الحرب الأميركية على أفغانستانفي نهاية العام 2001 ثمّ الحربعلى العراق في مطلع 2003،وما رافقهما من انتشار عسكريأميركي في دول الشرق الأوسط،وإقامة قواعد في بعضها، ثمّالتوسع الأمني والعسكري فيدول أفريقية عدة، فالتدخّلالعسكري في ليبيا وسوريةوالعراق، تحت ذرائع مختلفة،كان أبرزها في السنوات الثلاثالماضية شعار الحرب علىالإرهاب... كلّها كانت أعمالاًعسكرية من أجل خدمة رؤية أوإستراتيجية سياسية لهامضامين أمنية واقتصادية، ومازالت محاولات التوظيفالأميركي لهذه الحروب مستمرّةرغم تغيّر الإدارات في واشنطن.
ولعلّ أبرز الأهداف في الرؤيةالأميركية لمستقبل الشرقالأوسط، هو ضمان استمرارالتحكّم بأهمّ مصادر الطاقةالدولية لعقودٍ عديدة مقبلة،خصوصاً وأنّ المنافسين الجددللقطب الدولي الأعظم يعتمدونفي نموّ اقتصادهم على الطاقةالمستخرجة من هذه المنطقة.
ولأنّ التواجد العسكري لم يكنوحده كافياً من أجل تحقيقالأهداف الأميركية في «الشرقالأوسط»، فإنّ عناصر سياسيةثلاثة عملت الإدارات الأميركيةفي هذا القرن الجديد علىتوفّرها بشكلٍ متلازم معالوجودين العسكري والأمني:
1-تغيير التركيبة السياسيةالقائمة في بعض دول المنطقة،لتصبح مبنيّةً على مزيج منآليات ديموقراطية وفيديرالياتإثنية أو طائفية. فالديموقراطيةلو تحقّقت، دون التركيبةالفيديرالية (التي تكون حصيلةتعزيز المشاعر الانقسامية فيالمجتمع الواحد)، يمكن أن توجِدأنظمة وحكومات تختلف معالإرادة أو الرؤية الأميركية، كماجرى بين واشنطن ودول حليفةلها في أوروبا.
أيضاً، فإنّ إثارة الانقساماتالإثنية أو الطائفية، من دونتوافر سياق ديموقراطي ضابطلها في إطار من الصيغةالدستورية الفيديرالية، يمكن أنيجعلها سبب صراعٍ مستمرّيمنع الاستقرار السياسيوالاقتصادي المطلوب لتحقيقالمصالح الأميركية، ويجعل قواتهافي المنطقة عرضةً للخطر الأمنيالمستمر في ظلّ حروبٍ أهلية،مفتوحة هي أيضاً لتدخّل وتأثيرمن قوًى دولية وإقليمية تناهضالسياسة الأميركية، كما حدثويحدث في سورية والعراق.
إضافةً إلى أنّ التركيبةالفيديرالية القائمة على آلياتٍديموقراطية ستسمح للولاياتالمتحدة بعلاقات خاصة معالمتناقضات المحلية، وبالتدخّلالدائم لضبط الاختلافات بينهافي داخل كلّ جزءٍ من ناحية،وبين الأجزاء المتّحدة فيديرالياًمن ناحية أخرى.
2-التركيز على هويّة «شرقأوسطية» كإطار جامع لبلدانالمنطقة كبديل لهُويّتها العربية،إذ انّ العمل تحت مظلّة الجامعةالعربية يمكن أن يؤدّي مستقبلاًإلى ما ليس مرغوباً به أميركياًمن نشوء تكتّل كبير متجانسثقافياً ومتكامل اقتصادياً، كمافي تجربة الاتحاد الأوروبي،رغم وجود القواعد العسكريةالأميركية في أوروبا، ورغم وجودحلف الأطلسي والانتماء المشتركلحضارة غربية واحدة. لهذايدخل العامل الإسرائيليكعنصر مهم في «الشرقالأوسط الجديد أو الكبير» الذيدعت له واشنطن منذ فترةالرئيس جوروج بوش الأب فيمطلع عقد التسعينات، ثمّ عملتلتحقيقه إدارة جورج بوش الابنعلى أسسٍ من المفاهيم«الفيديرالية» الطائفية والإثنية،إذ بحضور هذه المفاهيم، تغيبالهويّتان العربية والإسلامية عنأيِّ تكتّل إقليمي محدود أوشامل، ويكون لإسرائيل دورٌفاعل بعموم المنطقة.
3-العنصر الثالث المهمّ، في هذهالرؤية الأميركية المستقبليةللشرق الأوسط، يقوم علىضرورة إنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي من خلال إعطاءالأولوية لتطبيع العلاقات العربيةمع إسرائيل وعلى وقف حالةالعداء. ووجدت الولايات المتحدة،منذ توقيع المعاهدات مع مصروالأردن ومنظمّة التحريرالفلسطينية، أنّ تطبيع العلاقاتسيدفع الأطراف كلّها إلى القبولبحدودٍ دنيا من المطالبوالشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاءالصراعات حتّى من غير قيامدولة فلسطينية مستقلّة أوتسوياتٍ سياسية شاملة لكلّالجبهات، وسيساعد على وقفأيّ أعمال مقاومة مسلّحة فيالمنطقة.
إذن، كخلاصة، فإنّ حروبواشنطن العسكرية في الشرقالأوسط، والتي بدأت في مطلعالتسعينات بعد سقوط الاتحادالسوفياتي، أرادت:
«ديموقراطيات سياسية» فيالمنطقة، لكن ليس على أساسأوطان موحّدة أو إلى حدّالاستقلال عن القرار الأميركي.
حروباً أهلية وصراعاتٍ عسكريةمحلّية قائمة على انقساماتإثنية أو طائفية، ولكن ليس إلىحدٍّ لا يمكن معه ضبطالصراعات. حروبا تستهدفالوصول لصيغٍ دستوريةفيديرالية جامعة لما جرى تفكيكهخلال الصراعات في كلّ وطن.
إنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي بفرض التطبيع،وليس بالاعتماد على معيارالحقوق الوطنية المشروعة للشعبالفلسطيني، أو الانسحابالكامل من الأراضي المحتلّة منذ1967.
ترسيخ التواجد العسكريوالأمني في دول المنطقة، ولكنليس إلى حدّ التورّط بصراعاتداخلية استنزافية أو الاضطرارلإبقاء قواتٍ كبيرة العدد إلى أمدٍمفتوح.
ولعلَّ ما حدث في العراق عام2003، ثمّ في لبنان وفلسطينعام 2006 وما بعد ذلك، ثمّ فيالسودان وتقسيمه في مطلع2011، ثمّ بالتداعيات الحاصلةالآن في سورية والعراق وليبياواليمن، ما يكفي من أمثلة عنخلاصات تفسّر الرؤية الأميركيةللشرق الأوسط والمواقفالأميركية حالياً من عدّة حكوماتٍوقضايا عربية.
إدارة باراك أوباما مارست مندون شك مراجعة لهذه الرؤية،لكن من غير تراجعٍ عنمضامينها. ففي فترة أوباما،وخلال هذه «المراجعة» الأميركية، استمرّت الصراعاتفي الشرق الأوسط بالمضاميننفسها للرؤية «البوشية» المحافظة، والتي قامت علىنظرية «الفوضى الخلاّقة» والدعوة لـ «شرق أوسطيكبير»، وهاهي تستمرّ الآنبشكلٍ واضح في إدارة ترامب.
إضافةً لذلك كلّه، فإنّ الولاياتالمتحدة كانت مسؤولةً بشكلٍكبير عن توظيف حركات دينيةخلال حقبة «الحرب الباردة» معالمعسكر الشيوعي وضدّ تيّارالقومية العربية، هذه الحركاتالتي تحوّلت إلى جماعات عنفٍوإرهاب، كما حدث مع«المجاهدين الأفغان» الذينكانوا نواة تنظيم «القاعدة»،وهو الذي أفرز لاحقاً تنظيم«داعش». والولايات المتّحدةمسؤولةٌ أيضاً عمّا حدث ويحدثفي العراق وسورية وفي بلدانأخرى بالمنطقة، نتيجةالسياسات التي اتّبِعت منذمطلع القرن الحالي، والتياستفادت منها إسرائيل فقط،وهي السياسات التي خطّطتلها جماعات أميركية - صهيونيةمنذ منتصف تسعينات القرنالماضي بالتنسيق مع قياداتإسرائيلية (راجع: Clean Break)، والتي جرى البدءبتنفيذها عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، ثمّ من خلالغزو العراق، ثمّ بدعم الحروبالإسرائيلية على لبنان وفلسطين،وبالمراهنة على إسقاط أنظمة عنطريق العنف المسلّح وبدعمٍلجماعات دينية سياسية،وبالمساعدة على إشعال أزماتداخلية، وبتوظيف المشاعرالطائفية والمذهبية في الصراعاتمع الخصوم.
وها هي الولايات المتحدة وقوىدولية وإقليمية، تحصد نتائجسلبية على مصالحها بعدمازرعت أيديها بذور هذه الأزماتالمتفجّرة الآن. لكن الخطرالأعظم هو على شعوب المنطقةوأوطانها، ممّا يتطلّب منالحاكمين والمعارضين فيها وعياًوطنياً وقومياً يتجاوز حدودمصالح الحكومات والطوائفوالمذاهب، وهو أمرٌ ما زال غائباًرغم أنّ النيران قد وصلت إلى«منازل وحدائق» أطرافٍ عديدةفي المنطقة.
صبحي غندور مدير «مركزالحوار العربي» في واشنطن