تعتبر أهم التجارب الأدبية في موريتانيا في فترة ما بعد الاستقلال، تجارب فنية تأسيسية، رام أصحابها بناء مشهد ثقافي راسخ يتماشى وأصالة البلاد وهويتها من جهة، ومنفتحة على مستجدات العصر ومظاهر التحديث من جهة أخرى. فكان الأدب محملا للهموم والهواجس التي أرهقت عامة الشعب وخاصة الطبقة المثقفة والتي عملت السلطة على استبعادها وإخماد صوتها، كما حاولت أن تجهض أي حلم قد يهدد وجودها ويزعزع مكانتها. فاضطهدت المعارضين خاصة من أبناء التيار الاشتراكي وغيرهم من تيارات المعارضة. كما حرصت على إجهاض أي مشروع فكري أو ثقافي جاد من شأنه أن يعري سلطة الولاءات ومظاهر العبودية. وردا على هذه السلطة القمعية لكل ما هو ثقافي توعوي، صدحت أشعار أحمدو ولد عبد القادر و ناجي محمد الإمام والخليل النحوي وفاضل أمين وولد الشيخ بلعمش والتقي ولد الشيخ وغيرهم. وقد شهدت الساحة الأدبية الموريتانية تنوعا وثراء كبيرين في مختلف الأجناس قصة ورواية وأقصوصة وشعرا فصيحا وعاميا عموديا وحرا. ولكن يجدر بنا في هذا المقام أن نلفت الانتباه الى حالة التهميش التي طالت الأدب الموريتاني. فرغم هذا التنوع بقيت التجارب الإبداعية الموريتانية في نأي عن الدرس والتمحيص. اذ تجاهلتها مؤسسات النقد والبحث في العالم العربي إلا ما ندر. ونحن إذ نتحسس بعض ملامح هذه التجارب، تستوقفنا تجربة الشاعر الكبير "ناجي محمد الإمام".
متنبي موريتانيا
هو شاعر موريتاني ولد سنة 1956، في بادية الدوّارة ببلدية صنقرافة في ولاية البراكنة وسط موريتانيا. أطلق عليه الشعراء العرب لقب متنبي موريتانيا في مهرجان الشعر المقاتل بسبها ليبيا عام1980. نشأ في بيت محافظ مشهور بحب العلم والسعي في طلبه. اشترك سنة 1971 مع الخليل النحوي و محمد كابر هاشم في تأسيس تنظيم للشعراء الموريتانيين بدأوه بفكرة رابطة أقلام الصحراء، ليصير اسمه رابطة الأدباء والفنانين، قبل أن يصبح اتحاد الأدباء والكتاب الحالي، وتولى رئاسة مجلسه الأعلى منذ إنشائه. وهو مؤسس ورئيس مجلس أمناء جمعية الضاد لنشر اللغة العربية والدفاع عنها. في سنة 1974 التحق بإذاعة موريتانيا، ثم انتقل بعد ذلك إلى قطاع الثقافة، وشغل فيه مناصب عديدة، منها مستشار وزير الثقافة، وأمين عام اللجنة الموريتانية للتربية والثقافة والعلوم، ومدير عام الثقافة والفنون. شكلت مدونته في الشعر والرواية تجسيدا لما تحياه الذات في موريتانيا خصوصا والذات العربية عموما من هموم وانكسارات وأحلام وانتظارات، ولعل من أهم أعماله في الشعر ديوان "الأفق الدامي" و"إلى امرأة لا أعرف اسمها"، و"سيدة زرقة البحر" و"شاطئ البوح". ومن أهم أعماله الروائية نذكر "العبقري وشرطي الإمارات"، و"الشاطئ اللازوردي". مثلت أشعاره رسائل حب ووفاء للذات وللآخر بلغة سلسة وراقية ومتأصلة وفية لمعانيها ولقوة إنشائيتها وتعبيراتها. يقول في احدى قصائده مخاطبا حبيبته:
وتنثرين ظلالَ الطلِّ في الطَّللِ ألوانَ ليلة عيد النرجس الثَّمِل
وتنشرين دمقسا بين أجنحتي.. وتكتبين أفاويق الصبابة لي أنا ..
أنا..أنتِ من أهدى إلى لغتي سر العلاقة بين العطف والبدل
أنا أنا من حكى عن لون أشرعتي سواك للصبح للإشراق للطَّفَل
قد يعتريني صُمات حين تفْجَأُني عينٌ محجلةٌ بالنور فاحتملي
تُنَـزِّلُ الشعرَ طاؤوساً على شفتي غَيْمًا من المسك أوجَبْحاً من العسل
سبنيةً لصبايا الشام سابغة ربُّ القصيد أنا ألبستُها حُلَلِي
لم يبق حرفٌ و لارمزٌ ولا لغةٌ إلاّ رسمتُ به أيقونة الغزل
أنا الذي راقص الأجفانَ غافيةً قافيةً فاستحالت مضرب المثل
يا أنتِ أنت التي توَّجتُها قمراً قدِّيسةَ العشق إني سيدُ الجُمَل
إن المتأمل في هذه الأبيات يلاحظ بيسر وفاء الإمام لعمود الشعر وهو يوقع قصيدته، فتنساب كما لو كانت قطعة موسيقية محكمة البناء. يطرزها الشاعر بجملة من الصور والتشابيه المثيرة، والتي تحيلنا على سجلات دلالية أصيلة، كأن يلازم بين حبيبته وأثر وجودها وبين معاني النور والإشراق واللمعان، إضافة الى استحضار صورة الغيمة وما تحمله من دلالات الخصب والعطاء وما يحيل عليه المسك من طيب الرائحة وجميل الأثر، ناهيك عن حلاوة العسل وروعته. يزاوج الشاعر بين هذه السجلات ويجمعها في صورة واحدة تختزل وجود المرأة الرمز التي أهدت لغته كل قيمتها ومعانيها. ومع ذلك نلاحظ أن الشاعر سرعان ما ينزاح عن التغزل بالمعشوقة ليفاخر بقدرته وفصاحته وتمكنه الفائق من تطويع اللغة والتلاعب بها كيف شاء. وهذا ليس بالغريب على شاعر مولع باللغة مفتون بها متأصل في عروبته، ولا يفوّت فرصة للمفاخرة بها. وفي مناسبة أخرى يستحضر الشاعر صورة البحر وفتنته والشاطئ وامتداده وألوان الطرب والموسيقى وهو يتغزل بحبيبته.
يستلهم من البحر .. ويناجيه
ولعل أول ملاحظة قد تتبادر لمتصفح سيرة الإمام علاقته بالبحر والشاطئ الذي بدا في غير غلو أحد أبرز ملهماته. وهو ما نستشفه منذ العتبات الأولى لمؤلفاته. كيف لا وهو الموريتاني إبن الصحراء وطفل المحيط تتأرجح حياته بين امتداد السمراء وزرقة الأمواج. فقد مثل البحر.. بأمواجه المتلاطمة، وسواحله المترامية، وأسراره الغامضة، وصوته الذي لا يعرف الكلل، الملهم والرفيق والخليل الذي يناجيه ساعة الضيق والوحدة وقلة الحيلة، يلقي فيه الشاعر من روحه فتتفجر القصائد عذبة رقراقة مسكونة بعذابات قائلها. يقول الإمام:
أَمن بعد عقدين ما زلت سيدة الشاطئين...
تحومين بينهما كقناة من الثلج أو قنطرة
أما زلت تختصرين المساء بِكَمْ كوبِ شايٍ ،
وكمْ مقطعٍ في البيانو
وما يعلم الله من قهوة ساذجة
ولسـتُ هناك لكي أشهدا بأن “موزرتَ ”
..إذا سكن الليل حين تنامين
كالنغمة السادرة
يدب دبيب الغرير،
إليك يقبل رخص أناملك الطاهرة
يقول ألا سلمتْ …سلمتْ وسلمتِ
لقد كنت سيدتي باهرة ..
المزاوجة بين العمودي والحر
ويعمل ناجي محمد الإمام أحيانا وفي مختلف دواوينه على ايجاد نوع من التداخل الشكلي بين القصيدة الحرة والقصيدة العمودية، سعيا وراء تحقيق مزاوجة موسيقية وفنية تطرب لها أذن المتلقي. علما أن جمهور الشعر قد تعود على نغمية عالية منذ الشعر الجاهلي وشعر الأولين... لذلك سيبدو من الصعب التخلص من أهم خصيصة أجناسية تسم هذا الجنس الأدبي عن سواه، دون أن يحيد عما قد تحمله القصيدة من شحنة دلالية ودرامية. فقصائده تقوم على ايجاد توازن وتناسب بين المستوى الايقاعي والمستوى الدلالي، فاستحضار الجانب الموسيقي هنا لم يكن بمجرد التعويل على تقفية الأسطر ونضد المرادفات الصوتية (عقدين=شاطئين) (قنطرة=سادرة=طاهرة=باهرة) بل قام باستدعاء صورة البيانو ووخز الأنامل وألحان "مزرت" وسكون الليل، لتكون بذلك القصيدة احتفالية موسيقية بامتياز.
ولعل رأينا هذا قد يتدعم ويتجلى أكثر في قصيدته التالية:
تعلمتُ... ذات بكور .. وماءُ السماء.. يسيل انهمارا..
ودمعي يسيح انهمالا. . صباغةَ وجهي برمش المطر..
فأدمنتُ إيقاع حباته .. على سقف حافلة تتهادى.. تكاد مساندها تتهاوى ككل عتيق لها نكهة كأحاجي السمر..
لأن التي رهنت لغتي لهواها..
أطلّتْ وألقتْ على الراحلين السلام.. ثم استدارتْ...
لتمسك مزلاج باب الخروج
رمتني بنظرة شوق وقالتْ دون كلام:
سلاما..
فقلتُ بكل الحروف: تَمامًا..
قصائد تلامس الواقع بشفافية عالية
تكرس هذه القصيدة علاقة الشعر بالواقع. وترسخ لدينا قناعة أن الشاعر كائن مميز قادر على أن يخلق من صور بسيطة وعادية مألوفة ويومية قطعة فنية ولوحة شعرية فريدة، قوامها حس جمالي مرهف يجعل من كل تفصيلة من تفاصيل الصورة أيقونة ولحظة وحي إبداعي. ولعل ما تفيض به هذه القصيدة من طباقات ومقابلات بين الإيقاع والصمت، وبين محاكاة صوت المطر وصمت المسافة، وما بين قوة الحرف وسلطة الإشارة والإماءة، إنما يعكس ما تعجّ به الحياة الواقعية من مفارقات وتناقضات بعضها ملموس وبعضها متوار نتحسسه في صمت ونمضي. إلى هنا نخلص الى أن "ناجي محمد الإمام" هو واحد من أهم التجارب الشعرية والأدبية عموما في موريتانيا. وتجربته هذه تستحق أن يغدق عليها حقل النقد الكثير، خاصة وأنها تلامس الواقع بشفافية لافتة، وتحاكي هموم الإنسانية عموما. قصائده مترعة بالحب والأمل والحياة تعري هنات المجتمعات العربية وخيباتها وتفتح أفق الانتظار على وطن أكثر رحابة وسماحة وعلى أكوان أكثر جمالية لا سلطة فيها الا للإنسان المبدع والمجدد والفاعل. رغم الملوحة والآثام و القلق * والصيف و الحيف والآلام و العرق * رغم التمزق و الأحقاد يزرعها* موتى الحياء وموتى الدين والخُلق*
مازال، لازال ، في الأنفاس متَّسع * للخير للحب للإنسان للألق
مازال، لازال فينا الفضل ما صهلتْ * خيل ابن آمنة مزمومة العَرَق
* لابُدَّ لا بُدَّ ، والرؤيا مؤكدة* أن يسطع النور ـ حتماً ـ آخرَ النفـــق*
نقلا عن صفحة الدكتور ناجي محمد الإمام