قابلت السيد مسعود البارزاني مرّةً واحدةً في حياتي في مدينة أنقرة يوم 30 أيلول (سبتمبر) عام 2012، أثناء مُشاركتي في احتفال نظّمه حزب العدالة والتنمية التّركي بمُناسبة مُؤتمره الأخير للرئيس رجب طيب أردوغان كأمينه العام، حيث لا يَسمح له النّظام الدّاخلي بالبقاء لمُدّة ثالثة.
كان نُجوم ذلك الاحتفال ثلاثة: الرئيس المصري محمد مرسي، وكان قد فاز لتوّه في الانتخابات، والسيد مسعود البارزاني، والسيد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس″، وحَظي الثّلاثة بحفاوةٍ بالغةٍ من المُضيف التركي، ولكن الاهتمام بالسيد البارزاني كان لافتًا، بحُكم العلاقة الشخصيّة والعائليّة بينه وبين الرئيس أردوغان.
اثنان من بين الثّلاثة المَذكورين آنفًا اختفيا من المَسرح السياسي، الأول الرئيس مرسي (فك الله أسره) يَقبع خلف القضبان تنفيذًا لعدّة أحكام بالسجن المُؤبّد، أمّا الثّاني، أي السيد مشعل، فقد استنفذ مُدّة رئاسته القانونيّة للمكتب السياسي لحركة “حماس″ التي انتخبت قيادة جديدة في نيسان (إبريل) الماضي، ويُقيم حاليًّا في دولة قطر، ولا نَعرف ما إذا كان السيد البارزاني سيُواجه المَصير نَفسه بعد الاستفتاء الذي أصرّ على إجرائه غدًا الإثنين ضاربًا عَرض الحائط بكل الوساطات والتوسّلات الإقليميّة والدوليّة التي طالبته بالتأجيل أو الإلغاء تجنّبًا للأسوأ.
***
نتائج الاستفتاء مَحسومة منذ أشهر، والمُصوّتون بـ”نعم” سيكونون الأغلبيّة العُظمى، مِثلما تُؤكّد مُعظم استطلاعات الرأي، ولكن ما يتّسم بالغُموض هو “اليوم التّالي”، أي مرحلة ما بعد الاستفتاء، وهُناك مُؤشّرات عديدة تُؤكّد أنها ستكون مرحلةً صعبةً عُنوانها عَدم الاستقرار، وربّما إشعال فَتيل حَرب قد يكون الأكراد أبرز وقودها، بالنّظر إلى ردود فعل دول الجوار التي اعتبر بَعضها الاستفتاء بمَثابة إعلان حرب.
الأكراد شاركوا بحماس غير مسبوق في الحَرب ضد “الدولة الإسلاميّة” أو “داعش”، وقدّموا المِئات من القَتلى في حرب تحرير الموصل، ولكنّهم فَعلوا ذلك بطلبٍ أمريكي، مُقابل وعود بالاستقلال كثمن، ولكن دون الاتفاق على موعد إعلانه.
الحَرب على “الدولة الإسلاميّة” التي وحّدت الأضداد، الكرد والعرب، والأتراك والإيرانيين، والأمريكان والروس، المُسلمين والمسيحيين، السنة والشيعة، هذه الحَرب التي كانت الإسمنت، أو “الغراء” القوي الذي يَصلب تحالف الجميع، ويُبقي على تماسكهم لحوالي أربعة أعوام، هذه الحرب بدأت تقترب من نهايتها، وتفكّك هذا التحالف بشكلٍ مُتسارعٍ، ربّما لتبدأ حرب إقليميّة أكثر شراسة، فالحُروب تتوالد وتتناسخ في مَنطقتنا الشرق أوسطيّة التي ممنوع عليها الاستقرار.
السيد البارزاني اختار مَوعد هذا الاستفتاء في التوقيت الخطأ، ووحّد جيرانه العرب والإيرانيين والأتراك ضدّه وشعبه، مُضافًا إلى ذلك أن كردستان لا تَملك مقوّمات الدولة، وحدودها غير محدّدة، والديون عليها تتفاقم، وخزينتها شِبه خاوية، ورواتب مُوظّفيها لم تدفع منذ اشهر، وديمقراطيتها غير مكتملة، بل غير موجودة، فالرئيس انتهت صلاحيّة حُكمه منذ عامين، وهناك شكوك بانعقاد الانتخابات الرئاسيّة المُقرّرة في تشرين ثاني (نوفمبر) المُقبل، والرئيس البارزاني أقدم على تجميد البرلمان وجَلساته فَور سُؤاله عن مَصير العوائد النفطيّة، ومُطالبة بعض النواب بتحديد صلاحياته المُطلقة، مُضافًا إلى ذلك استفحال الفساد، ووجود انقسامات حادّة بين السليمانيّة، التي يُسيطر عليها حزب الاتحاد الطالباني، وأربيل مركز حكم آل البارزاني.
زوّار أربيل الذين اتصلنا بهم، قالوا لنا أن الأجواء مُتوتّرة جدًّا، وهُناك فرحة ممزوجة بالقلق في أوساط أغلبيّة الأكراد، فرحة بإجراء الاستفتاء وإعلان الاستقلال، وقلق من المُستقبل، فالحصار عليهم بدأ قبل يوم من الاستفتاء، فإيران والعراق أغلقا حُدودهما البريّة وأجواءهما، وتركيا وإيران يُجريان مُناوراتٍ عسكريّة، والحَشد الشعبي العراقي عجّل بمعركة الحويجة للانقضاض على كركوك ومدلين وخانقين وبدرة وسنجار وسهل نينوة، وانتزاعها جميعًا من سيطرة البشمرغة، والطامّة الكُبرى ستكون عندما تُقدم تركيا على إغلاق أنبوب النفط الذي يَضخ النفط الكردي، مصدر الدخل الأكبر، إلى العالم الخارجي، أمّا الدول الأوروبيّة التي رفض السيد البارزاني نصائحها بتأجيل الاستفتاء، بدأت التهديد بوَقف مُساعداتها للإقليم.
السيد حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، اتّهم السيد البارزاني بالخُروج عن سُلطة الدّولة، والتمرّد على قرارات المَحكمة الاتحاديّة العُليا التي أفتت بعَدم دستوريّة الاستفتاء، بينما قال السيد محمد علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي، أنه يُشكّل تهديدًا لأمن تركيا القومي، فردّ السيد البارزاني بقوله “أن العراق أصبح دولةً دينيّةً طائفيّةً وليس دولةً ديمقراطيّةً، والاستقلال فقط هو المُكافأة الوحيدة لأمّهات الشّهداء”، بينما قال الثاني أنه جاهزٌ لكل الاحتمالات.
إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تدعم هذا الاستفتاء عَلنًا، وتُحرّض البارزاني على إعلان الاستقلال، وربّما تكون هي الوحيدة التي ستَعترف بدولة كردستان، التي لا نَستبعد أن يكون حالها حال دولة رؤوف دنكطاش القبرصيّة التركيّة، التي جَرى إعلانها قبل أكثر من أربعين عامًا، مع فارق أساسي، وهو أن الخَصم القُبرصي اليوناني ضعيفٌ ومُسالم، واليونان دولة زميلة لتركيا في حلف الناتو، بينما الدولة الكرديّة الجديدة سَتكون مُحاصرة بأربعة قوى إقليميّة، هي إيران وتركيا وسورية والعراق، وتَعتبرها “خط أحمر” ومُقدّمة لتقسيمها وتفتيتها لوجود أقليات كرديّة فيها تتطلّع للاستقلال نفسه.
***
الدكتور نضال قبلان السفير السوري السابق في أنقرة لخّص حقيقة مواقف هذه الدّول بشكلٍ واضحٍ في لقاء مع قناة “الميادين” صباح اليوم عندما قال “أن سورية لن تَسمح بقيام “دولة صهيونيّة” بشراويل على حُدودها الشماليّة، في إشارةٍ إلى نزعاتٍ استقلاليّة لاكراد سورية، وتقدّم قوّات سورية الديمقراطيّة نحو دير الزور، واستيلائها على آبار نفط وغاز، وإجراء انتخابات بلديّة في مناطق كرديّة شماليّة تمهيدًا لأُخرى برلمانيّة، ولا نعتقد أن الإيرانيين والأتراك والعراقيين يُخالفون الدكتور قبلان الطّرح نفسه، وهو على أي حال لا يأتي بهذا الكلام من عنترياته.
السيد البارزاني وحّد مُعظم جيرانه ضدّه على أرضيّة العَداء، فهُناك معلومات شِبه مُؤكّدة تُفيد بأن وفدًا أمنيًّا تركيًّا التقى نَظيره السّوري قبل أيام مَعدودة برعاية روسيّة، لتنسيق المَواقف في مرحلة ما بعد الاستفتاء في أربيل إلى جانب مُناقشة الوضع في إدلب، وذَكرت أنباء أن الاجتماع كان صاخبًا، تبادل فيه الطّرفان اللّكمات الكلاميّة، ولكن من كان يتصوّر قبل بِضعة أشهر مثل هذا اللّقاء شِبه المُستحيل.
حق تقرير المَصير أمر مَشروع لكل الشّعوب، لكن شريطة تَوفّر الإمكانات والضّمانات المَطلوبة والتوقيت المُلائم، ولا نَعتقد أن السيد البارزاني أجرى حساباته بشكلٍ دقيقٍ قبل الإقدام على هذه الخُطوة المَفصليّة في تاريخ أمّته الكُرديّة.
استفتاء اليوم قد يُحقّق الاستقلال “نظريًا” للأشقاء الأكراد، ولكنّه ربّما يُشعل فتيل حرب عرقيّة تمتد لسنوات، والخَوف كل الخَوف أن لا يَختلف مصير الدولة الكرديّة المَأمولة عن مصير “الدولة الإسلامية” مع الفارق الكبير جدًّا في المُقارنة والظّروف والمُعطيات، فالتحالف الذي قَضى على هذهِ “الدّولة” جُغرافيًّا، هو نَفسه الذي يَستعد لشَن حربٍ أُخرى ضد الدولة الكرديّة التي تعيش مخاض الولادة.. والله أعلم.
عبد الباري عطوان