم، أو يقدمون مداخلات رائعة ترفع منسوب العروبة والنضال. يتخلل النقاش بعض أسئلة قليلة تحمل اختلافا، لكن السياق العام يبقى في مكانه الصحيح، الى جانب قضايا العرب. يفاجئني الزملاء الأحبة في الصحيفة المحترمة وذات الانتشار الممتاز ورقيا او عبر الانترنيت بتخصيص غلاف الصحيفة لي، وكذلك ٤ صفحات داخلية منها. ينثر الجميع حبهم عليَّ فتفرح جوارحي.  
تتقاطر دعوات الإعلاميين لإجراء مقابلات. تبدو الجزائر ذات التاريخ المشرّف والحاضر المشرّف وكأنها بحاجة لان تقول للوطن العربي أنها لا تزال ظهيره الداعم والسد الواقي والسند الحقيقي. فهي مظلومة بالإعلام العربي وظالمة نفسها لقلة التعبير عن ذاتها. تبدو كذلك بحاجة لأن تسمع رأي العرب بأحوالها بعد السنوات العربية العجاف التي حملتها الينا كذبة الربيع العربي. تتعدد المقابلات والاستقبالات الرائعة. من الاذاعة الرسمية الجزائرية وادارتها حيث نستعيد ذكرى الايام الاولى للثورة وكيف انتزع الثوار هذه الاذاعة من براثن المستعمر، الى القناتين الفضائيتين دزاير نيوز والنهار  الناشطتين رغم حداثة عهدهما الى  صحيفة المجاهد صوت جبهة التحرير العريقة، الى عشرات المقابلات الأخرى قبل وفي خلال توقيع كتبي. يحدوني فرح كبير، لا بل فرح كبير جدا بان معظم الأسئلة التي يطرحها الزملاء الجزائريون تنبض بالعروبة وبفلسطين وبسوريا وبكل قضية عربية محقة. 
ثم ها هو يوم توقيع كتبي يحين في المعرض الدولي للكتاب. المعرض يزدحم بالزوار خصوصا من جيل الشباب. يروحون ويجيئون كخلية نحل. يحملون عشرات الكتب بأكياس البلاستيك. يهتمون بالكتب المتعلقة بسوريا وفلسطين واليمن والكتب الشارحة أصول الإسلام والشعب والأدب. هنا لا البحث عن منزل ولا الطبابة ولا التعليم يشغل الشباب الجزائري رغم بعض البطالة. ففي الجزائر تم توزيع نحو ٥ ملايين منزل مجانا في خلال العهدة الأخيرة للرئيس بوتفليقة، والطبابة والتعليم مجانيان. أفكر بلبنان فأحزن. 
كان يوم التوقيع أجمل من أن أستطيع وصفه، وأكثر حبا من أن أنجح في التعبير عن شعوري حياله وامتناني لكل من جاء من البعيد وشكري العميق لوزير الاعلام جمال كعوان  الذي جاء يجلس معنا ساعات طويلة وهو المتربع على سنوات طويلة من الخبرة الإعلامية والسياسية في مناصب كثيرة والمثقف الهاديء الطيب المبتسم والمرحب. يغمرني الجزائريون بفرح الاستقبال فأفرح أنا وكتبي التي وقفوا صفوفا طويلة لاقتنائها فكان التوقيع استثنائيا. نضطر لوقف التوقيع، فثمة عشاء يجمع مناضلين عروبيين وقوميين ينتظرنا استعدادا لمهرجان ضخم في ذكرى رحيل القيادي الإسلامي المعتدل والرجل المثقف السموح والداعي للحوار في سنوات الحرب الشيخ محفوظ نحناح الذي ربطتني به صداقة كبيرة رحمة الله عليه. 
غدا : الرحلة الى مدينة السعادة " بوسعادة" ، بوابة الجنوب الجزائري
سامي كليب