إنشغل المسيحيّون بالبحث عن مستقبلهم وبالتخطيط له بعد أن لاحت تباشير سقوط السلطنة العثمانيّة في القرن التاسع عشر، فذهب البعض منهم إلى الدعوة للقوميّة العربيّة وللوطن الواحد من المحيط إلى الخليج -أو إلى قوميّاتٍ أصغر-، عَلَّهُم يبنون دولة جديدة قوامها الثقافة واللّغَة، وعامودها الفِقَري هو الإنتماء القوميّ لا الدينيّ. ولا شكّ بأن هذا المسعى بلغَ مراحل متقدّمة وكاد أن يكون الحالة العامّة في البلاد العربيّة زمن الرئيس المصريّ جمال عبد الناصر، إلى أن سقط هذا المشروع مع نهاية هذا الرئيس! ثُمَّ ما لبثت هذه الأفكار إلّا أن تحوَّلَت إلى الوقود العقيديّ لكل الأنظمة الشموليّة المستبدّة في هذا الشرق، بعد أن ذَوَّبَت بعض المسيحيين في بحرٍ من الإزدواجيّة التي نقلتهم من التنظير العلمانيّ والديمقراطيّ إلى الدفاع عن أنظمة لا علاقة لها بالقيِمِ المسيحيّة لا من قريبٍ ولا من بعيد، وهذا ما جعلهم يدفعون الأثمان الباهظة من الأكثريّات المقموعة على إمتداد المشرق العربيّ، وهذا ما سيجعلهم يدفعون المزيد من الأثمان في حال كُتِبَ لهذه الأنظمة المزيد من العمر!
دون أن ننسى أنَّ البعض من المسيحيين انزلق نحو المساومة الإيمانيّة على حساب مسيحيّته، وبأن هذه القوميَّات أضحت مقبرة كبيرة للتمايز وللغنى الثقافيّ والدينيّ في مجتمعاتنا. فَضَرَبَت خصوصيّة الجماعات الدينيّة أو القوميّة كالأكراد على سبيل المثال ما جعَلَ، هذه الجماعات في موقف الدفاع من كلّ المشاريع "الوحدويّة"!
ولعلَّ الأدهى هو ما يحصل اليوم في سوريا وجوارها -وهو ما حَصَلَ في عراق "صدّام حسين"- حيث أنَّ الكثير من مسيحييها يؤيدون النظام البعثيّ حتى الموت وهو الذي يرفع شعار "أمَّة عربيَّة واحدة ذات رسالة خالدة"، في حين أنَّهم نفسهم من يرفضون العروبة ومن يستحضرون القوميّات القديمة إلى الحياة لكي يتخلَّصوا من دمغة عروبتهم!
هذا الخيار ورغم النتائج الكارثيّة التي أفضى إليها إلا أنَّه انطلق من رحابة فكريّة ومن قيمٍ إنسانيّة لا غُبار عليها، وهو كان يهدف إلى العلمنة الشاملة في النفوس قبل النصوص، رُغمَ أنّه أغفل مسألة "الهويّات الخاصّة" التي تتواجد في المنطقة وأعطى للمفاهيم التي تبنّاها تفسيرات جامدة عجزت عن التأقلم مع مسار التاريخ، فوَقَعَ في فخّ "العقيديّة الجامدة" ما جعل مصيره مشابهًا لمصير الإتّحاد السوفييتي.
أمّا اليوم فنجد بعض المسيحيين يعتمدون الخيار النقيض لخيارهم في القرن التاسع عشر، إذ يجنحون نحو القوميّات الصغيرة ونحو ما يُسَمّى بحلفِ الأقليّات، رغم أن هذا الخيار لم ينطلق من عنديّاتهم بل من عند الإسرائيليين ومن عند الجماعات الدينيّة التي تطلق على نفسها اسم الأقليّات، هذا الخيار يتماهى مع الخرائط المزعومة للشرق الأوسط الجديد، ويتماهى مع تقسيم المنطقة على أساسٍ طائفيّ ما يعطي إسرائيل الشرعيّة لتتحوَّل إلى دولة دينيّة بالقولِ والفعلِ، والمستغرَب في الموضوع هو أن من يدَّعي معاداة إسرائيل هو نفسه مَن يُروِّج ويعمل لتحقيق هذه المشاريع التي تقف خلف خيار "حلف الأقليَّات"!
وفي حال وَصَلَ هذا الخيار إلى النجاح فهذا ما يعني المزيد من التطرُّف والإرهاب والمزيد من ردّات الفعل التي لن تنتهي قبل مئة سنة على الأقَّل. والأهمّ بالنسبة لنا هو أن هذا المشروع يناقض الرسالة المسيحيّة التي تشترط الإنفتاح على الإنسان أيّا كان دينه أو عرقه، ويسجن المسيحية في سجنٍ جديد يدعى القوميّة أو الطائفيّة، فتخرج هذه الأخيرة من سجنها الكبير إلى السجن الصغير الذي معه سيبدأ العدّ العكسيّ لإنقراض المسيحيّة والمسيحيين من هذه المنطقة.
أمّا ما يعنينا من كلّ هذا التحليل والسرد فهو الخيارات الصحيحة النابعة من القيَمِ الإنجيلية، وهي ورغم خطورتها وجذريّتها تبقى أفضل بكثير من كلّ المشاريع الفئويّة السامَّة. ما يعنينا اليوم هو المواطنة الحقيقيّة في هذا البلد الذي نؤمن بنهائيّته وبنموذجه الرسالة! ما يعنينا اليوم هو الشراكة الحقيقيّة مع المسلمين على تعدّدهم ومع غيرهم من أبناء شرقِنا، في بناء أوطاننا على قاعدة الإنسانيّة والحريّة. وأهمّ ما يعنينا اليوم فهو ان لا نبني مستقبلنا على الخوف من الآخر أو على الرفض، ولنا في تاريخنا المثل الواضح يوم إعلان دولة لبنان الكبير إذ وافق الجميع على الوطن التاريخيّ الصغير فكانت له الحياة، أمّا يوم الإستقلال فما كان لدينا ما نقبله، ما كان لدينا سوى الرفض، فَرَفض المسيحيّون الإنتداب الفرنسيّ، ورفض المسلمون الوحدة العربيّة، ما جعل استقلالنا وليد الرفض! وما جعلنا في مهبّ ريحِ كلّ عابثٍ وطامعٍ!
بالتالي يصبح علينا أن نبني خياراتنا على الإنفتاح والقبول، وعلى القيَم الإنجيليّة إذ نجسِّدها في كلّ مضامير الحياة حتى في السياسة، لا على الرفض والخوف، لأنهما يبنيان الجحيم لا الأوطان!