كانت الأمم المتحدة – وما تزال- أشبه بشركة مساهمة لها جمعيتها العمومية التي
تلتقي سنوياً، لكن قراراتها الفاعلة تكون في "مجلس الإدارة"، وبيد رئيسه
العملي. ويخطئ من ينظر للأمم المتحدة بغير هذه النظرة، أو يتوقّع منها القيام
بدورٍ فاعلٍ آخر.
فلم تكن صدفةً أنْ يكون تأسيس هيئة الأمم المتحدة قد جرى في العام 1945 على
الساحل الغربي الأميركي في مدينة سان فرانسيسكو، ولم تكن صدفةً أيضاً أنْ يكون
مقرّها في الساحل الشرقي الأميركي بمدينة نيويورك. وطبعاً ليس هو سخاءً
أميركياً أن تكون ربع ميزانية الأمم المتحدة تتحصّل من الميزانية الأميركية.
فواشنطن هي منذ تأسيس الأمم المتحدة تحتلّ عمليّاً منصب "رئيس مجلس إدارة هذه
الشركة المساهمة الدوليّة". وما من دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن استخدمت
حقّ النقض كما استخدمته الولايات المتحدة.
وكم هي مفارقة الآن أن يكون دونالد ترامب، صاحب الخبرة في إدارة شركات
واستثمارات مالية، رئيساً للولايات المتحدة، ليتحدّث في افتتاح دورة الجمعية
العامّة للأمم المتحدة عن رؤية إدارته للإصلاحات المنشودة لهذه المنظّمة
الدولية!!.
لقد نجحت تجربة الأمم المتحدة في العقود السبعة الماضية بأن تكون هيئة إنسانية
واجتماعية لمساعدة بعض الدول الفقيرة أو المنكوبة بحروب أو كوارث طبيعية،
لكنّها لم تكن قادرة على تجاوز طبيعتها التآلفية بين أقطاب متنافسين على العالم
وثرواته. وكانت شعوب العالم الثالث تجد في الاجتماعات الدورية السنوية أو
الطارئة للهيئة العامة للأمم المتحدة وكأنَّها "حائط مبكى" تطرح فيه مشاكلها
وهمومها أمام ممثّلي وإعلام العالم كله، لكن القرار السياسي كان، وما يزال، في
مجلس الأمن وفي حقوق الامتياز التي حصلت عليها الدول الخمس الكبرى من حيث
العضوية الدائمة في المجلس، وأيضاً حقّ النقض (الفيتو) دون أن تعبّر هذه
الامتيازات بالضرورة عن كتل بشرية كبيرة أو مواقع قارّية وجغرافية أو حتّى عن
ثقل اقتصادي أو عسكري كبير مقارنةً مع دولٍ أخرى لا تتمتّع بحقّ العضوية
الدائمة في مجلس الأمن.
واشنطن أرادت في مطلع هذا القرن الجديد أن تكون الأمم المتحدة أداة تنفيذ لما
تقرّره هي من حروب وسياسات، لكن هذا الأمر لم يكن، ولن يكون، سهلاً في عالمٍ
عانى الكثير من تداعيات الحرب الباردة وسياسة الاستقطاب الدّولي لأحد المحورين،
ثمَّ وجد نفسه يعاني أكثر في ظلّ الأحادية القطبية. فالتوازن الدّولي وتعدّد
الأقطاب هما الآن حديث "الإصلاحيين الدوليين"، لكن تبقى العبرة في تركيبة "مجلس
إدارة الأمم المتحدة"!.
وهاهي القضية الفلسطينية تعود من جديد إلى أروقة الأمم المتحدة، رغم تكرار هذا
الأمر عشرات المرّات في العقود السبعة الماضية، دون تنفيذ الحدّ الأدنى من
قراراتٍ دولية متعدّدة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني، والذي يعاني بعضه المقيم على
أرضه من عسف الاحتلال، وبعضه الآخر من ظلم وقهر اللجوء والتشرّد في بقاع العالم
لأكثر من سبعين عاماً.
ولماذا تكون هناك آمال ومراهنات على نتائج أفضل من مؤسّسة دولية، كانت هي التي
شرّعت الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، ولم تُجبر هذا "الوليد الأممي" الجديد
على احترام وتنفيذ أي قرارات صادرة عنها!؟. هل العجز عن توفير بدائل فلسطينية
وعربية أخرى هو السبب لتكرار المراهنات على دور الأمم المتحدة بينما "رئيس مجلس
إدارة" هذه المؤسسة الدولية، دونالد ترامب، يفتتح اجتماعاته في نيويورك بلقاء
مع رئيس الحكومة الإسرائيلية لتأكيد العلاقة الخاصة مع نتنياهو وحكومته، وهل
نفّذت إسرائيل أصلاً أي قرارات من الجمعية العامّة أو من مجلس الأمن؟!.
وكيف يمكن المراهنة على دور أميركي محايد إذا كان ترامب قد أكّد تأييده لنهج
نتنياهو ولما هي عليه غالبية القوى السياسية الإسرائيلية؛ من رفضٍ لوقف
الاستيطان، وللانسحاب من القدس، ولحقّ العودة للفلسطينيين، ولمطلب الدولة
الفلسطينية المستقلة على كل الضفة الغربية وغزة، وهي القضايا الكبرى المعنيّة
بها أي مفاوضات أو "عملية سلام" مستقبلية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي؟!
ثمّ كيف يأمل الفلسطينيون بموقف أميركي فاعل إذا كانت حتّى الإدارة الأميركية
السابقة، التي كان على رأسها أوباما، قد تجنّبت ممارسة أي ضعط فعلي على إسرائيل
رغم التباين مع حكومتها بشأن المستوطنات، فتراجعت واشنطن ولم تتراجع تل أبيب؟!.
وهل تراهن إدارة ترامب الآن، وخلفها قوى الضغط الإسرائيلية، على استثمار نتائج
ما حدث ويحدث في البلاد العربية من خلافاتٍ وصراعات، ومن تهميش للقضية
الفلسطينية، ومن حروب أهلية عربية، ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، من أجل تحقيق
التطبيع "العربي والإسلامي" مع إسرائيل قبل انسحابها من كلّ الأراضي العربية
المحتلّة في العام 1967 ومن قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!.
لقد أصبحت، في السنوات الأخيرة، مسألة المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة
الفلسطينية هي القضية، وكأنّ 24 سنة من هذه المفاوضات (منذ اتفاقية أوسلو في
سبتمبر 1993) لم تكن قائمة!. بينما الضغط الدولي المطلوب على الحكومة
الإسرائيلية يحتاج أوّلاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع
الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني مدعوم عربياً، ومترافق مع تجميد
كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، ومع استمرار حقّ
خيار المقاومة المسلّحة والشعبية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وبأن لا تكون هناك
أي مفاوضات فلسطينية مع إسرائيل ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات
الاستيطان في كلّ الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع
غزّة. بذلك تكون هناك مصداقية للموقفين الفلسطيني والعربي، وتكون هناك خطوات
عربية جدّية داعمة لأي ضغط دولي "معنوي" منشود من "الأمم المتحدة"، أو من أيّ
طرفٍ دولي يسعى فعلاً لتسوية سياسية للصراع العربي/الصهيوني المفتوح منذ مائة
عام.
في المقابل، فإنّ إسرائيل لم تراهن أبداً في كلّ العقود الماضية على أي دورٍ
للأمم المتحدة، بل المراهنة الإسرائيلية هي الآن على انقسامات وصراعات في الجسم
الفلسطيني وفي عموم المنطقة العربية، وعلى تجزئة دول المنطقة، كما حدث في
السودان في العام 2010، وكما تدعم إسرائيل حالياً الدعوة لدولة كردية مستقلّة
على حساب وحدة كيانات عربية، وحيث تجد إسرائيل مصلحةً كبيرة في الأحداث الدموية
الجارية في المشرق العربي وانعكاساتها على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية.
وقد عجزت المواقف الأميركية والأوروبية في السابق عن تحقيق ما تريده من
إسرائيل، فكيف بما يتوجّب على إسرائيل القيام به تجاه الفلسطينيين والعرب؟!.
خلاصة تجارب الماضي تؤكّد أنّ الأمّة أو الأوطان التي لا يتوحّد ولا يتحرّك
أبناؤها من أجل قضاياها، تنقاد حتماً لما سيقرّره لها الآخرون!.
صبحي غندور مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن