من أجل نظرة منتجة، تفيد المتلقِّي وتنيره في أفق الاستحقاقات المقبلة، لابد من التمييز بين المجال السياسي والمشهد السياسي. فالمقصود بالمجال السياسي، هو عمق المسألة السياسية ولُبُّها.
ونعنِي به هنا جذورَ وأسبابَ وعلاجلاتِ الأزمة البنيوية، ومستقبلَ المجتمعِ والكيانِ، والمسارَ الحقيقيَّ للأمر العامّ والقضايا الكبرى.
وهو اليوم أشبه – في ثقافتنا التقليدية – باللَّوْح عندما يكون سائلا مُبلَّلا، قد امَّحتْ حروفُه أو اختلط بعضها ببعض، تحت تأثير المطر أو العَرَق أو أي سائل آخر، فلا يستطيع أحد قراءة ما كتب على هذا اللَّوح.
قد يتراءى للقارئ ألِف هنا وكاف هناك وحرف أو اثنان في مكان آخر، لكن لا يمكن قراءة سَطْر أو حتى كلمة منه.
هذه – بإيجاز – هي الصورة التقريبية للمجال السياسي عندنا اليوم. إذْ لم نستطع أن نصل في هذا المبحث إلى بلورة تصوُّر يُذكر يُجانِب الأفقَ المتشائم. إنها جهة لا يبتسم فيها أمل.
وليست ضبابية المجال السياسي هذه مقتصرة علينا نحن، بل إننا لم نجد أحدا غيرنا استطاع قراءتَه وتفكيكَ رموزه، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي نراها يوميا، في الندوات والكتابات والمقابلات والبرامج الإذاعية والتلفزية وغيرها…
أما المشهد السياسي فأمره بسيط: سلطة حاكمة، بإيجابياتها وبسلبياتها، ومعارضة.
ولْنبدأْ بالمعارضة، لنجد – دون الحاجة إلى الغوص بعيدا – أن الناس شبه متفقين على أنها لم تعد ذات مصداقية، وأن أهلها قد اشتغلوا في الأعوام الأخيرة بأمور غير مقبولة ولا مدروسة ولا واقعية.
ربما يكون شعار الرحيل الذي اشتغلوا فيه ردحا من الوقت ودعوا له الجماهير، على غير طائل، قد لعب دورا كبيرا في ذلك الانحطاط. كذلك، انعدام البرنامج وافتقاد المشروع، من العوامل الأساسية المفهومة التي أوصلت المعارضة إلى وضعها الحالي.
يضاف إلى ذلك حالة التشرذم التي تنخر جسم المعارضة في العمق أكثر مما هو بادٍ على السطح.
إن المعارضة السياسية الحالية، باختصار شديد وبكل موضوعية، ليس فيها ما يجذب أحدا أو يبعث أملا أو يشكِّل بديلا. أما النظام، فإن له سلبياته وإيجابياته، ولنبدأ بالإيجابيات: أول ما استمد منه نظام الرئيس محمد ولد عبدالعزيز التعاطف الشعبى، هو خيبة الأمل المبكرة للجماهير فى النظام الذي سبَقه.
فذلك نظامٌ قد وُلد بلا مصداقية، لأن رئيسه لم يكن قد ترشح من ذي قبل أو أبان عن طموح أو دور سياسي يذكر، وإنما رُشِّح وأُقحم فيما لا قِبَلَ له به.
ثم إن القوة التي رشحته وأنجحته في الانتخابات، لم تكن تملك تصورا واضحا عما هي مُقْدمة عليه، وقد تبادَرَ مبكرا أن المجتمع العميق ليس مع هذا الاختيار، وأنه بدون دعم المجتمع العميق، لا يمكن لأحد أن ينجح وإذا نجح لن يستمر.
كذلك من العوامل الأساسية التي جذبتنا – وغيرنا كثير – إلى تأييد ومساندة النظام الحالي، تلك الشعارات الجميلة التي رفعها أولَ مجيئه، مثل: شعار محاربة الفساد، الذي طرحه الرئيس محمد ولد عبد العزيز بلهجة واضحة وبسيطة وقوية، لم نعَهدها قبله في هذه البلاد…
وكذلك شعار محاربة الفقر، والتوجه إلى أحياء الصفيح وتخطيطها والوعد بتوفير منزل لكل أسرة من ساكنيها… مما كان يعتبر أقرب إلى حلم منام.
العامل الثالث، أن النظام بدأ – منذ أيامه الأولى – يطلق ويدشن بعض المشروعات البراقة وسريعة النتيجة نسبيا وهي – على كل حال – خير من العدم، مثل الشوارع المبلطة و”اسكانيرات” وحل مشكلة الكهرباء ومشروعات المياه في مثلث الفقر وغيرها.
أما الجانب الشخصيُّ والجاذبيةُ وما يشبهها، فإنه يمكن لشيء من ذلك أن يُلتمس في بساطة وعفوية الخطاب والأسلوب والشخصية…
العامل الخامس، هو ما أظهره الرئيس عزيز من عدم مسايرة تلك الجهات الانتهازية والمتمصلحة على الساحة السياسية والمالية والإدارية والاجتماعية…
يضاف إلى ذلك كله، طردُ سفير إسرائيل وقطعُ العلاقات نهائيا مع الصهاينة. ثم جاء برنامج إصلاح الحالة المدنية وتدقيقها وحمايتها، الذي نعتبره من أهم الإنجازات.
زد على ذلك كله، أن الرئيس والنظامَ نفسه، هو رمز لمؤسسة عسكرية طالما قدَّرناها واعتبرناها بمثابة العمود الفقري للكيان الموريتاني؛ مع يقيننا التام بأنه لا يوجد لها بديل، يُنتظر منه القيام بتلك المهمة الوجودية.
كذلك، من أهم مبرراتنا، على الإطلاق، ودوافعنا لاختيار النظام، ضرورة استتباب الأمن على الحدود، وعدم وجود بديل يمكن التعويل عليه في ذلك وغيرِه من التحديات والمخاطر المحدقة حاليا.
أما نحن، بوصفنا أصحابَ رؤية سياسية متواضعة، وبوصفنا أشخاصا أسلموا زمام أمرهم، منذ الوهلة الأولى، إلى النظام الحاكم فإننا، مع الوقت وما نراه من نواقص وأخطاء هذا النظام، وما نقرأه ونستشرفه من مخاطر حالية ومستقبلية تواجه المجتمع والكيان، دبَّ فينا القلق وتزايد.
ولسنا وحدنا في ذلك، بل إن مجموعات وأفرادا كثيرين يشاطروننا القلق وعدم الرضا.
لقد كنا نظن أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز ومن معه سيسْعَوْن ويَشْرَعُون – مع الوقت – في بناء نظام منسجم وفعال، وأنهم لن يقتصروا ويكتَفوا بإقامة سلطة سطحية، بلا قيادات ولا رجال مسؤولين ولا أدوار موزعة ولا مؤسسات حزبية أو مدنية ولا إعلام…
كل ما نراه هو قرارات عشوائية وارتجالات تفتقر إلى الإنضاج في فُرْن النقاش السياسي والدراسة والتمحيص.
لم نَرَ أيَّ صيغة – مهما كانت بدائيتُها – للعمل السياسي وإشراك الأصدقاء والمخلصين في الرأي والقرارات السياسة. إن من أغرب المفارقات في السياسة، أن تجد نظاما سياسيا لا يسعى إلى خلق وتقوية أدواته.
وأن يتمادى ويرتاح إلى انعدام صلة أو تنظيم أو جهاز للربط بينه و بين شعبه. هذه المظاهر وهذه الوضعية، لا يمكن لمثلنا، ممن يقرأ المشهد أو يتطفل على السياسة، أن يرتاح لها ويطمئن. بل إن القلق على الوضع بلغ بنا حد التساؤل عن إمكانية بقاء النظام القائم؟ والجواب الموضوعي، هو – بلا شك – أن النظام الحالي لا يمكنه البقاء، إذا استمرت نفس الصيغ ونفس العلاجات الفوقية والتهديئية.
أما الجواب غير الموضوعي، فربما يكون مَردُّه الى المبالغة فى تقدير الاستقرار الحالى. إن ما يتمتع به النظام من استقرار هو استقرار سطحي، ليس له سند في العمق أو أدواتٌ تضمنه، مما يجعله معرضا – في أي وقت – للهزات العنيفة والضربات الموجعة وحتى القاضية.
والحق، أن النظام إلى فترة قريبة، تزيد قليلا على العامين، كان، إلى حد كبير، ممْسكا بزمام المبادرة، لكنه بدأ من ذلك الحين يفقده، ثم زاد من ذلك إصابةُ الرئيس وفترةُ علاجه. ومن مظاهر فقدان النظام لزمام الأمور، أن عامة أقواله وأفعاله أصبحت عبارة عن ردات فعل على ما يفعله ويقوله الآخرون. لقد فقد النظام زمام المبادرة بعد أن ظل يمسك خصومَه بأهداب عيونهم ثلاث سنوات أو أكثر.
إن أكبر خطإ يمكن لنظام سياسي أن يقع فيه، هو العزوفُ عن خلق وتقوية وتطوير أدواته السياسية، والإعراضُ عن النقاش السياسى وعدمُ اعتباره طريقا لتفادى الأخطاء والمآزق والضبابية.
قد يلاحظ النظام الحالي ضعفَ معارضته وعدمَ قدرتها على إسقاطه وهزه، ونحن متفقون معه في هذا التقييم، على الأقل في وضع المعارضة الحالي. لكنَّ الظنَّ بأنَّ المعادلة السياسية مقصترة على النظام والمعارضة الظاهرة، هو غلطٌ منهجيٌّ كبير، وسقوطٌ في فخ استراتيجيٍّ خطير، لأنه يُهمل العنصر الثالثَ الأهمَّ في المعادلة، ألا وهو “المجهول”. فالمعادلة السياسية – حقيقة – تتألف من ثلاثة عناصر: النظام الحاكم؛ المعارضة السياسية؛ المجهول.
والنظام الناجحُ الفَطِن، يوجِّه نظره وعمله إلى المجهول، قبل المعلوم (المعارضة)، لأن المجهول هو المعارضة الحقيقية دائمةُ القوة، البارِعةُ في انتهاز الفُرَص واستغلالِ الثغرات.
وإلا فما الذي أسقط زينَ العابدين بنَ علي؟ هل هي معارضتُه الطافحةُ على السطح الناشطةُ في الداخل والخارج؟ لا، أبدا! وإنما أسقطه ذلك الغول الرهيب، الذي أطلقنا عليه – تَـجَـوُّزًا – “المجهول”.
فلا زينُ العابدين، ولا حلفاؤُه، ولا معارضوه كانوا يحسبون له أيَّ حساب، حتى باغتهم وأربكهم وقهرهم. وقبْلَ أسابيع، كادت الأمور تخرج عن السيطرة هنا في موريتانيا؛ وذلك بمجرد إشاعة كاذبة روَّجتها إحدى الجهات، مفادُها أن المصحف قدتم تمزيقُه في إحدى مقاطعات نُواكشوط.
فلو خرج الغاضبون وقتَها إلى أماكن معينة، ووقع احتكاك جِدِّيٍّ بينهم مع السلطات، لكانت الأمور قد أخذت مجرى آخر، لا أحد يستطيع التنبؤَ بحجمه أو مآلاته… نفس الشيء بالنسبة للتجمع الذي عقدته إيرا.
وقبل ذلك مظاهرات أخرى بسيطة فى الأصل، لكنها قابلة للتطور نحو المجهول. إنها أمثلة صغرى، لا تُقارن بأشياء أخرى يمكن أن تحدث في أيّ وقت وبأيّ مناسبة.
إذا كان المجهول قانونا ثابتا في فن السياسة، فإن أول من عليه أن يُعنى به، بدون توان أو تَرَاخٍ، هو النظام الحاكم. والسياسي الحكيم يتوجه بعقله وعقول مساعديه إلى ذلك العنصر الغاشم في المعادلة السياسية، بشِقَّيْها: الداخليِّ والخارجيِّ. لأن “المجهول” غُولٌ مفترسٌ مُخْتَفٍ وانتهازيٌّ، لا يتوقف نمُوُّه، ولا يمكن صَدُّه حين يُخرج رأسه.
يقول كلاوز فيتش: “إن الحرب موجهة دائما ضد الضعف البشري”. والسياسة كممارسة، موجهة فى العمق – هي الأخرى – إلى ذلك الغول المختبئ. أما بالنسبة للمآخذ العامة التي نأخذها على النظام – بوصفنا مجموعةً سياسية ذات رؤية خاصة بها – فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
المأخذ الأول والأساس، هو مسألة اللغة، حيث إن هذا النظام لم يُحدث أي شيء في اتجاه استرجاع البلد للغته؛ وما زالت جيوب استعمار ية تنشط داخل المجتمع والإدارة، قاطعة الطريق على لغة البلد، فلا تكاد ترى دراسة أو عملا فنيا أو إداريا أو تجاريا باللغة الرسمية للبلد والمجتمع.
لقد قام المجتمع الموريتاني، بدءا من سنة 1979، بفرْض تعريب حقيقيٍّ للتعليم، رغما من الأنظمة الحاكمة، لكنْ، كيف تعاملنا مع تلك الأجيال من الأطُر والشباب والمثقفين المتخرجين على مدى 35 سنة من المدارس النظامية والمحاضر الموريتانية المعرَّبتيْن؟ ما مصيرهم؟ وهل ستبقى الدولة والإدارة واقفتيْن أمام هذه الأمواج من الموريتانيين المعرَّبين، والذين يشكل الشباب أكثر من 90 في المائة منهم؟ هذا الشباب الذي يريد النظام الحالي محاورته وإشراكه!
المأخذ الثاني على النظام يتركز في ما شهدته وتشهده الدولة من فقدان هيبتها والدس على أنفها وتحديها بكل صنوف الأقوال والأفعال.
والمأخذ الثالث، هو ما تعرفه الإدارة المركزية والإقليمية من ضعف متزايد وتخبُّطٍ وإهمال وارتجال ومحسوبية…
أما المأخذ الرابع، فيتركَّزُ في التدهور الأخلاقي الشديد: في السياسة والتجارة والصحة والتعليم والمرور والإعلام… والذى من أوضح مظاهره وأشنع صنوفه إمكانية استيراد باخرة مَلْأى بالمواد الغذائية منتهية الصلاحية أو الأدوية المزورة… كل ذلك دون أيِّ معاقبة للمستورد والمسؤول المتواطئ أو المُهمل. إنه لولا اطلاعنا على الساحة، لأضفنا مأخذا خامسا خاصا بنا، قلنا فيه إن النظام مُصِرٌّ على تجاهلنا الدائم والواضح وإبعادِنا عن الرأي والحكومة والإدارة والسياسة والاقتصاد…
لكن الموضوعية والنزاهة الفكرية تقتضي منا الاعترافَ بأن جميع المجموعات، وحتى الشخصيات المتمرِّسة، التى ساندت هذا النظامَ بتفان وإخلاص، منذ بزوغ شمسه يوم 6 آغسطس 2008، مهمَّشة هي الأخرى ومُبْعَدَة، ووصل الخطأ أو الخطَل فى النظرة، حَدَّ التنظير والتحجُّر، وأنَّ على السياسيين التنحِّي عن ساحة السياسة وأن الوقت قد حان ليحل محلهم خلق جديد… سيبدأ لا محالة لفترة غير قصيرة تعلم تلك الأبجدية العصية والقاحلة: أبجدية السياسة. إنه منطق لا يستقيم على قدمين.
لقد حَمَلَنا خوفُ الالتباس على العدول عن لغة الخشب ولهجةِ “البلطجية”.
إننا نعتبر أنفسنا جزْءا من النظام، وإن تَبَدَّى لنا – شيئا فشيئا – أن هذا الفهم إنما هو من جانب واحد، هو جانبنا. ولذلك نرى أن من واجبنا المشاركةَ، ولو بكلمة، فى الحيلولة دون بَتْر الأمل وضَيَاع المشروع.
لا شك أن بيننا وبين نفوسنا خصومةً عنيفةً. ولكنْ، وبعد تردُّدٍ، انتصر حُبُّ الحقيقة ونبذ الإرادة العاجزة. فبدون ذلك ستكون صداقتنا المفروضة خالية أو كالخالية من النفع.
وفي النهاية، كما أن كل تصرف وكلَّ قول فى هذه الفترة يمُتُّ بصلة إلى الاستحقاقات المقبلة، فإننا نترفَّع إلى مستوى الإرشاد المُلِحِّ – تجنُّبا لعبارة التحذير – وأن نجد أنفسنا عشيةَ الانتخابات الرئاسية محشورين فى نفس المربع، وكأن خمس سنوات من الحكم لا تلد ولا تستحق استخلاصات ودروسا.
فعلى الانتخابات المقبلة، لكي تكون ذات قيمة، أن تقضي على التأزمات الحالية وأن تفتح عهدَا جديدَا من الأمل والتفاؤل، وإلا فإنها ستكون بمثابة طقس مضلل لا طائل من ورائه".