حلّت -قبل أيام- الذكرى السنوية الرابعة لوفاة أخ فاضل -قلّ مثيله- في الجالية الموريتانية في أمريكا, و رغم زحمة الحياة و مشاغلها الطاغية من غِنى مُطغ و فقر مُنسٍ ُإلا أن ذكرى هذا الأخ الكريم و ذِكرَه لم يفارق مُخيلاتنا و ألسنتنا, فهو الغائب الحاضر, و الألسنة تلهج بالثناء عليه و تبتهل بالدعاء إلى الخالق الغفور الرحيم- بالدعاء له كل صباح و مساء بالمغفرة و الرحمة. إنه أخونا الفاضل محمد ولد محمد سيدي (ولد سيدي عبدُ الله ولد الحاج ابراهيم) المولود في مدينة بوكي سنة 1977 و المتوفى في مدينة سنسناتي أوهايو يوم الأربعاء 16 مارس 2011.
درس الفقيد في المدارس الموريتانية و حصل على شهادة باكلوريا التعليم الثانوي بتفوّق -شعبة العلوم الطبيعية- سنة 1999, ثم يمّم وجهه شطر الولايات المتحدة للدراسة , فسجّل في قسم اللغة الانكليزية بجامعة لويزفيل بولاية كنتاكي , و قد أتقن اللغة الانكليزية , و سجّـل-لاحقا- في كلية سننساتي التقنية.
التقيتُه -أول مرة- في مدينة لويزفيل أواخر عام 2001 م , و لا تزال تلك الابتسامة المرسومة على مُحيّاه -حين رأيته أول مرّة-عالقة بمخيّلتي , و لم يزل يحتفظ بنفس الثغر الباسم و الوجه الوضّاء حتى آخر لحظة من حياته حين كان يُكلّم بعض إخوته دقائق قبل وفاته -شهيدا- بإذن الله.
عـُرف الفقيد-رحمه الله- بحُسن الخلق و الاستقامة و المواظبة على الذكر و الدعاء و الصلاة في الوقت و الجماعة و سَماع المُحاضرات و الدروس الدينية و الابتعاد عن الغيبة و سفاسف الأمور, و كان -رحمه الله- خدوما : يخدم الناس بترجمة الوثائق و المستنَدات و الذهاب معهم إلى العيادات و المستشفيات, و كان من أوائل الذين أدخلوا التقنيات (الهواتف الذكية و الأجهزة الألكترونية و برامجها و تطبيقاتها) إلى كثير من البيوت الموريتانية , و ساعد في ربطهم بالوطن من خلال توفير بعض أجهزة الاستقبال الرقمي (التي توفّر قنوات عربية و إسلامية منها التلفزيون الموريتاني) و كان يشتريها أو يؤجرها -باسمه- و يقوم بتركيبها و ضبطها و إصلاحها , و قد بقي بعضها مؤجرا باسمه -حتى بعد وفاته- رحمه الله.
اشتغلتُ معه كثيرا و جالسته كثيرا و مررنا بظروف صعبة و أيام رخاء و هناء, و ما رأيته إلا باسما صبورا و شاكرا و خدوما و متواضعا لله , محبّا للخير و أهله, و هو أوْلى بقول الشاعر :
تراه -إذا ما جئتَه- مُتهلّلا** كأنّـك تُعطيه الذي أنت سائله
و قد كان -رحمه الله- يحب الدعابة دون مغالاةٍ أو ولوجٍ للحرام, و كان كثيرا ما يُشاهد الداعية السعودي : سعود الجبيلان -الذي يُشبه الشيخ محمد ولد سيدي يحي -حفظه الله في أسلوبه و طريقة تدريسه- و قلّما شاهدتُ الداعية الجبيلان إلا ضحكتُ و بكيتُ...ضحكتُ لأسلوبه الساخر والمؤثر, و بكيت لتذكّر أخ عزيز -غيّبه الموت- و طالما شاهدتُ معه مقاطع كثيرة لهذا الداعية قبل أن يرحل عنّي بدون وداع...!
كنتُ أثناء "الحادث" الأليم الذي قضى فيه محمد نَحـْبَه بعيدا في مدينة "نيو أورليانز" بولاية لويزيانا ... و رجعتُ لسنسناتي بعد ثلاثة أشهر من الحادث الذي وقع في وسط المدينة قرب مركز العدالة وإدارة المقاطعة... و كلّما مررتُ من هناك تذكّرتُ ذكراه الطيبة و خُلُقـَه الحسن و دعوتُ الله له بالرحمة و المغفرة و ربّما ذرفت دموعي... و صدق أحمدّو ولد عبد القادر حين قال:
يحزّ في النفس آلاما و أحزانا** موتُ الصديق إذا ما كان إنسانا...
و لستُ بـِدعا في ذلك.. فذاك حال الموريتانيين العاملين و المُقيمين في المدينة في فَقدهم للإنسان الرائع و الشخص الخلوق... محمد ولد محمد سيدي.
شكّل غياب محمد فراغا كبيرا لا يمكن ملؤُه... و كأنّه -رحمه الله- يُذكّرنا بقول فارس بني حمدان
سيَذكُرني قومي -إذا جدّ جِدّهُم** و في الليلة الظلماء يُفتقَدُ البدر....
رحمك الله يا محمّد.. و أدخلَكَ فسيح جناته و وَقاك عذاب القبر و عذاب النار.. و جَمَعَنَا معك تحت ظلّ عرشه و في فردوسه الأعلى مع النبيين و الصديّقين و الشهداء و الصالحين و حَسُنَ أولائك رَفيقا.... و بَارك في أهلك و ذويك و مُحبّيك و رزقهم الصبر و السلوان... و إنا لله و إنا إليه راجعون..