سعدتُ بحضور المؤتمر الثالث لـ«منتدى تعزيز السلم فى المجتمعات المسلمة» فى أبوظبى.. التقيتُ علماءَ ودعاة.. وتحدّثت مع ساسةٍ ومثقفين.. من قاراتٍ مختلفة.. ومدارس متباينة.
وقد استمعتُ باهتمامٍ بالغٍ إلى كلّ ما قاله العلامة الشيخ عبدالله بن بيّه.. الذى تحدّث بوضوحٍ وحسمٍ فى موضوعٍ شائكٍ وخطِرٍ.. هو: «الخلافة الإسلامية والدولة الوطنية».
(1) الشيخ العلامة عبدالله بن بيّه هو واحدٌ من كبار العلماء فى القرنيْن العشرين والحادى والعشرين.. ولد فى موريتانيا، وكان والده قاضياً مرموقاً ورئيساً لمؤتمر العلماء الموريتانيين.. ومناضلاً عظيماً ضد الاستعمار.
واصَلَ العلامة بن بيّه سيرة الوالد فى الدين والسياسة.. حيث تولّى عدة حقائبَ وزارية، وشارك فى مؤتمراتٍ عربيةٍ ودوليةٍ عديدةٍ.. وعمل فى العديد من المؤسسات والهيئات كان أبرزُها موقعه فى الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين.. نائباً للشيخ القرضاوى، ثم رئاسته «منتدى تعزيز السلم».. بعد مغادرته الاتحاد العالمى.
(2) حظى الشيخ باهتمام عالمى لسنوات طويلةٍ، ثم زاد الاهتمام بفكر الشيخ بعد أن استشهد الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى كلمةٍ له بالجمعية العامة للأمم المتحدة بإحدى مقولات العلاّمة الموريتانى.. وقد راجتْ الجملة الذهبية التى اختارها «أوباما» فى كل مكان فى العالم.. يقول الشيخ: «يجب أن نعلن الحرب على الحرب.. لتكون النتيجة سِلماً على سِلْم».
يحظى الشيخ بن بيْه باحترامٍ واسع فى الدوائر الإسلامية.. يصِفه البعض بـ«العالم الربّانى المجدِّد».. ويثنى الكثيرون على رؤيته فى التسامح والسلام.. وحسب تعبير أحدهم: «إنه يجمع ولا يفرِّق.. ويُنير ولا يثير».
أثارت آراء الشيخ فى التصوف غضباً لدى الأوساط المحافظِة.. لكنه مضَى فى طريقه يقول: «إن التصوف هو أحد العلوم الإسلامية.. وتجديد التصوف ووضعه فى صحيح إطاره.. هو إحياءٌ لعلوم الدين.. ذلك أن العلماء قد أصّلوا له كما أصّلوا فى الفقه».. «إن شيخ الإسلام ابن تيمية كان مجدِّداً فى التصوف.. كما أن الشيخ ابن القيّم، كان مجدّداً هو الآخر فى كتابه «مدارج السالكين».
(3) أثارتْ آراءٌ أخرى للعلامة بن بيّه الأوساطَ الجهاديةَ غيْر أنّه مضَى أيضاً يوضِّح ويشرح: «إن تقسيم العالم الإسلامى إلى داريْن: دار الإيمان ودار الكفر.. كان لهُ سياقهُ التاريخى.. حيث كان المغول يغيُرون على أراضى المسلمين وبلدانهم.. والآن يجب إعادة النظر فى ذلك فى ضوء التغيّرات السياسيّة».. «إن فتوى ماردين التركية قبل (700) عام، التى قال بها الشيخ ابن تيمية، قد تم تحريفها لتصبح أساس فتاوى الجهاد والولاء والبراء.. لقد تم التحريف أثناء الطباعة.. إلى: «يُعامَل المسلم بما يستحقه، ويُقاتَلُ الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه».. وقبل التحريف كان النص: «يُعامَل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه».. ثم تغير «يُعامَل» إلى «يقاتل».
(4) يتحدث الشيخ بن بيّه عن بدايات الثورة الإيرانية بتقدير، لكنه باتَ يناهض التبشير المذهبى.. وعمليات تشييع السنة فى أفريقيا والعالم.. يقول: «تمّ النظر إلى الثورة الخمينية فى البداية على أنها ضدّ الاستعمار.. لكنّها تمدّدت فيما بعد بشكلٍ خطيرٍ.. وبدأتْ تسعى للتموقُع الشيعى فى غرب أفريقيا.. وهذا يؤدى إلى خللٍ أمنى وفكرى.. هذا ليس فى مصلحة إيران، والسُّنة لا يمكن إزالتهم فى هذه المناطق.. يمكن إقامة علاقات ودية مع إيران، لكن دون أن تكون إيران مذهبيّة تسعى لتشييع السُّنة فى العالم».
(5) انطلق الشيخ العلامة بن بيّه فى «منتدى تعزيز السلم» أبوظبى 2016 إلى القضية الأكثر صعوبة وإرباكاً.. إلى قضية «الخلافة» و«الدولة الوطنية».. وإلى الأرواح التى زُهقت فى بلاد المسلمين فى الطريق إلى تحقيق «الخلافة».
قال الشيخ: «إن راية الخلافة التى يحملها المتطرفون.. رايةٌ وهميةٌ، ولا تقومُ على أسسٍ شرعيةٍ».. «إن دولة الخلافة هى صيغةُ حُكمٍ غير ملزمة.. ولا يجوز نزع الشرعية من الدولة الوطنية».. «فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم كانت توجد دولة أخرى على رأسها ملكٌ مسلم.. هو النجاشى الذى أسلم، وتركه النبى صلى الله عليه وسلم فى مُلكِهِ هناك فى الحبشة، ولم يأمرهُ بالهجرة أو المجىء إليه».. «لقد تجاوز علماؤنا ذلك، وذكروه فى باب الجنائز.. حين أطلعَ الله نبيّهُ غيباً على وفاة النجاشى.. فقام وكبَّرَ أربع تكبيرات عليه».. «إن دولة الخلافة وهم.. وقتل النفوس من أجلها لا مبرر له شرعياً».
(6) يحظى الشيخ بن بيّه باحترام واسع لدى مسلمى العالم، وتحتل آراؤه وفتاواه مكانةً رفيعةً لدى الأقليات المسلمة فى أوروبا وأمريكا، وفى عام 2009 احتل موقعاً بارزاً من بين الشخصيات الإسلامية الأكثر تأثيراً فى العالم بحسب استطلاع جامعة جورج تاون.. ويلخِّص عنوان كتابه «خطاب الأمن فى الإسلام».. خلاصة المشروع الفكرى للعلاّمة بن بيّه.. وتحمل أحاديثه طريقاً رئيسياً بارزاً: انتقال المسلمين من وضع «الأمة الخائفة» إلى وضع «الأمة الآمنة».. ومن «جغرافيا الدم» إلى «جغرافيا السلام».
(7) يحتاج الفكر السياسى عند العلامة بن بيّه إلى ندوةٍ وكتابٍ.. إلى قراءةٍ وتحليلٍ ونقاشٍ.. ذلك أن كثيراً من إنتاج الفكر السياسى الإسلامى بعد «الإمام محمد عبده» كان أسير تياراتٍ وتنظيماتٍ قادت إلى تدمير المكان وإنهاء المكانة.. واليوم تحتاج «العلوم الاجتماعية».. من «العلوم السياسية» إلى «العلوم الشرعية».. إلى البحث فى نظرياتٍ جديدةٍ ورؤى جديدةٍ.. لإنقاذ أُمَّتِنا من حافة الهاوية.. وإعادتها إلى التاريخ من جديد.
إن تجديد الفكر الإسلامى.. هو فى الواقع تجديد المفكرين.. فلا منابر بلا خطباء، ولا شاشات بلا متحدثين.. ولا تجديد بلا مجدِّدين.. فى قولةٍ واحدةٍ: المجدِّدون هم الحل.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر