
ما زالَ كيم جونغ أون، زعيم كوريا الشماليّة قادِرًا على إطلاقِ المُفاجآت، الواحِدة تِلوَ الأُخرى، واحتلالِ العَناوين الرَّئيسيّة في صُحُف ومَحطَّات التَّلفَزة في الشَّرق الأوسَط والغَرب على حَدٍّ سَواء، والقِمّة التي عَقَدَها اليوم الجُمعة مع نَظيره الكُوري الجَنوبي كون جيه ـ ان، على الحُدود الفاصِلة بين الكُوريّتين، أحد أبرَز الأدلَّة في هذا الصَّدَد.
ربّما يكون من الحِكمة عدم التَّسرُّع، والمُبالَغة في تَضخيم حَجم هذهِ القِمّة ونَتائِجها، رغم اعترافِنا المُسبَق بأهميّتها، واعتبارِها سابِقَةً تاريخيّةً سَتكون لها انعكاساتها السِّياسيّة في مِنطَقة جنوب شرق آسيا بِرُمَّتِها، فالطَّريق ما زالَ طَويلاً للوُصولِ إلى اتّفاقِ سلامٍ بين الكُوريّتين.
صحيح أنّ الزعيمَين الكُوريّين تصافَحا أمام عدسات التَّلفَزة، وعَبَرَا سَوِيًّا الفاصِل الحُدودي في لَفتَةٍ رَمزيّةٍ، وتَعهّدا بالعَمل على نَزع السِّلاح النَّووي من شِبه الجزيرة الكُوريّة، وتحقيق اتّفاقِ سلامٍ دائِمٍ وراسِخ، ولكن حتى يتم تحقيق جَميع هذهِ الوُعود والتَّعَهُّدات لا بُدًّ من إجراءٍ مُفاوضاتٍ وتَقديم تنازلاتٍ، تُوَفِّر حُسن النَّوايا، وتحييد التَّدخُّلات الخارِجيّة والأمريكيّةِ مِنها على وَجه الخُصوص.
الرئيس كيم ذَهب إلى هذهِ القِمّة بإصدارِ قرارٍ بتَجميد جَميع التَّجارِب النَّوويّة والصَّاروخيّة الباليستيّة كبادِرَة حُسن نِيّة من جانِبِه، ولكن قد يَجوز القَول أنّها استنفذَت مُعظَم، إن لم يَكُن جَميع أغراضِها، فكوريا الشَّماليّة أصبحت قُوَّةً تَملُك الرَّدع النَّووي، وطَوَّرت صواريخ باليستيّة تَصِل إلى كاليفورنيا وواشنطن ونيويورك، ولا نعتقد أنّه سيتنازَل عن هذهِ المُكتَسبات المِحوريّة دُون أن يكون المُقابِل سَحب 28 ألف جُندي أمريكي من قَواعِدهم في كوريا الجَنوبيّة، وإزالَة المِظلَّة النَّوويّة الأمريكيّة، وهذا ما تَرفُضُه واشنطن.
الطَّريق ما زالَ طَويلاً جِدًّا، ومَليء بالألغام الأمريكيّة على وَجه الخُصوص، لأنّ أمريكا التي استثمرت مِئات المِليارات من الدُّولارات في كوريا الجنوبيّة مُنذ حرب عام 1950 ستَستسلم بِسُهولة وتَرمي الفُوطة، ولكن مَيل زعيميّ البَلدين إلى المُصالَحة وإنهاء حالة الحرب، والجُنوح للسَّلام تَطوُّرٌ مُهِم يَبعَث على التَّفاؤل.
العِبارة الأجمَل والأقوى التي وَردت على لِسان الرئيس الكوري الجنوبي وقال فيها “نحن أُمّة واحِدة ولا يوجد هُناك سبب لِكَي نتقاتل” تُلَخِّص الرُّوحيّة الجَديدة التي باتَت تسود شِبه الجزيرة الكُوريّة وتُوحِي بالرَّغبةِ في التَّعايُش المُشتَرك، بعيدًا عن التَّدخُّلات الخارِجيّة، والأمريكيّة مِنها على وَجه الخُصوص.
سَتُثبِت الأيّام أنّ الزَّعيم الكوري الشَّمالي كيم جونغ أون رَجُل على دَرجةٍ عالِيةٍ من الدَّهاء السِّياسي، فهُو يَذهَب إلى مائِدة المُفاوَضات، سَواء مع نَظيره الجَنوبي، أو مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من مَوقِعٍ قَويّ، ومُسَلَّحًا بِتَرسانةٍ نوويّةٍ وصاروخيّةٍ باليستيّة، الأمر الذي قد يُؤدِّي إلى تَحقيق مُعظَمِ مَطالِبه، إن لم يَكُن كلها.
لَيتَ الزُّعَماء العَرب، إذا كان هُناك زُعماء فِعلاً، يَتعلَّمون من تَجرِبة كوريا الشماليّة سِياسيًّا وعَسكريًّا، وتَفاوُضِيًّا، وأوّل فُصولِها السَّلام المُرتَكِز على القُوّة والنِّديّة وحِفظ الكَرامة الوَطنيّة وُصولاً للتَّعايُش.
“رأي اليوم”