ربّما يَكون السيد مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق قد أنقذ زعامته من الانهيار بالإصرار على المُضي قُدمًا في إجراء الاستفتاء الذي زادَ من شَعبيّته بشَكلٍ مَلحوظ، ولكنّه وَضع الأكراد أمام مأزقٍ حَرجٍ، وزادَ من عُزلتهم إقليميًّا ودوليًّا، ووحّد الأعداء ضدّهم.
من تابع المُؤتمر الصّحافي الذي انعقد اليوم في طهران بحُضور الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني في خِتام مُباحثاتهما الرسميّة، يُدرك جيّدًا أن أيّام إقليم كُردستان المُقبلة سَتكون صَعبةً جدًّا، وأن الرّخاء والأمن اللذين تَمتّع بهما الإقليم طِوال السّنوات الـ14 الماضية في طَريقهما للتبخّر، مع تزايد احتمالات الحُروب والعَودة إلى قِمم الجِبال ووديانها.
الرئيسان أكّدا على أن تركيا وإيران لن تَقبلا مُطلقًا بتفتيت المنطقة، وتمسّكهما بوحدة الأراضي العراقيّة والسوريّة، وأن “البلدين” هُما مَركزا الاستقرار في الشرق الأوسط، واتخذا قراراتٍ مُهمّةٍ لتعزيز العلاقات الاقتصاديّة بَينهما.
الرئيس أردوغان ذَهب إلى ما هَو أبعد من ذلك عندما “هَدّد” بأن مصير “إقليم شمال العراق” سَيكون العُزلة بعد الاستفتاء الباطل، وقال من الآن فصاعدًا سنَتحاور مع الحُكومة العراقيّة المَركزيّة، وتساءل ساخرًا “ما هذا الاستفتاء الذي لا تَعترف به ونتائجه إلا دولة واحدة (إسرائيل) ويُديره “الموساد”؟
***
الأكراد، والسيد البارزاني على وَجه التّحديد، كانوا يُراهنون على ضَعف الحلقة التركيّة، مِثلما كانوا واثقين بأنّ حُلفاءهم في إسرائيل سَيعملون على تغيير المَوقف الأمريكي الرّافض للاستفتاء، والانفصال، لِما لَهم من قوّةٍ في الإدارة والكونغرس، عَبّروا عن هذهِ التمنّيات في مَجالسهم الخاصّة، وأكّد السيد البارزاني أنه كان يَتوقّع رُدود الفِعل هذه، وكان مُتيقّنًا بأن الحِصار قادم، ولكن بمُرور الوَقت ستتغيّر الأوضاع، ولن يَقبل العالم بحِصار الأكراد، وأن النّصر صَبرُ ساعة.
هذهِ القراءة ربّما تكون مُتسرّعةً، وتَنطوي على الكثير من السذاجة، وعَدم المَعرفة بخُطورة الخَطوة التي أقدم عليها السيد البارزاني وفي الوقت الخطأ، فالإيرانيون “الدّهاة”، يَعرفون أن الاقتصاد هو نُقطة ضَعف الرئيس أردوغان، ولذلك قرّروا تَعويضه عن خسارة 10 مليار دولار، هي حَجم تجارته مع إقليم كردستان، من خلال فَتح ثلاثة مَعابر حُدوديّةٍ جديدةٍ، وتوقيع اتفاق بالتّعامل بالعُملات الوطنيّة المَحليّة لتنشيط التجارة البَينيّة، وفَتح خَطّ نَقلٍ نفطيٍّ إلى المَوانِئ التركيّة مُباشرةً ودون المُرور عبر أربيل، ورَفع حَجم التّبادل التّجاري من عَشرة مليارات دولار إلى ثلاثين مليار دولار في غُضون سنواتٍ مَعدودة.
السيد البارزاني لم يَتوقّع حُدوث أمرين رئيسيين، وهو يَتحلّى بالعِناد، ويَرفض توسّلات حُلفائه بتأجيل الاستفتاء، وربّما كان يَعلم بهما ولم يُقدّرهما التّقدير الواجب:
الأول: أن الحَشد الشعبي اقتحم الحويجة، آخر معاقل “الدولة الإسلاميّة” قُرب كركوك، وباتَ يتّخذها كنقطةِ انطلاقٍ إلى كركوك وجِوارها للاستيلاء على مَنابع النّفط فيها، وربّما التقدّم بعد ذلك نحو أربيل، فحُدود الإقليم مع العراق التي يزيد طولها عن 1800 كيلومتر لن تتمكّن قوّات البِشمرغة من توفير الحماية لها في مُواجهة الأخطار المُتوقّعة.
الثاني: حُدوث انشقاقٍ في الجَبهة الداخليّة الكُرديّة، وتَمرّد يتصاعد ويزداد قوّةً على زعامته، خاصّةً في إقليم السليمانيّة الذي تُعتبر قيادته الأكثر قُربًا من طهران، فاليوم شَنّت السيدة هيرو إبراهيم، زوجة الرئيس الرّاحل جلال الطالباني، وعُضو المكتب السياسي في حزب الاتحاد الكردستاني هُجومًا شَرِسًا عليه، أي البارزاني، رافضةً تَشكيله مجلس سياسي للتّعامل مع الاستفتاء، واتّهمته بتحدّي روسيا والصين وأمريكا وبريطانيا ودول الجِوار بعَدم الاستجابة لمَطالبهم بعَدم إجراء الاستفتاء، وحَذّرت من أن مُواطني الإقليم يَدفعون ثَمن هذا العَداء والتحدّي، مُعلنةً شَق عَصا الطّاعة على رئاسة الإقليم، ومُؤكّدةً مُعارضتها لها.
تركيا هي التي تَملُك مِفتاح نَجاح أو فَشل أيّ دولةٍ كُرديّةٍ مُستقلّة، وإذا تَوحّدت مع إيران ضِد هذهِ الدّولة فلن تُفيدها إسرائيل وأمريكا، والسيد البارزاني دَفع السيد حيدر العبادي إلى أحضان إيران مُكرهًا.
صحيح أن هُناك أصوات في شمال العراق تقول أن الجوع والحِرمان، وعدم الاستقرار ليس جديدًا على الأكراد، وتَعوّدوا عليهما لعُقود، عاشوا خِلالها مُقاتلين فَوق قِمم الجِبال، وباتوا مُستعدّين للعَودة إليها، فهَي أكثر حنيّةً عليهم، وحمايةً لهم، ولكن لماذا تُحمل كل هذهِ المَخاطر والمُعاناة، خاصّةً أن الجيل الكردي ليس مِثل جيل آبائه وأجداده، تَعوّد على البحبوحة والرّخاء والكماليات، ليس مُضطرًّا لتَحمّل نتائج قيادة لا تُفكّر إلا في زعامتها وتَضعها فَوق مَصالح الشّعب الكُردي.
اتفق أردوغان وروحاني والعبادي ضد الأكراد واستفتائهم، مِثلما اتفقوا على شَرط إلغاء الاستفتاء ونتائجه قبل أيّ حوارٍ لرَفع الحِصار، وهذهِ الدّول الثّلاث إلى جانب سورية هي القادرة مُجتمعةً على خَنق إقليم كردستان العراق، وإغراقه في حال من الشّلل، لأنها تَخشى على وِحدة أراضيها وشَعبها.
هُناك نظريّة تَقول أن أكبر خَطأ ارتكبته “الدولة الإسلاميّة”، وزَعيمها أبو بكر البغدادي، بعد استيلائها على المُوصل عام 2014 أنها تَوجّهت إلى أربيل، ووصلت إلى 40 كيلومترًا منها قبل أن يُوقفها الأمريكان والإيرانيون، ولو ذَهبت إلى بغداد لربّما نَجحت في الاستيلاء عليها في ظِل انهيار الجيش العراقي في حينها، فأربيل أكثر قُربًا إلى قَلب أمريكا وأوروبا من بغداد.
من المُفارقة أن إيران لَعبت دَورًا كبيرًا في إيقاف قوّات “الدولة الإسلاميّة”، على الأرض، بينما اقتصر الدّور الأمريكي على القَصف الجوّي، وقدّمت الأسلحة والعَتاد للبشمرغة التي تراجعت مُعظم وَحداتها أمام قوّات البغدادي، ولا نَعرف ما إذا كانت ستتّخذ المَوقف نَفسه لو كانت تَعرف بخُطط الانفصال هذه؟ والشيء نَفسه يُقال أيضًا عن صدام حسين الذي أرسل قوّاته ودبّاباته قبل الغَزو الأمريكي بأشهر لإنقاذ أربيل ومَنع قوّات الطالباني من الاستيلاء عليها.
***
السيد البارزاني كان باستطاعته أن يَحكم بغداد، وبطريقةٍ ديمقراطيّةٍ، أو تَحوّل إلى صانع مُلوك، لو تعامل مع القِوى الأُخرى التي كانت تَرفض الحُكومة العراقيّة وفَسادها وطائفيّتها في حينها، ولكنّه تصرّف مِثلها بطريقةٍ طائفيّة عرقيّةٍ انفصاليّةٍ، وقد يَخسر الاثنين، بغداد وأربيل معًا.
لا نَعرف كيف ستتطوّر الأمور في الأسابيع والأشهر المُقبلة، ولكن يَجب وَضع أمرين في عَين الاعتبار، أوّلهما أن كردستان ليست البارزاني، والبارزاني ليس كردستان، والثّاني أنه إذا كانت أربيل نَجت من اجتياح قوّات “الدولة الإسلاميّة” عام 2014، فإنّها قد لا يَكون الحَظ حليفها إذا ما فُرض عليها الحِصار، وزَحفت إليها قوّات الحَشد الشعبي، وفَيلق القُدس الإيراني، مِثلما تُشير بعض التوقّعات والتّهديدات.
يَجب أن يُدرك الأكراد جيّدًا أن إسرائيل وبَعض الدّول العربيّة السنيّة المُعتدلة المُتحالفة سرًّا مَعها تُريد استخدامهم كورقةٍ لإضعاف جيرانهم واستفزازهم، ولكن هؤلاء الجيران أقوياء ومشاريع دُول إقليميّة عُظمى، ومن لم يَستطع هزيمة “حزب الله” في لبنان، و”حماس″ في غزّة، لا يُمكن أن يَهزم إيران وتركيا والعراق وسورية مُجتمعةً.. والأيام بيننا.
عبد الباري عطوان