لقد تفاءل الكثيرون بالإعلان عن تنظيم لقاء بين الرئيس والصحافة، خاصة بعد أن تم اختيار مساء الخميس (ليلة الجمعة) كموعد لهذا اللقاء، فليلة الجمعة كانت هي الليلة الفاصلة بين زيارتين : زيارة الحوضين التي استغرقت عشرة أيام، والسفر إلى "شرم الشيخ" للمشاركة في القمة العربية،
ولذلك فقد كان من المفترض أن يخصص الرئيس ليلة الجمعة للراحة، ولكن أن يعلن الرئيس بأنه سينظم خلال هذه الليلة بالذات مؤتمرا صحفيا، فإن ذلك قد بعث في النفوس أملا، وقد جعل البعض يتوقع بأن هذا المؤتمر الذي سيتم تنظيمه في ليلة فاصلة بين زيارتين لابد وأنه سيأتي بجديد.
لقد توقع الجميع أن يأتيَّ المؤتمر بجديد، ولكن المؤتمر لم يأت بأي جديد، ولم يختلف ـ في هذه الجزئية ـ عن زيارة الحوضين، فإذا كنا قد عجزنا عن معرفة الأهداف الحقيقية من زيارة الحوضين في هذه الفترة، فإننا أيضا قد عجزنا عن معرفة الأهداف الحقيقية من تنظيم مؤتمر صحفي في ليلة فاصلة بين سفرين، خاصة وأن المؤتمر لم يأت بأي جديد.
ورغم أن المؤتمر لم يأت بأي جديد، إلا أنه مع ذلك قد بعث برسائل سلبية وغير مشفرة إلى عدة صناديق بريد، وكان من بين تلك الرسائل:
إني أعزيكم في "اسنيم"
لقد كانت أولى تلك الرسائل الغير ودية هي تلك الرسالة التي أبرقها الرئيس إلى عمال "اسنيم" المضربين، والتي كان مفادها بأنه لا حوار معهم من قبل العودة إلى أماكن العمل، وبأنه لا أمل في الاستجابة لمطالبهم من قبل أن يرتفع سعر الحديد من جديد، فالاستجابة لتلك المطالب في مثل هذا الوقت ستؤدي إلى إغلاق الشركة.
لقد اختار الرئيس أن يكون في صف الإدارة، وأن يصدق تقاريرها التي تقول بأن الإنتاج لم ينخفض. كما أنه نفى أن يكون قد بعث بمفاوض مما يعني أن النائب "با ببكر يحيى" كان قد انتحل صفة ليست من حقه. وفي المحصلة فإن الرئيس قد سد كل الأبواب أمام حل أزمة "اسنيم"، ويبدو أنه ما يزال يراهن على فشل الإضراب، وهو ما يعني بأن الشركة مقبلة على أيام عصيبة قد تكون هي آخر أيامها في دنيانا الفانية.
الحوار ..البقية في حياتكم
ومن الرسائل التي أرسلها الرئيس، وعبر البريد السريع، رسالة إلى المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، وتقول هذه الرسالة بأنه لا استجابة لأي ممهدات من قبل انطلاق الحوار، وبأنه لن يكون هناك أي تعهد صريح بعدم تعديل الدستور، وبأن أيام الهدنة مع المعارضة قد انتهت، وبأنه لا فرق بين الرئيس عزيز في العام 2009 والرئيس عزيز في العام 2015، ولا فرق بين خطابه في العام 2009 وخطابه في العام 2015، فالسلطة كانت ـ ولا تزال ـ تدعو إلى الحوار، والمعارضة هي من كان يرفض ذلك الحوار، كما أنها، أي المعارضة، هي السبب في كل مشاكل موريتانيا، هذا فضلا عن كونها كانت ـ ولا تزال ـ قبلة للمفسدين.
لقد تحدث الرئيس في مؤتمره الصحفي بطريقة مستفزة، ولابد أنها ستجعل دعاة الحوار في المنتدى يراجعون موقفهم وينضمون إلى الفريق الذي ظل يشكك في جدية دعوة السلطة للحوار.
لكم بلاكم.. ولنا بلادنا
الرسالة الثالثة كانت موجهة ـ وعبر البريد المضمون ـ إلى المواطن العادي ومفادها بأنه لا احتمال يلوح في الأفق بتخفيض أسعار المحروقات، ولا أي أسعار أخرى.
المستفز في الأمر هو أن الرئيس قد تحدث عن أثر رجعي لارتفاع أسعار المحروقات، ولكنه لم يقبل بأن يكون لارتفاع أسعار الحديد مثل ذلك الأثر الرجعي، فسعر الحديد كان مرتفعا في السنوات الماضية، ولكن ذلك الارتفاع لا يُراد له أن ينعكس اليوم على عمال "اسنيم" بحجة الانخفاض الحالي في سعره. أما المحروقات فكانت أسعارها مرتفعة في الماضي، ولكنها انخفضت اليوم، ومع ذلك فإنه يطلب من المواطن أن يتحمل في حاضره ما حصل في الماضي من ارتفاع في الأسعار، فأيُّ منطق هذا؟
لقد تحدث الرئيس في مؤتمره الصحفي وكأنه في موريتانيا توجد دولتان، إحداهما خاصة به وأحوالها بخير، وهي في تطور مستمر، والثانية خاصة بنا نحن عامة الناس، وهي بائسة ولا يتحسن حالها أبدا.
فمثلا، ففي موريتانيا الرئيس فإن البطالة لا تتجاوز 10% أما في موريتانيا الأخرى فإن البطالة تصل إلى 30%، وفي موريتانيا الرئيس فإنه لا فرق من ناحية العمران بين تجمع "ترمسه" و مدينة "الشامي". أما في موريتانيا الأخرى فإنه لا مجال إطلاقا لمقارنة مدينة"الشامي" مع تجمع "ترمسه" أو مع مدينة "أنبيكت لحواش" .
في موريتانيا الرئيس فإن كبير العمد هو مواطن صالح قد أنعم الله عليه بعرق جبين ثمين جدا، ولكن مشكلة هذا المواطن الصالح هي أن البعض يحسده ولأسباب سياسية وجهوية أيضا. أما في موريتانيا الأخرى فإن كبير العمد هذا كان قد استولى على أموال طائلة من أموال الشعب الموريتاني، ودون وجه حق، وبالمناسبة فإن النسبة التي تحدث عنها الرئيس في مؤتمره الصحفي (60%) لم تكن صحيحة، ولا تختلف في عدم دقتها عن العملية الحسابية التي أجراها الرئيس بعد حديثه عن تلك النسبة.
لقد كان المؤتمر الصحفي للرئيس محبطا ومخيبا للآمال، ويمكن القول بأنه كان أسوأ مؤتمر صحفي يعقده الرئيس منذ انقلابه في السادس من أغسطس من العام 2008 وحتى اليوم. لم تكن المعلومات والأرقام التي قدمها الرئيس بدقة المعلومات والأرقام التي كان يقدمها في الماضي، وقد ظهر الرئيس في هذا المؤتمر وهو مشتت الأفكار، وفي غاية الارتباك، ولعل ما حصل في بداية المؤتمر من تشنج ومن قطع للبث لهو خير دليل على ذلك.
إننا أمام رئيس غريب الأطوار، ففي الأمس، وبينما كانت المعارضة في غفلة عن الحوار، فإذا بالرئيس يفاجئها ويدعوها من خلال وثيقة الوزير الأول إلى حوار جدي يناقش كل شيء: ما كان يخطر ببال المعارضة، وما لم يخطر لها يوما على بال. ولما تحمس الجميع إلى الحوار، ولما أيقن الجميع بأنه قد أطلنا زمان الحوار، فإذا بالرئيس الغريب الأطوار يعقد مؤتمرا صحفيا في ليلة فاصلة بين سفرين، وإذا به يبشرنا خلال "مؤتمر الخيبات"، حتى وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، بأنه قد قرر، وحتى أشعار آخر، بأن يسحب دعوته السابقة إلى الحوار.
لقد كان من الأفضل للرئيس أن لا يدعو أصلا لمثل هذا المؤتمر الذي خيب آمال الجميع: من عمال مضربين، ومن ساسة، ومن عاطلين عن العمل، ومن مواطنين عاديين، حتى أهلنا في الحوضين فقد خيب هذا المؤتمر آمالهم، ففي هذا المؤتمر لم يتم الحديث عن الثروة الحيوانية، ولم يتم طرح أي سؤال عن الجفاف الذي يهدد المنطقة.
حفظ الله موريتانيا.