كشفت تطورات الوضع السوري وبشكل تدريجي عن الأبعاد الحقيقية للمشروع الكردي الذي يصنع على الأرض السورية، مدخلا لإنفاذ هذا المشروع على المستوى الاقليمي كله، ومعنى الإقليم هنا يضم، سوريا والعراق وتركيا وايران، وما سيؤدي ذلك الى انعكاسات على الجغرافيا السياسية لمنطقنا كلها: العربية والاسلامية.
وحتى يكون تعرضنا لهذه المسألة دقيق لا بد بداية من تحديد بعض المفاهيم:
** فنحن حين نتحدث عن الملف الكردي لا نتحدث عن المكون الكردي في بنية الأمة العربية، ولا على المكون الكردي في بنية الشعب أو المجتمع السوري، ذلك أن هذا المكون هو أصيل الوجود والأثر في هذه الأمة وهذا الشعب، بل إنه ساهم مساهمة فاعلة ليس في تاريخ الأمة، وإنما في وجودها، المادي والثقافي والجغرافي، والذي يريد أن يتلمس ذلك فالتاريخ الممتد منذ الفتح الاسلامي حتى يومنا هذا يقدم شواهد لا تحصى على ذلك، ويقدم أسماء لامعة ومبدعة لاتخفى على أحد، ولم يكن دور المكون الكردي في تاريخ الأمة العربية والشعب السوري وحيدا، أو استثناء، وإنما هو واحد من المكونات العديدة لهذه الأمة، ولهذا الشعب، شأنه في ذلك شأن المكونات الأخرى القومية والدينية والجهوية " الأمازيغية ، والإفريقية، والقبطية، والآشورية، والمملوكية، والتركمانية ..." التي بنى تفاعلها مع الحركة التاريخية للفتح الاسلامي، ومع الحضارة التي بناها هذا الفتح، وجود هذه الأمة، ومكنها من مواجهة الظروف والتحديات العنيفة التي واجهتها على امتداد خمسة عشر قرنا.
وفي هذا المستوى، فالمكون الكردي جزء منا ونحن جزء منه، اقتطاعه من جسد الأمة يكاد يكون مستحيلا، وذلك لأن من المستحيل عزل جزء من هذه الأمة والقول بأن هؤلاء هم الأكراد وغيرهم ليس كذلك، أو عزل جزء من الجغرافيا الوطنية أو القومية، والقول أن هذه أرض الأكراد وغيرها ليس كذلك، أو عزل جزء من تاريخ الأمة الوطني والقومي، واعتباره تاريخا للأكراد، وغيره تاريخا لغيرهم، ومثل هذا الأمر عبث لا يستطيع الإقدام عليه إلا أولئك المؤمنين بالنظرية العنصرية في تكوين الشعوب والأمم، والنظرية العنصرية، نظرية خاطئة علميا، ومزدراة أخلاقيا، وقدمت للتاريخ الإنساني أبشع صور السلوك الاجتماعي، وأقرب هذه الصور وأكثرها حضوراً في الوقت الراهن: النازية، ونظم إفريقيا العنصرية البيضاء، والصهيونية.
إذن نحن لا نتحدث عن المكون الكردي في هذا الإطار الطبيعي التاريخي والحضاري للأمة العربية والشعب السوري.
حديثنا عن الملف الكردي حديث يخص ما يقوم به شطر مؤثر من القيادات السياسية الكردية لتخليق "مسألة كردية"، قائمة على إدعاء بمظلومية تاريخية، يرون أن لا حل لها إلا بوجود كيان سياسي موحد لهذا المكون، ولأجل هذه الغاية سوغت هذه القيادات لنفسها مختلف أنواع التحالفات، والعلاقات، والمسالك.
** كذلك فإننا حين نتحدث عن الملف الكردي، لا نتحدث دحضا أو تأكيدا لوجود ظلم وقع على الأكراد من السلطات المختلفة التي مرت على الأقاليم العربية التي ينتشر فيها هذا المكون القومي، فالباحث لا يجد صعوبة في اكتشاف أن حديث القيادات الكردية الراهنة عن "الظلم الواقع على الأكراد"، هو حديث لاحق لنشاطهم في تخليق المسألة أو الملف الكردي.
ليس في تاريخ المنطقة ظلم وقع على الأكراد من حيث كونهم أكراد، لسبب بسيط هو أنه لم يوجد في سوريا يوما ما نظام قومي عنصري، ومشاركة السوريين من أصل كردي في حكم سوريا، والسيطرة على مقدراتها: سياسيا، وثقافيا، ودينيا، واقتصاديا، أمر مشهود، والتدقيق في هذه المسألة يوصلنا إلى نتيجة واحدة، أن الظلم الذي وقع على المناطق الفقيرة ذات الأغلبية الكردية إنما وقع في إطار تفاعل عوامل محددة:
1ـ عامل سلطة مركزية ظلمت كل المناطق النائية أو الجبلية الفقيرة، بغض النظر عن المكون البشري لهذه المناطق، يستوي في ذلك ما إذا هذا المكون كردي أو علوي، أو درزي، أو آشوري، أو عربي، أو غير ذلك من المكونات الوطنية.
2ـ عامل سلطة محلية تنتمي إلى المكون الاجتماعي السكاني نفسه، ظلمت هذه المناطق وأهلها، واعتاشت وبنت ثرواتها من نتائج هذا الظلم والاستغلال، فقد كان الأغوات الأكراد السوط الذي يجلد ظهور الفلاحين الأكراد، كما كان البكوات أدة قهر الفلاحين في الغاب وريف حلب وريف حماة، وكما كان شيوخ العشائر يعاملون الشوايا، وفقراء القبائل، في الجزيرة والحسكة والرقة.
وكان هؤلاء هم ممثلو السلطة المركزية وأدواتها في إيقاع الظلم والتخلف وتدني الخدمات المقدمة إلى هذه المناطق، بل إن وجوه هؤلاء انتقلوا إلى الحكومات المركزية مشاركين فيها، وفي المجالس النيابية، ودخلوا أجهزة الأمن والجيش لتوطيد هذا الظلم والتمكين لسلطانهم على الأرض.
الذين يريدون أن يُخَلقوا " المسألة الكردية " في سوريا يتناسون عامدين أن الظلم الذي وقع على الأكراد في مسألة إحصاء 23 آب/ أغسطس 1962 الخاص بمحافظة الحسكة حين تم تجاهل تسجيل آلاف منهم، لم يحدث وقادة الأكراد في صفوف المعارضة، وإنما حدث تحت سمع وبصر ومعرفة هؤلاء القادة الذين كانوا يبسطون سيطرتهم في تلك المناطق، وكانوا يشاركون في السلطة المركزية بدمشق، وهي سلطة الانفصال التي أقيمت عقب جريمة فصل سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 ايلول/ سبتمبر 1961. ولم يعرف لأي قائد كردي موقفا معترضا على ذلك الاحصاء، أو موقفا من السلطة التي أجرته.
والغريب أن هؤلاء يرجعون هذه الخطيئة الى فكر جمال عبد الناصر ويدّعون في دعايتهم الراهنة، أنه في سياساته "حرم الأكراد من التعليم، ومن تقلَد المناصب، العمل في المؤسسات وحتى السفر خارج البلاد، "حسب وكالة أنباء هاوار الكردية السورية"، وهذا كله محض افتراء، ولم يشأ هؤلاء أن يتنبهوا إلى حقيقة أنه في عهد الوحدة لم يكن لهذه التقسيمات أي قيمة مؤثرة على السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وعلى التعيينات السياسية والعسكرية والأمنية والتعليمية والإدارية والقضائية، ولم يشأ هؤلاء أن ينتبهوا إلى أن عدداً من قيادات الحركة الناصرية التي قاومت الانفصال منذ اليوم الأول كانت من الأصول كردية، وأن الجمهورية العربية المتحدة وقيادتها هي الدولة العربية الوحيدة التي فتحت اذاعة ناطقة بالكردية عام 1957، واستقبل جمال عبد الناصر القيادات الكردية العراقية في القاهرة، وفي مقدمتهم الملا مصطفى البرزاني عام 1958، وساهمت القاهرة مساهمة فاعلة في وقف المعارك التي كانت تجري بين المقاتلين الأكراد والسلطة المركزية في بغداد.كما ساهمت في جهود صوغ اتفاقية مصالحة وحكم ذاتي بين الأكراد وسلطة بغداد، وقد ذكر الزعيم الكردي جلال طالباني الذي استقبله جمال عبد الناصر في القاهرة عام 1963 أوجها عدة من مواقف وتوجيهات حمال عبد الناصر بشأن المسألة الكردية في العراق، وذلك فى كتابه "كردستان والحركة التحررية القومية الكردية".
3ـ وأن القيادات الكردية كانت حاضرة دائما في السلطة القائمة في دمشق، السلطة السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية، لم تغب عنها أبدا، بل إن قطاعات من هذه السلطة "مثل الافتاء والتوجيه الديني" كان شبه محتكر لهذا المكون، وفي سلطة البعث، وخصوصا حينما تسلم حافظ الأسد الحكم في دمشق كان للقيادات الكردية حضورها وتأثيرها في الحكومة وقطاعات الأمن والجيش والإعلام والتوجيه الديني.... الخ، نقول هذا دون أن نغفل أن سياسة البعث في هذه المراحل كانت في عمقها سياسات طائفية، تمييزية، وبمثل هذه السياسات لا بد ان يحدث صدام وظلم وضحايا من هذه الطائفة أو تلك، بما في ذلك المكون الطائفي الرئيسي للنظام، أي المكون العلوي، ذلك أن النظام الطائفي هو بطبيعته نظام استغلال واستبداد وتمييز
** ومن المهم أن نستحضر في هذا المقام أن فكرة الوطنية، لا علاقة لها بالظلم والعدل، وإن حاولت جهات عديدة وفي مراحل متعددة من التاريخ، وإزاء أوضاع مختلفة أن تتخذ من مسألة "الظلم والاستبداد " متكأ للإنفكاك من الرابط الوطني، ذلك أن الظلم الاستبداد نتاج نظم قائمة، لا تلبث أن تزول، أما الوطنية فهي تعبير عن ارتباط وثيق بالأرض والشعب والتاريخ، بما يتضمنه ذلك من حضارة ودين وقيم، وهذه كلها ليست نتاج مرحلة معينة، ولا نتاج حكم معين، وبالتالي لا يجوز أن يمثل سلوك نظام أو نتائج مرحلة تبريراً للتخلص من الانتماء الوطني.
كل الظلم الذي وقع على الأكراد في سوريا، والضحايا الذين سقطوا في المراحل المختلفة، لا يعادل شيئا بالقياس لما قاسته مدينة مثل حماة على يد النظام البعثي في الثمانينات، وأنا هنا لا أتحدث عن الصراع العسكري السياسي بين الاخوان المسلمين ونظام البعث، وإنما أتحدث عما أصاب المدينة والمدنيين من دمار وقتل بعشرات الالاف.
كل الضحايا والقتلى والدمار الذي حاق بالمناطق ذات الأغلبية الكردية، وبالسوريين من أصول كردية منذ تفجر الحراك الثوري السوري، سواء على يد النظام، أو على يد داعش وأمثالها، لا يعادل شيئا إزاء ما أصاب حمص أو درعا أو حلب أو دمشق وريفها، أو دير الزور، أو الرقة.
الظلم ليس مدعاة للتخلص والتحرر والانفكاك من الوطنية، والمواطنة ليست شراكة سياسية أو إدارية أو شراكة منفعة يمكن الفكاك منها في لحظة ما، إنها صناعة تاريخ طويل، وانتماء يتعدى الجزئيات ويذهب بعيداً في تكوين كل فرد، وكل جماعة.
وبسبب هذا المفهوم للوطنية كان هناك مفهوم الخيانة، وهو المقابل الموضوعي لمفهوم الوطنية، وليس بين المفهومين منطقة وسطى.
من طبائع الاجتماع الانساني أن توجد معارضة أو معارضات لأي حكم قائم، وأن تتنوع أشكال الصراع مع هذا الحكم وأدواته، من أشكال الصراع السياسي السلمي، إلى الصراع الدامي والعسكري، لكن هذا كله صراع مع نظام، يستهدف برامج إدارة الوطن والدولة، وفي كل هذه الصراعات مهما بدت عنيفة ليس هناك خيانة لوطن ما دام الصراع ليس صراعا على الوطن نفسه، وليس صراعا على الشعب نفسه، ولا صراعا على الأمة نفسها.
** وإذا كان المكون الكردي جزءاً فاعلاً في بناء الأمة العربية ووجودها، شأنه في ذلك شأن المكونات الأخرى التي أشرنا إلى بعضها، فإن الفكاك من هذه العلاقة يحتاج إلى عملية تفكيك وتشويه، هو بتر للمكون نفسه أولا وقبل كل شيء، وللتاريخ والثقافة والواقع الاجتماعي والسياسي للأمة والمنطقة.
المكون الكردي ساهم مع المكونات الأخرى بصناعة التاريخ الاسلامي: العربي أو العثماني أو الفارسي لهذه المنطقة، وبالتالي لا بد حتى يكون هناك تخليق لقومية كردية من تفكيك هذا التاريخ، وبالتالي النظر إليه من زاوية سيطرة استعمارية على"الشعب الكردي، والوطن الكردي" قام به العرب أو العثمانيون أو الفرس، ويصبح لزاما أن نقوم بعملية استلال للمساهمات الكردية في هذا التاريخ والعمل على إعادة ترتيبها في منظومة جديدة.
والمكون الكردي عامل رئيسي ـ شأنه شأن الكثير من المكونات الاخرى ـ للإسلام : العقيدة والشريعة والفقه والقيم، والتاريخ، الذي يبرز فيه دور خاص ومميز للعرب ولغتهم ووجودهم، ولا يستقيم بناء قومية كردية إلا بالتخلص من هذا العبء، لذلك فإن أصحاب الدعوات الأكثر تشددا في الصف السياسي الكردي، ويمثلها في سوريا حزب الاتحاد الديموقراطي "p y d" الشق أو النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني في تركيا، يضعون الإسلام وراء ظهورهم، ويرفضون وجود أي من قيمه في حركتهم ورؤاهم.
وهذا الموقف إزاء الإسلام لا يقتصر على هؤلاء الأكراد، وإنما هو شأن كل الحركات التي قامت تريد تفتيت الأمة، ونذكر هنا تصريحا لزعيم الدعوة إلى إحياء البربرية في الجزائر سعيد سعدي زعيم "التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية"، الذي نقلت الصحف الجزائرية عنه قوله: إن المشكلة الأصلية ليست مع العرب في الجزائر، وإنما هي مع الاسلام، لأنه لولا الإسلام ما جاء العرب إلى الجزائر، وهو الذي أعلن أن حزبه اذا وصل إلى السلطة فسوف يغيّر بنود الدستور الجزائري، ومنها انتماء الجزائر إلى العالم العربي، والبند الذي ينصّ على أن الاسلام هو دين الدولة في الجزائر، والجميع يذكر أن قضية العروبة والاسلام كانت وجهين لقضية واحدة عمل لها الفرنسيون على مدى مائة وثلاثين عاما لمحو انتماء الجزائر شعبا وأرضا إلى أمته العربية وتاريخه الحضاري، أي أن موقف هذا الرجل يتطابق تماما مع موقف الاستعمار الفرنسي، ومع جهوده وسياساته المستمرة.
** كذلك فإن تخليق المسألة الكردية، على المنهج الذي نراه، يحتاج فيما يحتاج الى صناعة تاريخ خاص للمكون الكردي، يحمل في عمقه الصراع والتناقض مع التاريخ العام العربي والاسلامي للمنطقة، ويعمل على قطع هذا التاريخ ووصل ما قبل الفتح الاسلامي بما هو راهن الآن، وهذا يفرض بالتأكيد إعادة النظر جذريا بمساهمة هذا المكون في البناء الحضاري للأمة، وبتشويه تاريخ ونماذج القادة العظام الذين ساهموا مساهمة فاعلة في بناء هذا التاريخ سواء كان هؤلاء قادة سياسيون، أم علماء من مختلف الأصناف، أم قادة اجتماعيون، فإبقاء أنوار هؤلاء ساطعة في التاريخ العربي الإسلامي، وفي التاريخ المعاصر، مما يدحض العنصرية القومية التي استنادا إليها تبني هذه القيادات الكردية حركتها ومفاهيمها، هنا يصبح على درجة بالغة من الأهمية، تشويه صورة صلاح الدين الأيوبي وأمثاله، وصورة إبراهيم هنانو وأمثاله، وصورة المفكر والأديب السياسي محمد كرد علي وأمثاله، والقائمة لهؤلاء الأعلام طويلة يصعب حصرها، وإعادة كتابة التاريخين القديم والحديث من هذا المنطلق، وتشويه صورة وعلاقة المكون الكردي مع حركة النهوض والوحدة العربية في العصر الحديث، وهو أمر بدأته قيادة "p y d"، عندما غيرت مناهج الدراسة في المناطق التي سيطرت عليها، ولعل الاحتجاجات التي خرجت في الحسكة ـ وهي مدينة نسبة العرب فيها تتجاوز 70 بالمائةـ يوم الجمعة 25 أغسطس / أب ضد فرض هذه المنهاج شاهد على ذلك. ولا تقتصر محاولة تشويه هذا التاريخ الممتد منذ الفتح الاسلامي إلى اليوم على مثل هذه العنصرية الكردية، وإنما هو منهج متبع من قبل كل القوى العنصرية والطائفية في سوريا والعراق ومصر والجزائر والسودان، في إطار جهد ممنهج يستخدم العديد من وسائط التوجيه من محاولات إعادة كتابة التاريخ وبعض وقائعه، من انتاج الروايات والمسلسلات التي تستهدف تعزيز هذا الجهد، إلى الإتكاء على مراكز الأبحاث الغربية في تصدير تحليلات ورؤى لتاريخنا وراهننا، الى العديد من الذين يظهرون عبر الفضائيات كمحاضرين، أو محللين، أو باحثين، ليعلقوا على الأحداث المختلفة.
** وفي إطار التخلص من هذا الارتباط الحضاري والتلاحم السكاني كان لا بد أن يبحث هؤلاء عن حلفاء لهم، ومن الطبيعي أن يكون الحلفاء ممن يحملون النظرة نفسها إلى هذه الكتلة الحضارية والبشرية التي تغطي المنطقة كلها، نظرة العداء لها، والسعي إلى تفتيتها، والتصدي لأي محاولة نهوض تقوم فيها، وهنا يبرز دور الكيان الصهيوني، كحليف وكمثال يحتذى، ويبرز دور القوى الاستعمارية كلها.
ولم يعد خافيا دور قادة الكيان الصهوني، وأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية في دعم الحركة الكردية منذ بداياتها زمن الملا مصطفى البرزاني، ثم خرج هذا الدعم إلى العلن حين أقيم إقليم كردستان العراق، بمساعدة مباشرة من الولايات المتحدة، والآن تبرز العلاقة بين هذه الكيانات الحزبية الكردية وبين الحركة الصهيونية في مجالات عدة، ويقيم هؤلاء مناطق سيطرتهم في سوريا بدعم مباشرة وحاسم من قوات الولايات المتحدة التي أقامت لها قواعد عسكرية في مناطق سيطرتهم.
إن لكل هذا نتيجة منطقية وهي تحويل " الكيان الاسرائيلي إلى صديق"، والتماهي معه في السياسات والأساليب والنظرة الى المحيط والجوار، وهو أمر في أحد وجوهه استكمال لمنهج العداء لهذه الأمة، ولتاريخها وحاضرها ومستقبلها.
وقد يتوهم هؤلاء السياسيون الأكراد أن الأمريكيين والصهاينة أصدقاء فعليون لهم، لكن ذلك ليس حقيقيا، إنهم أعداء فعليون لأي قوة حقيقية تنبثق في المنطقة، لذلك فإن صداقتهم المقدمة لهؤلاء الساسة الأكراد ولمشروعهم لا تعدو أن تكون الصداقة المبنية على "واقع العداء لأمتنا ولمستقبلنا"، وهم على استعداد في أي وقت للتضحية بالأكراد جميعهم على مذبح مصالحهم، وهذا ما خلص إليه الكاتب العراقي الكردي نور الدين الجاف في مقالة له في 24 / 8 / 2017 عن علاقة كردستان العراق مع الكيان الصهيوني.
المقالة تقطر ألما لمشاهد هذا التعاون "الكردي ـ الصهيوني" التي باتت منتشرة في مختلف وسائط التواصل الاجتماعي بعد أن كانت رهينة الوثائق المخفية، فبعد أن يستعرض مسيرة هذه العلاقة وكيف شكلت خيانة للعلاقة العربية الكردية، وللعراق: الكيان والمجتمع والدولة، خلص إلى القول: "قد تؤسس دولة كرديه بمباركة (أسرائيل). (وأسرائيل) لن تكون حليفا نداً لنا أبداً بل المحتل الذي ساعدناه ليدخل بلدنا وسيحتقرنا دوما ولن يأمن لنا وسيبيعنا بأول فرصة وبأرخص ثمن" .
حجم المكون الكردي في سوريا
من المهم ونحن نتحدث عن المشكلة الكردية أن نقدر حجم هذه المشكلة بالقياس للمكون الكردي العام، وبالقياس للمكون الكردي في سوريا، وإذا كان السكان من أصول كردية موزعين بين تركيا والعراق وايران وسوريا، فإنه يصبح من الضروري تكوين تصور أقرب ما يكون إلى الحقيقة للجغرافيا البشرية للمكون الكردي بين هذه الدول أو هذا الاقليم الممتد والواسع جغرافيا وبشريا، وكذلك لهذه الجغرافيا داخل سوريا على وجه الخصوص.
ولا شك فإن الوصول إلى تقديرات حقيقية جازمة لهذه الجغرافيا يعتبر أمرا صعبا لكن غير مستحيل، وبعيدا عن التقديرات الموهومة والرغائبية، فإن تقديرات الإحصاء التي تعود على الغالب لعامي 2011، 2012 تشير إلى أن أعداد الأكراد في كل العالم تتراوح بين نحو 30 مليون و 38 مليون، وذهب موقع منتديات إقليم كردستان إلى رفع هذا الرقم في عدد الأكراد إلى55 مليون نسمة منهم 39 مليون نسمة في الأقاليم الأربعة المتجاورة تركيا والعراق وسوريا وإيران. والباقي مهاجرون.
وتتفق نسب توزيع الأكراد بين هذه الدول تقريبا، فالنسبة الكبرى للأكراد مستقرة في تركيا، وتصل إلى نحو 55 % من العدد الإجمالي للأكراد،أي أكثر من 21 مليون كردي، يلي ذلك إيران بنحو 12% فالعراق 8% فسوريا 6%، ووفق هذه النسب فإن عدد السكان من أصول كردية في سوريا يتراوح بين مليون وسبعمائة ألف بتقدير عام 2012 في ويكيبيديا، ومليوني نسمة في موقع منتديات إقليم كردستان. وذلك من إجمالي عدد سكان سوريا المقدر عام 2012 بأكثر من 23 مليون نسمة. لكن دراسة موثقة ونقدية نشرها مهند الكاطع في موقع معهد العالم للدراسات بتاريخ 9 يوليو 2016 تحت عنوان "الجغرافيا البشرية للأكراد في سوريا" رصدت الوجود الكردي في مختلف مدن وأقضية وقرى سوريا، خلصت إلى نتيجة مفادها أن عدد السوريين من أصول كردية في سوريا لا يزيد عن 31،5% من عدد سكان سوريا أي أقل من 953 الف نسمة بحسب عدد سكان سوريا 18 مليون نسمة، أي نحو مليون وربع المليون من عدد سكان سوريا البالغ وفق احصاء 2012 أكثر من 23 مليون نسمة.
ومن هذا التعداد للأصول الكردية ما نسبته من السكان المحليين في محافظة الحسكة 28% وتضم محافظة الحسكة ـ التي يبلغ عدد سكانها نحو مليون وستمائة الف نسمة ـ أقضية (الحكسة، القامشلي، راس العين، المالكية )، وفي محافظة حلب ـ وعدد سكانها يقترب من ستة ملايين نسمة ـ أكثر من 6% من السكان من أصول كردية، وذلك في ( حيي الأشرفية والشيخ مقصود بمدينة حلب، إضافة الى منطقتي عفرين، وعين العرب)، أما في دمشق فإن نسبة الأكراد لا تتجاوز ثلاثة بالألف من نسبة سكان مدينة دمشق.
ولا أورد تقديرات دراسة "الجغرافيا البشرية للأكراد في سوريا" تبنياً لها، ولكن لتوضيح حقيقة أن تعداد السكان من أصل كردي في سوريا هو بالتأكيد الأدنى بين الدول الأربع، ولتأكيد حقيقة عايشتها شخصياً في كل من القامشلي والرقة، حيث لم يكن الأكراد أكثر من حي في كل من المدينتين، وهم في الرقة مندمجون اندماجا كاملاً بمجتمع الرقة، ومتداخلون مع مكوناته بالمصاهرة، وبالتجارة، وبالعمل السياسي في الأحزاب المختلفة.
ومثل هذه الوجود الذي توضحه الاحصاءات للمكون الكردي في محافظتي الحسكة وحلب يعجز عن رسم خارطة جغرافية كردية متسقة في الجغرافيا السورية. إنهم جزر في قرى قليلة صغيرة العدد، أو أحياء متداخلة مع غيرها في المدن والأقضية الكبيرة، وإن ما يحدث الآن لخلق هذه الخارطة إنما يقوم على سياسة التهجير والعنف الذي تمارسه ميليشيا pyd ضد المواطنين السوريين سواء كانت أصولهم عربية أو غير عربية. والتي من خلاله تحاول أن تقيم منطقة كردية تخضع لسيطرتها تمتد من حدود كردستان العراق الى البحر المتوسط.
نظرة إلى المستقبل:هل يعني من كل ما سبق أنه لا توجد مشكلة كردية؟.
بالتأكيد ليس من غايات هذا العرض الوصول إلى هذه النتيجة، فوجود مشكلة كردية في الإقليم الذي أشرنا إليه والذي يضم تركيا والعراق وإيران وسوريا، هو حقيقة ماثلة للعيان، ولها أسبابها المتشعبة، لكن وجود هذه المشكلة في سوريا ليست عميقة وليست عامة، وواقعها الشعبي والجغرافي محدود.
وتضخمت هذه المشكلة في الواقع السوري بفعل سياسات خاطئة للسلطات القائمة، وبفعل استغلال قيادات حزبية كردية لنتائج هذه السياسات، وبفعل تأثير الجوار الكردي في العراق وتركيا على المكون الكردي في سوريا.
إن حالة من السيولة الكردية كانت تموج في المنطقة، فكانت المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا تستقبل أفواجا من أكراد العراق وتركيا كلما زاد الضغط عليهم في البلدين، وقد استخدم النظام السوري الورقة الكردية في صراعه مع النظامين التركي والعراقي، وفي إطار هذه السياسة آوى زعيم حزب العمال الكردستاني، منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ونمى ميليشياته المسلحة في معسكرات في البقاع اللبناني يوم أن كان هذا البقاع تحت السيطرة السورية أولا، ثم في صحنايا ومواقع أخرى بريف دمشق، قبل أن يساهم في إيقاعه بأيدي المخابرات التركية في كينيا في 15 / 2 / 1999 بعد أن أخرجه من سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر 1998، وكان لهذا الاستغلال أثره في تضخيم هذه المشكلة، بل وفي إعطائها بعداً دراميا.
ويجب أن لا ننسى ونحن نتحدث عن تخليق مشكلة كردية أن نسلط الضوء على نظام الاستبداد الذي حكم وما زال سوريا منذ العام 1963، وتدعم بسياسات طائفية واضحة، وسياسات فساد غير مسبوقة ، وباستبداد متصاعد منذ العام 1970 حين تسلم حافظ الأسد السلطة في سوريا.
فبعد أن فعل ما فعل بالزعيم الكردي التركي عبد الله أوجلان، انقلب الى الداخل فبدأ التنكيل بالاكراد، اتقاء لردات فعلهم على ما حدث لزعيمهم، وظنا منه أنه بذلك يقدم دليلا للأتراك على التزامه باتفاقية أضنة التي أبرمهما معهم بهذا الشأن وبرعاية مباشرة من مصر.
وهناك اشارات استفهام قوية حول مسؤولية ودور النظام السوري إزاء أحداث القامشلي في مارس 12 مارس/ آذار 2004، حينما تفجرت اشتباكات عرقية على خلفية مباراة في كرة القدم، ما أسفر عن مقتل ستة من العرب واثنا عشر كرديا حسب التقديرات الرسمية، بعد أن انتشر العنف الى مناطق عدة في محافظة الحسكة وغيرها. وقد عمد النظام إلى افشال جهود أحزاب المعارضة السورية في إطفاء نار هذه الفتنة.
وحينما تصاعد الحراك الثوري في سوريا، واشتركت فيها العديد من الأحزاب الكردية، أعلن النظام السوري عن تجنيس عشرات الآلاف من الأكراد، ما بدا واضحاً في حينه أنه بمثابة رشوة لهذه الأحزاب حتى تنأى بنفسها عن المشاركة في الحراك الثوري الذي انطلق في 11 / 3 / 2011.
وفي تتبع دور النظام السوري في تخليق " المشكلة الكردية وتنميتها" لا بد من ملاحظة حالة التخادم الثابت والمتصاعد بين النظام السوري، وقوات pyd الكردية منذ انطلاق ذلك الحراك الثوري، بحيث بات النظام يتنازل لمسلحي هذا التنظيم عن المناطق التي يزداد فيها ضغط قوى المعارضة السورية المسلحة عليه، والتخادم بين الطرفين موثق ميدانيا، وموثق بالتصريحات الرسمية للمسؤولين السوريين الأمنيين والسياسيين.
وفي إطار تخليق هذه المشكلة في سوريا يجب أن لاننسى أيضا الدور الأمريكي الذي كان منذ إحكام الحصار على العراق، ثم منذ احتلاله، يعمل جاهدا على تحريض الأحزاب الكردية لتكون خارج سياق النضال الوطني السوري، وقد فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ، وجورج بوش الإبن الكثير في هذا الإطار، وهما يسعيان إلى الضغط على النظام السوري لوقف مرور مقاتلي المقاومة العراقية عبر سوريا إلى العراق إثر احتلاله، ومنهم مقاتلو القاعدة.
قواعد النظر في الملف الكردي
بعد هذا الاستعراض نشير الى أننا حين التعاطي مع الملف الكردي لا بد من الانطلاق من ثلاث مرتكزات:
المرتكز الأول : التاريخ وما يؤكده من حقائق ويفرضه من مفاهيم .
المرتكزالثاني : الجغرافيا السياسية وما تسمح به من حدود و حلول.
المرتكز الثالث: العصر وما يفرضه من حدود وأساليب وقيم.
المسألة الكردية يجب أن تعالج آخذة بالاعتبار هذه الركائز الثلاثة، ويمكن أن نضرب أمثلة على بعض ما تعنيه هذه الركائز:
فالتاريخ: يفرض أن يكون أي حل للمسألة الكردية متفق مع كون تاريخ هذه المنطقة هو نتاج حركة وتفاعل مكونات شعوبها فهي مجتمعة صنعت حضارة المنطقة، واعتنقت الدين نفسه بكل قيمه ومفاهيمه وعقله الكلي، والدين المقصود هنا هو الدين الاسلامي الذي كان باستمرار دين الأغلبية العظمى لمكونات شعوب المنطقة، ولغة هذا الدين هي اللغة العربية التي كتب بها القسم الأكبر من النتاج الحضاري لهذه الامة، وحفظ بها القرآن الكريم الكتاب المقدس للمسلمين، وهو المكون الرئسي لتاريخهم وقيمهم.
كل حل للمسألة الكردية ـ أو أي مسألة أخرى من هذه الطبيعة ـ لا تأخذ في الاعتبار ما أشرنا إليه لايمكن أن يمثل حلا ذا قيمة لا للأكراد ولا لشعوب المنطقة ومصالحها. لأنه سيكون بالتأكيد حلا معاديا لموجبات هذا التاريخ، وهو حل لا يمكن الوصول إليه إلا باستخدام القوة المفرطة وإلا بالاعتماد على قوة خارجية ترى في فرض هذا الحل المعادي مصلحة لها.
الجغرافيا السياسية: لها أيضا فرائضها القاسية، وهذه الفرائض شديدة الوضوح فيما يتصل بالمسألة الكردية، فالمكون الكردي موزع في أربع من دول المنطقة وهي : تركيا والعراق وايران وسوريا ، وهو داخل هذه الدول موزع على امتداد جغرافية هذه الدول، وبالتالي فإن أي محاولة لفرض ولادة دولة كردية مباشرة أو على مراحل تعني بدقة وبدون أي تزويق تفكيك هذه الدول وإعادة رسم خرائط جديدة للمنطقة.
ولما كان هذا مستحيل بجهود القوى السياسية الكردية التي تحمل هذه النظرة فإن تعاونها وتحالفها مع اعداء هذه المنطقة وشعوبها يصبح امرا لا خيار فيه للوصول للحل الكردي المستهدف.
لقد احتاج المشروع الكردي الانفصالي في العراق إلى غزو العراق واحتلاله وتدميره على نحو مانشهد، وإلى رعاية أمريكية إسرائيلية مباشرة كي يصل إلى ما وصل إليه.
واحتاج المشروع الكردي في سوريا إلى دمار هذا البلد، ونزول القوات الأمريكية على أرضه، ووصول الوضع فيه نتيجة التدخلات الخارجية ودموية نظامه واستبداده وفساده، إلى حدود التقسيم، كي يفصح أصحاب المشروع الكردي في سوريا عن أهدافهم الحقيقية.
وفي مخطط العقل السياسي الكردي أن استكمال هذا المشروع يستوجب الشيء نفسه في تركيا وفي ايران، ومثل هذه الرؤية تتناقض مع حقائق الجغرافيا السياسية، وهي تحتاج إلى تغييرات دموية صارخة في المنطقة كلها، واذا حدثت يوما ما فستكون على بحر من الدماء وعلى قاعدة من العداء للمنطقة وتاريخها لا سابق لها.
الجغرافيا السياسية تفرض أن تتحول المسألة الكردية إلى ملاط يشد دول المنطقة وشعوبها إلى بعضهم بعضا لتصنع منها وحدة عمل وبناء وتفاعل حضاري، لكن حين يراد أن تتحول هذه المسالة الى أداة تفتيت، فنحن أمام كارثة.
ولعل من المفيد للباحث والقائد السياسي الوقوف على ما انتهت إليه حركة الباسك الممتدة بين فرنسا واسبانيا، واقتناع قادتها بأن الانطلاق من فكرة الانفصال وتغيير جغرافية تلك المنطقة مما يخالف فروض الجغرافيا السياسية، ويخلق حالة توتر وعداء لا مبرر لها ولا ضرورة، وأن البديل الحقيقي هو العمل على توفير شروط التطور الديموقرطي لهذا المكون داخل فرنسا وداخل اسبانيا.
والجغرافيا السياسية داخل كل دولة من الدول الأربعة تفرض أن يتحقق في الدولة الواحدة منطقة يتحقق فيها وجود هذا المكون بشكل طبيعي، وهو أمر مفتقد في سوريا على وجه التحديد، وذلك أن يكون قرار إنشاء كيان كردي أو إقليم كردي داخل الدولة قرارا للشعب كله، لكل مكونات هذه الشعب، وليس للمكون الكردي، مطلوب أن يولد كيان متصالح مع محيطه ومع تاريخه، وهذا لايتحقق إلا برؤية يتفق عليها أبناء هذا الوطن.
إقامة "اقليم كردي" لايمكن أن يأتي من قبيل " تحرير منطقة محتلة " وإنما هو من قبيل تطلع منطقة في جسم الدولة والوطن لإغناء مميزاتها وخصائص أبنائها، وتحقيق التنمية الأوفر لها، وهذا ما يجب أن يقرره أبناء الوطن كله.
إن إقامة إقليم على قاعدة ومفاهيم التحرير يعني مباشرة خلق حالة عداء، أما إقامة ذلك على قاعدة التميز والتسابق في التنمية وإغناء الخصائص فإن من شأن هذا أن يشد أطراف الوطن إلى بعضه بعضا ويجعله في سباق مع التقدم والعدل والديموقراطية.
أما الزمن : وما يفرضه من حدود لأي تحرك فهو كثير، و يكفي أن نشير هنا إلى أن فكرة انتزاع التمثيل الشعبي بالقوة لم يعد لها نصيب في الحياة.
وفرض وجود مسألة كردية، وتصنيع تاريخ لها، ومحاولة عزلها عن محيطها، وادعاء أن هذه الرؤية أو تلك تمثل" الشعب الكردي"، فإن هذا سلوك عصبوي استبدادي فات زمانه، ولأنه يخالف حقائق العصر فإنه لا يمكن فرضه على الأكراد أنفسهم إلا بالقوة القاهرة.
من قال إن حزب العمال الكردستاني في تركيا أو نظيره في سوريا يمثل الاكراد ؟!.
نحن نعاين ونتابع القهر الذي يمارس ضد الأكراد أنفسهم، كما نعاين ونتابع عمليات التهجير والتطهير العرقي الذي يمارسه هؤلاء في المناطق التي سبطروا عليها في سوريا، ولا تقتصر هذه الممارسة على المدن والبلدات التي سيطروا علبها بالكامل، وإنما أيضا على الأحياء التي سيطروا عليها في المدن الكبرى مثل حلب.
هل أكراد حلب أو دمشق أو الرقة يريدون فعلا كيانا خاصا بهم ، ؟!
من أعطى هذا الحزب الكردي أو ذاك الحق في التحدث باسم المكون الكردي، من يقوم بهذا الآن إنما يتماهى في سلوكه مع سلوك النظام السوري، الذي قتل وشرد واعتقل ودمر ومع ذلك ما زال يقول إنه يمثل الشعب السوري، ومثل هذا السلوك ما عاد مقبولا.
خلاصة الرؤية للمسألة الكردية
يجب تأكيد أن ولادة دولة كردية طبيعية لا يمثل من حيث المبدأ أي مشكلة للعروبيين في سوريا، ويجب أن لا يمثل أي مشكلة لدول المنطقة ذات الشأن، لكن لذلك شروطا لابد من توفرها:
1ـ لابد أن تأتي ولادة هذه الدولة في إطار الانتماء الى المنطقة: تاريخها، وشعوبها، ودولها،وتطلعاتها، وإلا فستكون منذ اللحظة الأولى دولة عدوة، فيها بعض من أوجه دولة الكيان الصهيوني.
الاسلام مكون رئيسي لشعوب المنطقة ودولها، لذاكرتها، وتاريخها، وحضارتها، وقيمها، لا يمكن العداء له، كما لا يمكن العداء للغة القرآن، للعربية، حاملة الوزن الأكبر من الناتج الحضاري العام للشعوب الاسلامية، ولمكونات هذه الشعوب، والمكون الكردي أحدها.
2ـ لا بد أن تقوم هذه الدولة على إرادة شعبية حرة ، إرادة متحققة للمكون الكردي، ولمكونات شعوب المنطقة الأخرى، وإلا فستمثل انسلاخا داميا لا يمكن توقع مدى ما سيحدثه من كوارث. والإرادة الحرة تعني في جوهرها عملية ديموقراطية يساهم فيها الجميع، لا بد أن يوافق السوريون ـ كما الأتراك والعراقيون والايرانيون ـ وبالارادة الحرة على أي شكل سيختاره المكون الكردي للعلاقة مع الوطن السوري، ليس هناك مشكلة في أن يقر السوريون جميعهم أن يكون هناك إقليم خاص أو مستقل للأكراد السوريين، على جزء محدد من الوطن والجغرافيا السورية.
دون هذه الإرادة الحرة الواضحة، سنكون أمام حالة اختطاف للمكون الكردي من جسد الأمة، وللإقليم الكردي المقام على جزء من جغرافية الوطن السوري، وهذا أمر فيه اعتداء صارخ على الأطراف الثلاثة: على المكون الكردي السوري، وعلى الشعب السوري، وعلى الوطن والجغرافيا السورية، ناهيك عن كونه اعتداء على الأمة العربية وأرضها.
3ـ لا بد أن تكون ولادة هذه الدولة أو هذا الاقليم، في إطار توافق مع الدول الأخرى ذات الشأن، خصوصا وأن القسم الأكبر من المكون الكردي لا يوجد في سوريا، وإنما في تركيا، ثم في العراق ، وفي ايران، وتأتي سوريا في آخر القائمة، ودون ذلك فإن مثل هذه الولادة في سوريا ستشكل تهديدا للأمن القومي للدول الأخرى,
إن هذه أحدى ضرورات ولادة دولة طبيعية للمكون الكردي في المنطقة، إنها فريضة الجغرافيا السياسية لهذا المكون، وهي نتاج التاريخ المشترك والحضاري للمنطقة، وهو تاريخ بقيت النظم والدول فيه ولأكثر من أربعة عشر قرنا تأخذ مشروعيتها من الانتماء للإسلام، واستنادا لهذه الحقيقة لم يعتبر الفتح الاسلامي والدول المتعاقبة فيه: الراشدية، والأموية، والعباسية، والسلطنات المملوكية، والدول المتتابعة، والدولة العثمانية، دول استعمارية، ما دامت منتمية لهذا الدين، وتريد خير وحماية هذه المجتمعات.
لا يجوز ولا يقبل التطلع إلى بناء دولة للمكون الكردي على أنقاض الدول القائمة، أو من خلال تفكيكها، فهذا مطمح استعماري صهيوني قديم جديد لا يمثل خيرا لأي مكون من مكونات شعوب وأمم المنطقة.
4ـ لا يمكن قبول ولادة كيان جديدة على قاعدة التطهير العرقي، والتهجير، واستلاب المناطق والأراضي بالقوة والعنف والدعم الخارجي، وذلك بغرض توفير مستلزمات الحياة والتواصل الجغرافي لهذا الإقليم، أو توفير ثروات باطن الأرض له.
إن القيادات السياسية الكردية المشار إليها تنهج هذا النهج في سوريا وفي العراق أيضا، ومحاولة pyd السيطرة على طول الحدود التركية السورية وفتح ممر يوصلهم الى البحر المتوسط، هو من هذا القبيل.
لكل ما سبق إذ نقول بأنه لا مشكلة في ولادة كيان كردي تتحقق فيه الشروط السابقة، نقول أيضا، إن كل ما خلقته القوى السياسية الكردية بشأن الكيان الكردي لا يوفر مثل هذه الولادة، لا الآن ولا مستقبلا، وأن الحل الحقيقي للمسألة الكردية، هو في النظر إليها في إطار الدول والمجتمعات الأربع القائمة كلا على حدة، وبما يحافظ على الوحدة الجغرافية والسكانية لهذه المجتمعات، ويوفر في الوقت نفسه كل مجالات العمل والنمو الاجتماعي والثقافي، والتفاعل الديموقراطي، لكل مكونات هذه المجتمعات، وعلى قاعدة المواطنة المتساوية دون تمميز أو إقصاء أو غبن، وفي مقدمة هذه المكونات يأتي المكون الكردي، كما يوفر هذا الحل واستنادا الى توزع المكون الكردي قاعدة من الجغرافيا البشرية للتعاون والتعاضد بين هذه المجتمعات الأربع
في هذا الإطار الحر الديموقراطي والطبيعي، المتسق مع التاريخ ومع الجغرافيا السياسية يمكن حل " المشكلة الكردية" وكل مشكلة أخرى من هذا القبيل.
الأكراد منا ونحن منهم، ولا يمكن قبول أي حل لا ينمي ويرسخ هذه العلاقة التاريخية الحضارية والروحية الوثيقة، وكل حل لا يحقق هذه العلاقة هو في عمقه عدوان على المكون الكردي حاضره ومستقبله، بمثل ما هو عدوان على المكون العربي، حاضره ومستقبله.
الشارقة
د. مخلص الصيادي
المصدر مركز الحوار العربي في واشنطن