يَصعُب علينا الجَزم عمّا إذا كان الرئيس الفِلسطينيّ محمود عبّاس سيتمكّن من تَلبِية دعوة نَظيرِه الروسي فلاديمير بوتين لحُضور المُباراة النِّهائيّة لكأس العالم في موسكو مُنتَصف شهر تمّوز (يوليو) المُقبَل، فالأنباء المُتواتِرة من رام الله حَول صِحّته، ليسَت مُطَمئِنةً على الإطلاق.
الأوساط المُقرَّبة من الرئيس عبّاس مُتكَتِّمة جدًّا في تَسريب أيِّ مَعلوماتٍ عن وَضعِه الصحّي، بتعليماتٍ صَريحةٍ وواضِحةٍ من قِبَل الأجهزة الأمنيّة، والرئيس نَفسِه، وأبنائه الذين يُحيطون بِه، ويَتحكّمون بجدول أعمال تحرّكاته، ويُحدِّدون زوّاره وفَترات اللِّقاء معه، ومُدّتها، حسب ما كَشفته لنا مصادِر وَثيقة، وأكّدت أنٍ التقارير التي أشارت إلى أنّه مريضٌ ومُتعَب، ولا يزور مكتبه إلا لساعاتٍ مَعدودةٍ جدًّا في المساء، ويُجري فُحوصاتٍ دوريّة في أحد مستشفيات رام الله، وبُمعدَّلِ مرّتين أُسبوعيًّا، أقرَب إلى الدِّقّة.
في المُقابِل تَعكِف “القِيادة المُصغّرة” لحركة “فتح” على عقد اجتماعاتٍ مُكثّفة لعناصِرها البارِزة والمُتنافِسة في صِراع الوِراثة، لمُتابعة تطوّرات “صفقة القرن” وما يتّصل بِها من جولاتٍ واتّصالاتٍ، خاصّةً تِلك التي يقوم بها جاريد كوشنر، صِهر الرئيس الأمريكي، ومُساعده جيسون غرينبلات في المِنطقة العربيّة، وزيارة مسؤولين عرب إلى واشنطن وآخرهم العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والتسريبات المُتعلِّقة بمشاريع “السلام الاقتصادي” التي يُقال أنّها تشمل استثمار مِليار دولار لإقامة محطّات كهرباء، وتَحلِية مِياه، وميناء في رفح المصريّة المُلاصِقة لقِطاع غزّة التي من المُتوقّع أن تتحوّل إلى منطقةٍ اقتصاديّةّ حُرّةٍ تُخفِّف من مُعاناة أبناء القِطاع “الإنسانيّة”، وتكون نواة لـ”مَشيَخة” فِلسطينيّة مُستَقلَّة في القِطاع على حد وَصف أحد أعضاء اللجنة المَركزيٍة لحَركة “فتح”.
***
الرئيس عباس لم يُغادِر مدينة رام الله مُنذ أزمته الصحيّة الأخيرة التي شَهدِت تدهورًا غير مسبوق، ابتداءً من التهابٍ رئويّ (وهو مُدخّن شَرِس)، وأزمة قلبيّة حادٍة بذل الأطباء المختصين جُهودًا كبيرةً على مدى 24 ساعة للسَّيطرةِ عليها، ومُعظَم الفريق الطبّي كانوا من الأطباء الفِلسطينيين الذين تعلّموا في أوروبا وأمريكا، وكان من المُفتَرض أن يقوم بجولة عربيّة تشمل مِصر والأردن والمملكة العربيّة السعوديّة لمعرفة ما لدى هذه الدول من معلومات حول “الصَّفقة”، والتعرُّف على مواقفهم تجاهها، ولكنّه ألغاها لسببين: الأوّل أنه لم يَجِد حماسًا لدى بعض هذه العواصِم بسبب مُقاطعته الصَّارِمة لأيِّ لقاءات مع مسؤولين أمريكيين مُنذ اعترافهم بالقدس المحتلة عاصِمةً لدول الاحتلال، والثاني تَجنُّبًا لأي تدهور في صحّته بناءً على نصيحة الأطبّاء الذين يُتابِعون فُحوصاتِه.
أمْرٌ مُؤلِم أن تعيش قِيادة منظمة التحرير الفِلسطينيّة، والشعب الفِلسطيني حالة شلل سياسي، وعُزلة إقليميّة ودوليّة، والبُعد كُلِّيًّا عن دائِرة الفِعل، في مِثل هذا الوقت الحسّاس والخَطير الذي تتعاظَم فيه مُؤامرات التصفية للقضيّة الفلسطينيّة، ووِفق الخُطوط العريضة التي وضعها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بسبب مرض الرئيس وتَركُّز كُل الصَّلاحيات بين يَديه، وما يزيد الإحباط سُوءًا حالة الانقسام الفِلسطيني الحاليّة، واستغلال المُثلَّث العَربيّ الإسرائيليّ الأمريكيّ البَشِع لها.
كان لافِتًا تَصاعُد الحديث أنّ إدارة الرئيس ترامب مُستَعدِّة لتَقديم تنازلاتٍ كُبرى في مَلفّاتٍ إقليميّةٍ مِثل المَلف السوري لصالِح الاعتراف بالنُّفوذ الروسي مقابل إقدام الرئيس بوتين على مُقايَضةٍ في هذا الخُصوص، تقول عناوينها بتخلّي الإدارة الأمريكيّة عن الفَصائِل السوريٍة المسلحة كل سورية والانسحاب مِنها، وإطلاق يد موسكو وحُلفائِها لاستعادة السيادة السوريّة على مُحافظات درعا والقنيطرة وريف السويداء، وإعادة فتح معبر نصيب الحدودي مع الأُردن، مُقابِل تسهيل تطبيق “صفقة القرن”.
دِبلوماسيّة “كأس العالم” التي يَقودها الرئيس بوتين، وجَوهُر بُنودها مُحاولة إنهاء القطيعة بين الرئيس عباس ونتنياهو، وجَمعِهما على مائِدة المُفاوضات مُجدَّدًا تحت المِظلّة الروسيّة، ربّما تبدأ عجلتها في الدَّوران في الأيّام القَليلة المُقبِلة، خاصَّةً بعد زيارة أحَد أبرز مُهَندَسيها من الجانِب الأمريكي جون بولتون، مُستشار الأمن القومي، واحد أكثر صُقور الإدارة الحاليّة شَراسةً في تأييد نتنياهو ومُخَطَّطاتِه في إنهاءِ القضيّة الفِلسطينيّة الى موسكو.
لِقاء عبّاس نتنياهو إذا ما تم في موسكو سَيكون أهم الأوراق التي يَحمِلها بوتين إلى لِقاء القمّة، الذي رتّبه أيضًا بولتون، بينه وبين الرئيس دونالد ترامب في هلسنكي في الفترة نفسها، وقد يتم خلالها تحت ملفٍات أُخرى مَوضِع خِلافٍ بين القُوّتين العُظميين مِثل كوريا الشماليّة، وأوكرانيا، والحَرب في سورية، والاتفاق النووي الإيراني طَبعًا.
مَوقِف الرئيس عبّاس في مُقاطَعة أيِّ لِقاءاتٍ، او استقبال أيِّ مُكالماتٍ هاتفيّة من المَسؤولين الأمريكان حول صفقة القرن التي يَعتبِرها أكبر خطر يُهدِّد القَضيّة الفِلسطينيّة وهو مَوقِف صامِد حتّى الآن فاجَأ الكثيرين ونحن من بينهم، ولكن السُّؤال هو حتّى متى ستَصمُد هذه المُقاطَعة، والأهم من ذلك حتّى متى تَصمِد حالة التعافي الحاليّة في صِحّته، ومدى تَمسُّك المُتصارِعين على خِلافته بِها في حالِ حُدوثِ أيِّ طَارِىءٍ لا سَمَحَ الله، ونَحن نَعلم جيّدًا أنّ من بَينِهم من يُعارِضها، ويُريد استئناف الاتّصالات مع واشنطن من مَنظور “الواقِعيّة”، وبحُجّة الوُجود في قلب الحَدث لمعرفة ما يتم طبخه، وهي النَّغمة الانهزاميّة التي بَدأت تتكرّس مُنذ بِدء مُفاوضات أوسلو السِّريّة.
***
نَتمنّى للرئيس عبّاس أمرَين: الأوّل الصُّمود في التَّمَسُّك بهذا المَوقِف المُقاطِع لأمريكا إلا إذا تراجعت عن تأييدها لضَم القُدس رَغم شُكوكِنا العَديدة، والثاني أن يستمر تعافِيه، ويستعيد كامِل صحّته، للانطلاق مِنه، أي المُقاطَعة، إلى المَرحلة الأهَم وهي مُواجَهة هذا الخَطر، وإن كان أمَلنا ضَعيفًا في هذا المِضمار أيضًا، ولكن لا بَأس على طريقة تفائَلوا بالخَير تَجِدوه”.
رِهانُنا الحَقيقيّ يَظَل على الشَّعب الفِلسطينيٍ الذي يُعتَبر الضَّمان الوَحيد بالنِّسبةِ إلينا والمَلايين مِثلنا، لإحباط كُل هَذهِ المُخطَّطات، والتَّصدِّي لكُل الذين يَقفِون خلفها، سواء أمريكان كانوا أم عَرَبًا أم إسرائيليين، فهذا الشَّعب لم يَخيب ظنّنا مُطلقًا ورَصيده الهائِل في المُقاوَمة والتضحية الذي تَراكَم على مَدى مِئَةِ عامٍ يَشهَد له.
هذه الصَّفقة لا يَجِب أن تَمُر، ويَجِب فضح كُل المُتورِّطين فيها، والمُروّجين لها، والمُتواطِئين في مُخطَّط تَمريرِها وتَمويلِها، فهِي أخطَر من وَعْد بِلفور، وسايكس بيكو، ونَكبة عام 1948، لأنّها، وباختصارٍ شَديدٍ، نِهاية القضيّة الفِلسطينيّة وبِدء العَصر الإسرائيليّ اليَهوديّ.
عبد الباري عطوان