طفا أمامنا جبل (فالسر بيرغ) ناسكا في أقاصي الأفق. انتصب هناك ثم هنا جنب القطار. صَـمْتُه الجليل يعلن عن أننا على مسافة متقاربة من الثلاثية الأمبراطورية : "لييج" البلجيكية و"آخن" الألمانية و"ماستريخت" الهولندية.
يفتخرُ هذا الجبل بما يعرف بمحطة النهايات الثلاث. فيها تتصالح مؤقتا أعلام بلجيكا وألمانيا وهولندا. منذ ما يقارب القرن كانت النهايات أكثر. ولكن الدولة الرابعة اختفتْ مع نهاية الحرب الكونية الأولى. لم تكن (موريني) المحايدة إلا دولة زنك صغيرة على وزن مدن الملح ودوله. نفد الزنك وفعلتْ الحرب.
جبل (فالسر بيرغ) يتبع أراضي هولندا وهو رسولها إلى الغيوم. هولندا لا تريد أن تكون اسم عَلَم. تُصرّ على أن يفهم كلّ بلغته أن مملكة وليام الأول "بلدان واطئة". تستوي سهلا محتشما يتخفى تحت قزحيات ما يلبسه من زنبق وخزامى. أشبه في ترتيبه بالملْكية الخاصة. تتصارع هولندا مع "حديقة الملتقى" بضواحي مدينة "آنسي" الفرنسية ـ روما جبال (الـألب) أو (بندقيتها) ــ على لقب"حديقة أوربا".
قبل ساعات من ركوبي لهذا القطار الألماني كانت (ماستريخت) تحتضن احتفالات يوبيل المائتي سنة على إنشاء مملكة (البلدان الواطئة) في مؤتمر فيينا. لم تستطع دول أوربا أن تصبر عن الحروب. توهمّ المؤتمر حينها أنّ الحدود أضحتْ نهائية فغرقتْ القارة في لعبة إعادة رسم خرائطها بحروب لا نهائية. حين انفصلتْ بلجيكا عن هولندا أصبحتْ تُـلقَّب : ساحة معارك أوربا. طبعا أوربا كلها والعالم أجمع ليس إلا امتدادا لهذه الساحة. من العسير أن تقاوم الأنظمة شهوة التشظي ومطلع بائية أبي تمام. لعل كلمة (البينلكس) تعوض رمزيا مملكة (أمستيردام) عن انفصال البلجيكيين واللكسامبورجيين. ولكن باستثناءات قليلة فإن الحروب المتتالية لم تُبْق من الإمبراطورية البحرية إلا هذه الحديقة الدولة التي تمنح العالم تسعين بالمائة مما لديه من أزهار الزنبق. تُكفّر بهذا الكمّ الجليل من الحبّ المقايض عدّا ونقدا عن حروبها المباشرة وغير المباشرة. تكاد تكتفي بسهلها البهي المتواضع. جبل (فالسر بيرغ) كاستثناء هو أعلى نقطة فيه.
قد تكون كذلك الرغبة في التكفير عن الذنب هي التي دعتْ البلدان الواطئة غداة الحرب الأولى إلى أن تحتفي بـ(مبارك فال). فالشائع أن الراقصة (فاوكنبيرغ) هولندية أو ربما هولندية ألمانية. استقبلتْ الملكة مبارك فال وأعلنت يوم استقباله عيدا ملكيا وعطلة رسمية للدولة. بدا الأمر للرأي العام أقرب إلى المبالغة. لاسيما أن (فال) أراد أن ينتقم من (فاوكنبيرغ) على طريقته، وأن تتحول قصته مع هولاندا اللتي هزم ملاكميها إلى قصة وردية. أصبح الأمر في الصحافة الشعبية صدمة عامة. فقد كان أمرا نادرا حينها أن يتزوج إفريقي بأوربية. السلوك الشعبي لم يكن يستطيع أن يتقبّل في تلك الحقبة شيئا مماثلا حتى في الحكايات الغرائبية. مبارك فال ظل مولعا بالاستفزاز فتزوج تباعا بجميلتين هولانديتين.
ثمّ "أجاب الهوى لما دعاه بزفرة". ترك أوربا وزوجتَه الهولندية إلى جزيرة الحرية في (مانهاتن). أراد أن يقول مع بعض قدماء المتكلمين إن الاسم غير المسمى. تمثال الحرية المنتصب في الجزيرة الصغيرة لا يكبره إلا بما يناهز العقد. على عجل عبَرَ التمثالُ قبلَه الأطلسي. ترك باريس إلى نيويورك على استحياء كأنَّه يخاف أن تجمعه (مونمارتر) بالاستفزازات المتهكِّمة للملاكم القادم من المنكب البرزخي. مبارك فال يفضِّل الضجيج كأنه يمهِّد لـما سيقوله (مالكوم أكس) عقودا بعد ذلك : "إذا لم تسمعك الناس فلن تستمع إلى قضيتك". لحق فال بالتمثال كي يسخر منه في وجهه. هنالك أدركتْه يائية مالك ابن الريب قبل أن تدرك بعده بسبعة عقود مدمنها الباهي محمد وهو على أبواب القصبة الموحدية في طريق العودة من باريس :" وبالرّمل منا نسوةًّ لو شهد نني / بكين وفدّين الطبيب المداويا". وحده ابن الصحراء يفهمها لذلك لا يحب أن يضيع الركب. ذلك ما أدركه عبد الرحمن منيف والجابري في كتاباتهما عن الباهي.
غرْب هذا الجبل أيضا أوحتْ مواكب السنديان لـ(أبولينير) بقصائده البكر، بأسئلته المراهقة عن متى ينتهي الأسبوع وعن الخراف التي تسير في الثلج وعن دائه اللذيذ ومتى تعود ماريا. للقصائد الأولى لون المساءات الماطرة. لها صمت الانتظار. أودعتْه أمّه هنا للماء الأحمر في (استافلو) كي تتفرّغ لمدينة الماء الحراري (اسْبَا). لم يكن يهمها في ضواحي (لييج) إلا (اسبا) المدينة التي سماها جوزيف الثاني عشية الثورة الفرنسية "مقهى أوربا". كانت (أنجليكا) أم (أبولينير) تريد أن تطفئ لهيب ولعها بلعب القمار في (لاردُتْ) قبل أن يدفعها الهوس بالكازينوهات إلى العودة إلى (مونتكارلو). سيتناثر لاحقا ما بقي من حب (أبولينير) الأول والعاشر مع تموجات نهر (السين) تحت جسر (ميرابو) في باريس كما تقول قصيدته الشهيرة. بالنسبة للشاعر (باول نويهايس)، أحد رواد الدادائية في بلجيكا، ما تعنيه غراميات (أبولينير) لا يتعلق بامرأة معينة وإنما بـ(مونوليزا) الرسام (ليوناردو دافنشي) أو، باللغة الفرويدية، الأم الغائبة والابن الضائع.
عرف "أبولينير" هذه الأهوار العالية للمرّة الأولى سنة 1899. سيكتب لاحقا (باول نويهايس) : "لقد أقمنا نصبا في (فنياتنا) لـ(غيوم أبولينير). على غرار (بيترارك) سنة 1333 زار (ابولينير) نهر (الراين) و(لييج) والإقليم الفلامندي وعبَرَ العزلةَ المتجهمة لغابة (الأردين) التي خلّدها (بترارك) بإحدى أجمل سونيتاته إلى (السيدة لور)".
لم يستطع (أبولينير) أن يدرك ورثته الدادائيين ربما لذلك كتب مريدُه غيابيا "اتريستان تزارا" تحت العنوان المفارقي "قياس استعماري...":
"لا يستطيع أحد أن يتجنب مصيره
لا يستطيع أحد أن يتجنب الدادا".
عكسا لـ(بيترارك) كان (أبولينير) يشعر بنوع من وحدة المصير مع المسلمين رغم أنّ لديه بداهةَ تجاههم وتجاه غيرهم أغلبَ الصور النمطية التي لدى معاصريه. ربما كان يعيش حينها تمزّقا ذاتيا لا يختلف جذريا عن حالة مبارك فال زميله في جبهات الحرب الكونية الأولى و شريكه في حمل نياشين التكريم من الجيش الفرنسي: "أتغنى ببهجة التصعلك وبـلذّة أن أموت بسببه".
مصير (أبولينير) كما قال (باول نويهايس) هو : "مصير العائلة الأكثر تراجيدية بين الشعراء : (فيرهارين) تمَّ هرْسُه في محطة قطار بـ(روان)، (شيلي) مات غريقا، (نرفال) تمّ شنقه، (بوشكين) قُتل في مبارزة، (نتشه) مات مجنونا، (ريمبو) قضتْ عليه زهرة النار".
كلّ الاتجاهات الابداعية التي دشّنها أبولينير أو ساهم في تدشينها (السوريالية، التكعيبية، الوحشية، المستقبلية، الدادائية ...) ستسقط كليا أو جزئيا ضحية للحرب الكونية الأولى ومعها ما يسميه الفرنسيون والبلجيكيون بالحقبة الجميلة ( la Belle Époque) أو الفلهيمنية بالنسبة للألمان والحقبة الأدواردية بالنسبة للإنجليز. وتقابلها إلى حدّ ما الحقبة الذهبية (The Gilded Age) عند الأمريكيين. عمّ لباسُ الجوع والخوف فأٌرْسِل (أبولينير) إلى هذه المنطقة التي عَرفتْ التماعاته الشعرية الأولى. أُرسِل كملازم إلى خطّ النار في (طريق السيدات). رغم أنه لمْ يوضع تماما مع الأفارقة في النهاية الماقبل أمامية، فإنه خلفهم ومثلهم وقع بين قبضتي القنابل الألمانية والأنفلونزا الاسبانية.
مات (غيوم أبولينير) يوم نهاية الحرب. كان أصدقاؤه منشغلين بدفنه في مقبرة (بيير لاشيز) حين فوجئوا بجموع باريسية متظاهرة تصيح : يموت (غيوم). لاحقا فهموا أن المعنِي هو (وليام الثاني) ـ (غيوم) بالنطق الفرنسي ـ قيصر ألمانيا. أما صاحب قصائد السلم والحرب (العنوان الآخر لديوان الخطّ الرسومي : Calligrammes) التي كتبها بعد أن ذاق الحرب والحرب فقد أدركه لهيبُ دالية المعري.
عَـرَف (أبولينير) أيضا ومنذ البداية ظلم الهويات العشوائية : أرستقراطي أكراني شبه مجهول الأصل ومواطن بولندي من رعايا الدرجة الأخيرة لروسيا وُلدَ في عتمات روما وتربّى في جنوب فرنسا وغرب ألمانيا. ثمّ تركتْه أمّه مراهقا في أهوار بلجيكا قبل أن يصبح أشهر شاعر باريسي في بداية القرن الماضي. وقبل أن يُكمل عقده الرابع قضتْ عليه اقفاص الدول الوطنية في العبثية السريالية للحرب الأولى. كأنّ الأمر دليل آخر على أن استبداله للفوق طبيعي بالفوق واقعي ـ سريالي ـ لم يُفهم. سيضطرّ تاليا (آندري ابرتون) في بياني السريالية أن يعيد المحاولة. ولكن الحرب الكونية الثانية ستنتصر لمطلع بائية أبي تمام. ما سماه (ابرتون) في بيانه الأول "الإنسان هذا الحالم النهائي" سيترك مكانه للاإنسان هذا القاتل اللانهائي.
والمستقدمون من المستعمرات إلى خطّ الموت ؟ لم يبق لمن بقي منهم هنا بعد (فردين) و(لاسومّ) و(طريق السيدات) والأنفلونزة الإسبانية إلا أن يرثي نفسه همسا مع ميخائيل نعيمة:
" أخي ! قد تَمَّ ما لو لم نَشَأْهُ نَحْنُ مَا تَمَّا
وقد عَمَّ البلاءُ ولو أَرَدْنَا نَحْنُ مَا عَمَّا
فلا تندبْ فأُذْن الغير لا تُصْغِي لِشَكْوَانَا
بل اتبعني لنحفر خندقاً بالرفْشِ والمِعْوَل
نواري فيه مَوْتَانَا "
في أماكن كثيرة من العالم يحاول بشر بدل أن يتعلموا من أخطاء قيام الدولة الوطنية أن يقلِّدوها وأن يعيدوا إنتاجها. كل قبيلة وهمية أو نصف وهمية تريد أن تكون لها دولتها القومية. على أساس عرقي أو على أساس طائفي أو مذهبي أو على أساس جهوي أو لغوي لا يهم. و«النسب أمر وهْمِي لا حقيقة له» كما لاحظ ذلك مفارقيا صاحب المقدمة.
شيء ما في الأفق يتألم معي. أُسَلِّم صمتا على تلك المدينة (ماستريخت). أصبحتْ ـ منذ اتفاقية 1992 الموقعة فيها ـ عَلَما هولنديا على رغبة من نوع ما في تجاوز أقفاص الدول الوطنية. ولكنها مدينة خبرتْ قدرة شهوة التشظي على المقاومة، على قفْص الأقفاص في صناديق باندورا.
(مايسترخت) تَعرف ما سمّتْه قافية أحمد شوقي دَمَ الثوار. تعرفه تماما كما تعرفه باريس. كل شبر منها مترع بالدمع الذي لا يُكفكف. (جان باتيست كليبير)، القائد العسكري الفرنسي الذي فَتحَ (مايسترخت) باسم الثورة، في أوج الأخيرة سنة 1794، دمّر وسلب كل ما كانت تفخر به المدينة الهولندية : مكتباتها ومدارسها وكنوزها العلمية وكنائسها وأديرتها ومعابدها ومستشفياتها ودور أيتامها وملاجئ معوزيها إلخ. "وقيل معالم التاريخ دُكَّتْ / وقيلَ أصابها تلَفٌ وحرق" .تمّ كلّ ذلك باسم الثلاثية الثورية: حرية، مساواة، إخاء. وباسم الثلاثية الثورية أيضا عبـَر (كلبير) من (ماستريخت) إلى (لافاندي) ليشارك في تنفيذ إحدى أغرب عمليات الإبادة الجماعية في العصر الحديث. باسمها كذلك عبَـرَ المتوسط رفقة (نابوليون) كي تدفع الجموع البريئة من دمائها فاتورة "حلم الشرق" البونابارتي.
"كليبير" هو أبرز منفذي المجزرة التي ارتكبها الثوار ضد انتفاضة الفلاحين في "لافاندي" مثلا والتي قضى فيها ما بين مائتي ألف ونصف مليون شخص. (سين جستْ) ألهم أجيالا متعاقبة بعبارته : "ليس للشعب إلا عدو واحد خطير : حكومته". وردتْ هذه العبارة في تقرير قدمّه "مَلاك الإرهاب" ـ كما لقّبَ 'سين جست' ـ أشهرا قبل المجزرة. وهو اعتراف له دلالته من أحد قادة الثورة وأحد من أعطوا الأوامر في أوج الفترة الأكثر دموية بإبادة سكان (لا فاندي) : رجالا ونساء وأطفالا. الأوامر الرسمية المكتوبة من لجنة الخلاص العام (روبيسبيير، سين جيست، بارير إلخ) تأمر بالقضاء على الفلاحين المنتفضين كلياً (من لم يقتل رمي في نهر 'لالوار' فيما عرف بمغرقة 'نانت' ) حتى بعد أن استكانوا. الهدف المعلن إرهاب بقية السكان.
تتذكّر مدينة الأنوار عبارة (بابيف) التي كَتب إلى زوجته : " القادة بدل أن يهذبونا جعلونا همجا. لأنهم همْ همج. لقد حصدوا وسيحصدون ما زرعوه بأنفسهم". عني (بابيف) قادة نظام ما قبل الثورة وكان تحت صدمة مشاهد مرعبة سنة 1789 حين سحل الباريسيون بعض قياداتهم ومزقوا جثثهم. أما حين تابع سنة 1794 مجزرة (لا فاندي) التي ارتكبها قادة الثورة ضدّ الشعب فقد سماها populicide أو إبادة شعب. طبعا لم تكن قد ظهرتْ بعدُ كلمة genocide (الإبادة الجماعية) لتي اقترحها البولندي الأمريكي (رافائيل لمكين) سنة 1944 في أوج مجازر الحرب الكونية الثانية.
لم يكن (كليبير) يعرف العجلة فــكما سيقول لاحقا (بريخت) : " الطغاة يشيدون خططهم لعشرة آلاف سنة". في مصر أصبح (كليبير) بحسب عبارة الجبرتي "صاري عسكر بونابرته الكبير" بعد أن عاد الأخير إلى فرنسا لينقلب على الثورة. فجأة أخذتْ عبارة بابيف مزيدا من المصداقية ـ ومعها قبْليا قصيدة بريخت ـ عندما سقط كليبير تحت ضربات الشاب سليمان الحلبي.
لهذا ربما، كنوع من تحقق نظرية معاكسة لفلسفة (هيغل) في التاريخ، تخلتْ ساحة الحفاة في (ستراسبورغ) عن اسمها مبكرا لتصبح في آخر مطافها ساحة (اكليبير) . وما تزال الساحة المركزية في عاصمة عيد ميلاد السيد المسيح تحمل اسمه. تخلّتْ عن اسميها الألمانيين : ساحة الحفاة ثم ساحة الأسلحة. كما تخلتْ عن اسمها الفرنسي : ساحة الفرنسيسكيين. أو حرفيا ساحة السلاسل المربوطة (Place des Cordeliers). يقال إن أتباع القديس (فرنسيس الأسيزي) لـُـقِّـبوا بالاسم الأخير خلال الحملة الصليبية السابعة. لم يكن لويس التاسع (القدّيس لويس - سين لوي - وفق تعميده الكنسي اللاحق) يعرفهم. وفوجئ بهؤلاء الرهبان يقاتلون بشراسة . فأجيب بأنهم سلاسل مربوطة بالنظر إلى طريقتهم في اللباس والتحامهم "الديني".
يبدو أن نصف قرن كان كافيا لتمحو رومانسيةُ القرن التاسع عشر جرائمَ (كليبير) وتحتفظ فقط بالأسطورة الثورية. نوع تقليدي ومرعِب مما سيسمّيه (فرويد) بالإعلاء. هنا في بروكسيل، أميالا قليلة من ماستريخت، لم تمنع كلُّ تلك البشاعات المرعبة (فيكتور هغو) ـ وهو هارب من نابليون الثالث ـ من أن يندفع مع غنائيته الانسيابية في تمجيد (كليبير) كأحد رموز ما سيعتبره ملحمة الثورة:
"في حالة سكر، واستمتاع بكل الأصوات البطولية، الحديد يصفع الحديد، الطبول، وقذائف وقنابل، وصنجات، وضحكُكَ ياكليبير" (À l'obeissance passive إلى الطاعة السلبية).
بقي الحلبي مع هذه النباتات والحيوانات المستقدمة من القارات السبع تشاركه القدر "ما أقام عسيب". عندما زار الطهطاوي حديقة النباتات بعد ست وعشرين سنة من "ضيافتها" لجثمان الحلبي كتب باقتضاب : " ويوجد بهذا الرواق بعض شيء من جثة المرحوم الشيخ سليمان الحلبي الذي استشهد بقتله للجنرال الفرنساوي كليبير وقتْل الفرنساوية له في أيام تغلبهم على مصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (تخليص الإبريز).
سليمان الحلبي لم يقبل أن يتردّد تردّد (هاملت) الإبن. ولكنه أيضا لم يدّع الجنون بل تحمَّل مصيرَه كاملا كما قال الطبيب (دومينيك جان لاري) الذي أشرف على إعدامه والذي وضع هيكله العظمي في متحف الإنسان. كتب في مذكراته :" الشجاعة وهدوء الأعصاب الذين واجه بهما سليمان حرْقَ يده اليمنى وخوزقتَه تذهلُ الإنسان الحسّاس وتثبتُ إلى أي درجة تؤثر الإرادة الصلبة للإنسان على إحساساته الجسدية." (Mémoires et Campagnes du Barron Larrey)
كانت "مايسترخت" تُكنّى المدينة الأكولة أو النهمة لكثرة مطاعمها. لم يبق لها بعد عاصفة (كليبير) ما تأكل إلا حطامها ومصائبها وحظّها العاثر. لم يبق لها إلا أن تتأمّل نونية أبي البقاء الرندي. قد تُظهر باريس أنها تعتزّ بالجنرال كليبير الذي ما تزال تُسمِّي عليه أحدَ شوارعها الرئيسة وتسجل اسمه على قوس النصر. ولكن دروبها تئن مع أبي العلاء وتردّد مطلع الدالية. تعرف أن الجنرالات وأسماء كثيرة أخرى تتباهى بها دروبُها إنما تشهد كشبح (هامليت) على أن مدينة الأنوار تنرنّح فوق الجثامين وتطاردها العتمات.
إحدى كوارث المدن أنها تعيش تدنيسا وامتهانا دائمين. تكفي نظرة سريعة إلى قائمة أسماء الشوارع والساحات في أي مدينة. فأهلها يرغمونها عادة على الاحتفاء في أغلب شوارعها ومعالمها بأعتى القتلة ومصاصي الدماء.
اسم (كليبير) على قوس النصر بين أسماء الأبطال. وخطوات جنبه ما تزال عبارة "مجرم" تنتصب أمام جثمان الحلبي. يتذكر سليمان رحلة امرئ القيس إلى القسطنطينية ويتأمّل مع المتنبي الحيوانات المحيطة به "والجنّ من ستراتها والوحش من / فلواتها والطير من وكناتها".
لم يخطئ (أبولينير) في حدسه. في حديقة النباتات (متحف التاريخ الطبيعي) أصبح المسلمون، بعد بناء المسجد، يمرون أمام جثمان الحلبي بالمئات. وهم الآن أمام قصر (شايو) يمرّون يوميا ربّما بالآلاف. لعلّ الحلبي يجيبهم بمطلع لامية الشنفري ثم يردّد "وفي الأرض منأى ...". أو لعلّه ينظر إليهم وهو غارقون في وجعهم فيرثي لحالهم ويفضل أن يبقى واقفا.
بدي ابنو