نشر مركز الجزيرة للدراسات في موقعه، في خانة "دراسات عربية" موضوعا تحت عنوان: "موريتانيا بين دستورين: إعادة ترتيب مشهد منقسم". ولعل القائمين على الموقع أخطئوا التصنيف، أو أن الفروق بين الدراسة ومقالة الرأي، على وضوحها، ملتبسة في أذهانهم! فالدراسة تقتضي حدا أدنى من الأمانة العلمية، ومنهجا صارما، ووقائع موضوعية تستخلص منها نتائج ترمي إلى برهنة فرضية علمية... أما مقالة الرأي فلا تتقيد غالبا بمثل هذه الشروط لأنها تعبير عن وجهة نظر تغلب عليها الذاتية، والانتصار لأطروحة لا يضعها صاحبها موضع شك... وبذلك يرتفع اللبس بين الدراسة ومقالة الرأي.
وحين نمر، ولو بشكل سريع، على "دراسة" مركز الجزيرة يتبين لنا بوضوح أنها مجرد مقالة رأي، أخطأ القائمون على الموقع في وضعها تحت عنوان لا يناسبها، أو أنهم أرادوا تضليل المتصفح ليحسب الشحم في من شحمه ورم... تنتفي شروط "الدراسة" في مكتوب الجزيرة، منذ العنوان:"موريتانيا بين دستورين"... فلا مسوغ علميا، أو قانونيا، للحديث عن دستورين. فالتعديلات تظل على نفس الدستور الذي عدل قبل هذا، ولم يزل هو هو، دستور 1991. ويوغل مكتوب الجزيرة في النأي بنفسه عن شروط الدراسة حين تستنسخ خاتمتُه مقدمتَه، ويتيه السرد بينهما في ثنايا إنشاء رتيب، وأخبار غير دقيقة...
يقول مكتوب الجزيرة في مستهله.."... أزمة مفتوحة منذ حوالي عقد..." وفي ختامه.."... على إيقاع الاستقطاب منذ عقد كامل..."، "... المبحر منذ عقود في أزمات متعددة..." وفي ختامه.."... توقعات تنذر بأزمات متعددة..." إنه حقا لجهد ضائع أن يكتب "باحث" "دراسة" "تتطور" فيها الأزمة لتصبح استقطابا، ويكتمل العقد في الخاتمة بعد أن حام الباحث حوله في المقدمة، ويستهل "في أزمات متعددة"، لتنتهي "الدراسة" "بأزمات متعددة"!!! كل ذلك متوقع حين تبدأ "الدراسة" بتقرير نتائجها، وتعتمد معلومات خاطئة عن موضوعها.. يقول مكتوب الجزيرة: "وفيما يأتي أبرز التعديلات التي أقرها الاستفتاء:... رابعا: إلغاء محكمة العدل السامية البرلمانية ونقل صلاحياتها إلى المحكمة العليا مع الاحتفاظ للبرلمان بحق الاتهام فحسب." لا يعلم مركز الجزيرة للدراسات، وهو يصدر "دراسة" عن التعديلات الدستورية في موريتانيا، أن إصلاح محكمة العدل السامية تم التخلي عنه، وقد شرح رئيس الجمهورية الأسباب أكثر من مرة في مهرجانات شعبية!!! فأي صدقية لدراسة مبنية على معلومات خاطئة يمكن التأكد منها بسهولة لو امتلك الباحث والمركز والموقع والقناة حدا أدنى من المهنية وتحري الصدق. وتستمر المعلومات الخاطئة التي تبنى عليها استنتاجات خيالية.."ألغى الاستفتاء أعرق مؤسسة تشريعية في موريتانيا..."!!! لا يمكن للقارئ أن يفهم ما الذي تقصده الجزيرة بأعرق مؤسسة تشريعية!!! فكل المؤسسات التشريعية ترجع إلى نفس الدستور الذي لا يتجاوز عمره 26 عاما. ولم يكن في الجمهورية الأولى مجلس للشيوخ، فما معنى أن يكون مجلس الشيوخ أعرق من الجمعية الوطنية والمجلس الدستوري...!!! ثم تلجأ الجزيرة إلى أفعال المقاربة لتعطي مجلس الشيوخ دورا مزعوما لم يمارسه إلا مرة واحدة حين تعلق الأمر بإلغائه.
تعتمد "دراسة" مركز الجزيرة للدراسات على نفس المصادر التي تلجأ إليها القناة في نشراتها وتقاريرها الإخبارية، وتغطياتها المباشرة.."...فإن قطاعات واسعة من المدونين الموريتانيين ورواد شبكات التواصل الاجتماعي وثقوا عمليات تزوير واضحة..." تماما كما "وثق" "القبعات البيض" القصف بالكيماوي في خان شيخون... فلم تورد "الدراسة" مثالا واحدا، ولم تحدد مركز اقتراع واحد "وثقت فيه عمليات تزوير واضحة..." فهل سمعتم، قبل "دراسة" الجزيرة هذه بدراسة تعتمد على المدونين ورواد شبكات التواصل الاجتماعي!!! ثم تعتمد "الدراسة" التضليل حين تقول.."...وفي مناطق أخرى واسعة من الضفة..." ولا تورد مثالا واحدا من هذه المناطق الواسعة!
تنتقل "الدراسة" إلى استنتاج ما تراه مترتبا على الإصلاحات الدستورية فتطلق العنان لتصورات تبنيها على سمر الصالونات وما تنشره بعض المواقع من أحاديث خرافة القصد منها جلب المتصفحين.. "إعادة الهيكلية الحكومية... ترتيب بيت الأغلبية" وفق معايير حددتها "الدراسة" دون معيار واضح. ويظهر تهافت "الدراسة" حين تر الاحتمال حيث ينبغي اليقين.."وفي سياق الانتخابات، ستشمل إعادة التأسيس...البدء في انتخابات تشريعية جديدة "ربما تشمل": مجلس النواب، المجالس الجهوية، البلديات، تعيين أعضاء مجلس الفتوى، تعيين أعضاء المجلس الاقتصادي..."
لا تجد "الدراسة" ما تعزز به صفوف المعارضة سوى "حركتي "إرا" و"أفلام" العرقيتين..." وكأنها تذم المعارضة من حيث أرادت أن تمتدحها. فمن يعزز صفوفه بحركتين عنصريتين هامشيتين لا يمكن أن يقدم نفسه بصفة معارضة وطنية نزيهة تحمل مشروعا اجتماعيا. وتعزز "الدراسة" هذا الاتجاه في خلاصتها حين تحصر خيارات المعارضة "في إزعاج النظام وتوفير الظرف المناسب للمجازفات العسكرية، مع العجز البنيوي عن إحداث التغيير..."
خلاصة القول أن ما سماه مركز الجزيرة للدراسات "دراسة" لا تتوفر فيه أدنى الشروط العلمية للدراسة، فهو أقرب إلى مقالة الرأي التي يتخذ كاتبها موقفا مسبقا ينافح عنه ويحشد له الأدلة، وربما اختلقها له. فلم تشتمل "الدراسة" على وقائع موثقة، ولم تعتمد على مصادر يوثق بها، كما أنها خلت من أي أرقام إحصائية، أو تحليل منطقي مبني على وقائع موضوعية، وتسهب رغم ذلك في تعداد الأزمات السياسية والاقتصادية!!! أضف إلى ذلك غياب أي معلومات عن صاحب الدراسة سوى أنه "إعلامي موريتاني". لكن صدور "الدراسة" في مركز الجزيرة للدراسات، ونشرها على موقعه يلغي كل هذه التحفظات العلمية. فدراسات مركز الجزيرة للدراسات، الطامح إلى العالمية، ليست سوى مقالات رأي تعبر عن انشغالات الممول، وتخدم أجندته السياسية مثل بقية أذرع شبكة الجزيرة الإعلامية. فاستخدام مصطلح "الدراسات" يهدف إلى التعمية فقط بينما الواقع هو ترويج وجهة نظر سياسية معينة باستخدام شبكة إعلامية كانت لها صدقية قبل أن تنكشف حقيقتها. فقد أدرك المواطن العربي بعد فتنة الربيع وما خلفته من مدن مدمرة، ومجتمعات مفككة، ومجموعات إرهابية تتناسخ، أن الجزيرة الإخبارية، والوثائقية، والرياضية أوجه متعددة لفخ واحد.. أن أكاديمية التغيير، ومركز الجزيرة للدراسات، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أدوات دعائية لنشر الفوضى باسم الحرية، وتفكيك البلدان تحت غطاء الديمقراطية... وأدرك أخيرا الآلية التي يعتمدها "القبعات البيض" لتوثيق الانتهاكات وعمليات التزوير... فقد سارت شبكة الجزيرة في "الاتجاه المعاكس" للمهنية والإنسانية، والذوق السليم.. كيف ترد؟