في الذّكرى المئوية لوعد بلفور الذي تعهّدت من خلاله بريطانيا العظمى ببناء "وطن قوميّ لليهود" في فلسطين، وعملت بكل طاقاتها لتنفيذ ذلك، ونفّذته مع حلفائها على أرض الواقع بالاعلان عن قيام دولة اسرائيل في 15 أيّار-مايو- 1948، وستقوم الحكومة البريطانيّة الحاليّة بالاحتفال بهذه الذّكرى، دون الاعتذار للشّعب الفلسطينيّ الضحيّة الأولى لذلك.
وإذا ما عدنا إلى التّاريخ، فإنّ وعد بلفور لم يكن بداية تفكير القوى الامبرياليّة، وفي مقدّمتها بريطانيا، لبناء"وطن قوميّ لليهود،" (ففي عام 1844 ألّف البرلمان الإنجليزي لجنة "إعادة أمّة اليهود إلى فلسطين"!) لكنّ بريطانيا التي احتلّت فلسطين في الحرب العالميّة الأولى، وفرضت انتدابها عليها، وتقاسمت هي وحليفتها فرنسا العالم العربيّ حسب اتّفاقيّة "سايكس بيكو"، لم تكتف بوعدها المشؤوم فحسب، بل عملت جهدها لتنفيذ ذلك، فخلال فترة الانتداب البريطاني عملت على تسهيل الهجرات اليهوديّة إلى فلسطين، وسمحت لليهود باقتناء السلاح والتدرّب على استعماله، وفي الوقت نفسه كانت تحكم بالاعدام على الفلسطيني الذي تجد بحوزته رصاصة فارغة أو سكّينا، بل إنّها سلّمت معسكراتها بأسلحتها للعصابات الصّهيونيّة، عندما أنهت انتدابها على فلسطين في أيّار 1948.
ويجدر التّنويه أنّ الشّعب الفلسطينيّ قد تنبّه للمخاطر التي تحيق به منذ البدايات، فقاوم ذلك من خلال انتفاضات شعبيّة عارمة، منها انتفاضات العام 1919، 1922، 1927، 1929، ثورة العام 1936 وما صاحبها من اضراب عامّ وعصيان مدنيّ استمرّ لمدّة ستّة أشهر. ولم تنقطع مقاومة الشّعب الفلسطيني للانتداب البريطانيّ والهجرات اليهوديّة يوما رغم قلّة الامكانيّات، وعدم تكافؤ القوى.
وفي الوقت نفسه تهيّأت الظروف الاقليميّة والدّوليّة لخدمة المشروع الصّهيونيّ، فعلى سبيل المثال جرى اجهاض اضراب العام 1936 بناء على طلب الملوك العرب، الذين استندوا على "حسن نوايا الصّديقة بريطاني"!
وإذا ما عدنا إلى نصّ وعد بلفور:
" وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جيمس بلفور"
ويلاحظ هنا أنّ الحكومة البريطانيّة تنكّرت لوجود الشّعب الفلسطينيّ، وتعاملت معه كأقليّات طائفيّة! وهذا منافٍ للواقع وللتّاريخ. ولا تزال بريطانيا حتّى يومنا هذا تتنكّر لحقوق الشّعب الفلسطينيّ المشروعة في وطنه التّاريخيّ رغم النّكبات التي ألحقتها به، وترفض مجرّد الاعتراف بحق هذا الشّعب في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة على 22% من ترابه الوطني.
ويلاحظ أنّ غالبيّة الدّول الأوروبّيّة وأمريكا، التي سارعت إلى الاعتراف باسرائيل، فور الاعلان عنها في 15 أيّار –مايو- 1948، قد استندت على قرار التّقسيم -181- الصادر عن الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في أواخر نوفمبر 1947، قد غضّت النّظر عن التّوسع الاسرائيلي على حساب أراضي الدّولة الفلسطينيّة التي نصّ عليها القرار نفسه. تماما مثلما لا تزال تغضّ الطّرف عن احتلال اسرائيل لما تبقى من فلسطين مع أراض عربيّة أخرى في حرب حزيران 1967. بل إنّها تدعم استمراريّة هذا الاحتلال، ومنها من يموّل الاستيطان اليهوديّ فيها كالولايات المتّحدة الأمريكيّة.
وما كان الاصرار البريطانيّ على عدم الاعتذار عن وعد بلفور، والدّعم الأمريكيّ اللامحدود لاسرائيل في مختلف المجالات ليحدث، لولا التّخاذل العربيّ الرّسميّ في تعامله مع القضيّة الفلسطينيّة، فمواقف أغلبيّة الدّول العربيّة لم يعد صامتا أو محايدا، بل تعدّى ذلك إلى التّنسيق الأمني، وإلى التّحالفات العسكرية مع اسرائيل، التي تستمرّ في احتلالها للأراض الفلسطينيّة، وتستوطنها لفرض وقائع على الأرض تمنع إقامة الدّولة الفلسطينيّة على الأراضي الفلسطينيّة التي احتلّت في حرب حزيران 1967، والتي تبلغ مساحتها حوالي 22% من فلسطين التّاريخيّة
ومع أنّ أطماع اسرائيل التّوسّعيّة تتعدّى حدود فلسطين التّاريخيّة، وهي الدّولة الوحيدة في العالم التي لم ترسم حدودها حتّى الآن، إلا أنّ النّظام العربيّ الرّسميّ لا يزال يخضع للاملاءات الأمريكيّة، التي تحرص على تنفيذ السّياسات التّوسّعيّة لاسرائيل، أكثر من حرصها أمن الأراضي الأمريكيّة. ومن هنا فإنّ سياسة الرّئيس الأمريكيّ الحاليّ ترامب، تواصل تنفيذ المشروع الأمريكيّ "الشّرق الأوسط الجديد" لإعادة تقسيم دول المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة من خلال "صفقة القرن" لصالح المشروع الصّهيونيّ، دون الرّجوع إلى القانون الدّولي أو قرارات الشّرعيّة الدّوليّة. وبهذا فإنّ مرور مئة عام على وعد بلفور، ستتوّج بوعد "ترامب" الذي سيدخل المنطقة في صراعات دامية، قد تمتد لمئة عام أخرى
الكاتب: جميل السلحوت