محاضرة في "الجمعية العمانية للكتاب والأدباء: ركن الفكر" - 10 مايو 2017
عنوان هذا العرض هو منهجية التفكير، وترجمتها العملية: كيف تصون سلامة تفكيرك. أما خلاصة العرض فهي أن الفكر في ارتقائه لا يلبث أن يتحرر ويسمو... ومن هذه الخلاصة المحورية، المستقرةِ في مدركي منذ سنين، يسعدني أن أكون معكم في حوار هذا المساء.
عالم الفكر ليس عالما راكدا وإن بدا أنه راكد إزاء ما نشهد من صخب عالم الحركة. على أن في عالم الفكر، كمثل ما في عالم الحركة، زبد يناكف ماينفع الناس. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناسَ فيمكث في الأرض. بذلك تُنبئ الحكمةُ المتعالية في القرآن المجيد.
تاريخ الفكر هو تاريخ الإنسان منذ أن وعى الإنسان على نفسه وبدأ يتأمل محيطه، الأرضيَ والكوني. في مراحلها المبكرة تلك، الحضارات عامة أودعت تأملاتها في صياغات دينية. جميعها في اجتهاداتها لأجل فهم الذات، والكون، والسنن السارية في الكون، تعاملت مع الوجود بفكر متهيب من المجهول، الأمر الذي جنح بها نحو شروحات غيبية في قراءة الطبيعة وتمظهراتها، في استقراء نشوء الحياة على الأرض وتطور أجناسها، في فهم وضعية الإنسان ضمن حراك الحياة، وفي تخيل مآل الإنسان بعد الوفاة.
إلا أن الفكر الديني، بعد ردح من الزمن، أمام تراجع اقتناع الناس بشروحاته الميافيزيقية، لم يجد مناصا من أن يطرق باب المعرفةِ العلمية، فطرقه، لكن بشديد حذر. في ذلك، بانتقائية لم تحفل كثيرا بمعيار المنهج المعرفي، صنع الفكر الديني سندا كلاميا زاخرا لتبرير شروحاته – سندا متناغما مع المعرفة العلمية حيثما ناسبه، ومتفاديا التصدام مع مخرجاتها ما أمكنه. بذلك تصالحت الديانات نوعا ما مع المعرفة العلمية، لكن بارتياب مستمر مستتر. هذا بعد أن كانت قد خاصمت المعرفة العلمية جهارا لأمد طويل، وتعاملت مع رادتها من العلماء والفلاسفة بإجحاف، وأحيانا أيضا بإيذاء.
الفكر هو ما نشعر به بوجودنا، ونهتدي به إلى وجود ما حولَنا، قريبه وبعيده، ظاهره وباطنه. هو ما ننطلق منه في تعاملنا مع كافة أمور الحياة، وما نحاول، استنباطا به، استكشاف خفايا الوجود. فإن كان فكرا سليما جاء نظرنا وأداؤنا سليما وفق نسقه، وإن كان فكرا معتلا جاء نظرنا وأداؤنا معتلا على شاكلته. من هنا لزوم الحرص دوما على ضمان سلامة التفكير، وذلك باجتناب جميع مشوهات التفكير، أكانت عضوية الأثر، كمواد السُكر والتخدير، أو نفسية الوقع، كالانفعالات التي تخرج المرء عن طور الرشاد، كما الغضبُ والغرور والحسد وكراهية الآخر ونزعة الانتقام، وكما الخوفُ والطمع، وكما أيضا حين تأخذ المرء أنانية مفرطة فيجحف بحقوق الآخرين.
هل يمكن تشخيص عناصر التفكير السليم؟ بنظري يمكن: عناصره، على ما أرى وضوحا، ثلاثة: المعرفة العلمية، المنطق العقلي، الضابط الخُلقي. من ترافد هذه العناصر الثلاثة، وتلازمها تكامليا، يتشكل المنهج المعرفي الصائنُ سلامة التفكير.
العنصر الأول في المنهج المعرفي هو المعرفةُ العلمية ذاتُها، أي الإحاطةُ بالشيء أو الشأن الذي نتعامل معه إحاطة موضوعية وافية.
المعرفة عامة، في سياق تبلورها التاريخي، نتاج إنساني مشترك، تداورت على بلورته الحضارات من خلال تقابس مستدام. مضمار المعرفة مفتوح أبدا أمام الاستنباط: تحققا، وتوسعا، وتعمقا، وتطورا، في كافة المجالات. في عصرنا المعرفة تتنامى بوتيرة متسارعة في المدرك الإنساني، بفضل أبحاث رائدة، جادة وجريئة، يقوم بها باجتهاد دائب علماء أجلاء من مختلف الأمم. من محاسن عصرنا أيضا أن المعارف العلمية المتبلورة، من بعد التحقق منها بالمنهج العلمي، سرعان ما تتعمم عالميا فتغدوا في متناول المعاهد العلمية والجامعات في جميع الأوطان، لتتلقفها الأجيال عبر العالم جيلا إثر جيل.
في عصر سلف كان للأمة العربية شأن معرفي مشهود حين جمع وصان علماؤها وفلاسفتها معارف الأولين، ثم انطلاقا مما جمعوا وصانوا، طوروا معرفة فاقت، محتوىً ومدىً، معطى ما اقتبسوه بادئ الأمر. ثم إذ انحسر المد المعرفي العربي والإسلامي بعد حين، أمام ممانعة أهل الكلام، وتشويشات المتصوفين، وهجمة المنغول الشرسة والكاسحة على ديار المسلمين منتصف القرن الثالث عشر، تلقفت المنتجَ العربي الإسلامي، أو ماسلم منه وحفظ، وهو قليل من كثير، أمم متعطشة للمعرفة العلمية، لكن فاقدة لها. في مقدمة تلكم الأمم كانت أمم الغرب الأوروبي.
بعملية اقتباس نشط، غزير، ووسيع، ثم باجتهاد ذاتي متواصل، بدءً من عصر النهضة في القرن الخامس عشر، مرورا بالإصلاح الديني خلال القرن بعده، وأخيرا عبر التحول حثيثا إلى أنظمة ديمقراطية علمانية، وصولا إلى العصر الحديث، شيد الغرب تراكميا الصرح المعرفي الذي من ثناياه انبثقت الحضارة التي يعيش الناس اليوم معطاها المستفيضَ في شتى المعارف العلمية مدار الأرض.
ثاني عناصرِ المنهجِ المعرفي، الصائنِ سلامة التفكير، هو المنطق العقلي. بالمنطق العقلي نتعامل مع التعالقات بين الأشياء، وأيضا مع التعالقات بين الأمور. به نرابط بين العلة والمعلول، بين السبب والأثر، بين التنظير والتجريب، بين الاستقراء والاستدلال، وصولا إلى استنباط الأوفق من الإمكانات الكامنة في الطبيعة، ومن خلال ذلك، أيضا وصولا إلى تخير الأمثل من الخيارات المتاحة للإنسان لأجل حفظ ذاته، تدبير معاشه، إنماء وعيه، وتهذيب خُلقه.
بصرامة ذهنية يُبين المنطق العقلي الواقعَ كما الواقع عليه، فلا يدع مجالا لبناءات ظنية، أو لشطط، أو تورية، أو تحريف. بالمنطق العقلي نتحرى ونقيس، نميز ونقيم، نستسحن ونسقبح، نُقبل على النافع مما نكتشف ونعرض عن الضار. بالمنطق العقلي نكبح الانفعال، نتحلى بالحلم، نحاذر الشطط، ونستضيئ بالحكمة. به أيضا نُبطل تأثير الرضا والسخط، كونهما أشد العوامل تشويها لسلامة النظر ورجاحة الرأي وعدالة الحكم، كيلا تعودَ عينُ رضانا كليلة عن كل عيب، ولا عينُ سخطنا كفيفة عن كل فضل.
بالمنطق العقلي ندرك أن في أيما مجتمع، الظلم يؤدي إلى اضطراب سياسي فتفكك اجتماعي، أن التمييز بين الناس على أساس نسب أو جاه أو مال أو موقع سلطوي يخل بكرامة الإنسان، أن تفشي الجهلِ والفقر يكرس التخلف ويزيد المعاناة. أن التعصب، أكان وطنيا، دينيا، مذهبيا، أو عرقيا، يولد الفرقة ويحدو إلى العنف. أن المباعدة بين المسؤولية والمساءلة تعطب أداء كل منهما، فلا المسؤولية تؤدى بكفاءة وأمانة، ولا المساءلة تنجَز برصدٍ يمكن من تدارك الأخطاء فالتبادر إلى التصحيح. بالنتيجة، ليكن لأيما مجتمع أيُما موطن أو ثقافة أو دين أو مذهب أو عرق، إذا ارتضى تحكم هذه العوامل السلبية في نهجه، فليس له أن يلوم سوى نفسِه إذا تعثر سيره وتردى حاله، وتعسرت عليه سبل استدامة الأمن والنماء.
في المقابل: بالمنطق العقلي ندرك أن في أيما مجتمع، العدل يؤدي إلى استقرار سياسي ووئام اجتماعي. أن المساواة بين المواطنين تعزز الانتماء للوطن وتحفز على خدمة الصالح العام. أن إرساء شورى صادقة يرابط صميما بين المسؤولية والمساءلة، وبذلك يقي من مفاسد الاستبداد وشرور التسلط. أن نشر العلم واليسر المعيشي يخلق النماء ويثري خبرة الحياة. أن ثبات الوسط الوطني يستجمع الطاقات من كافة الأطراف وبتضافرها يمكن من انتهاض حضاري. هنا أيضا، ليكن لأيما مجتمع أيما موطن أو ثقافة أو دين أو مذهب أو عرق، إذا حافظ على هذه العواملِ الإيجابية في خبرته، فإنه يشهد تطورا للأحسن، ويجد ميسورا أمامه استدامةَ الأمن والنماء.
ثالث عناصر المنهج المعرفي الصائنِ سلامةَ التفكير هو الضابط الخلقي. الضابط الخلقي يرشد الغاية والوسيلة معا، وبذلك يدفع الفرد والمجتمع، بترافد، للارتقاء. مسعى الارتقاء كثيرا ما يتعرض لمزالق الهوى والحمق. الضابط الخلقي يحصن المسعىى بتوطيد مبادئ العدل، والمساوة، وكرامة الإنسان، والشورى: المبادئُ الأربعةُ المؤصَلةُ قرآنيا، والتي منها تتفرع جميع حقوق الإنسان عالميا، وتستمد، أو يجب أن تستمد، حقوقُ المواطنة ضمن كل دولة. ذلك أنه حيثما توفى حقوق المواطنة توفى حقوق الإنسان، والعكس صحيح.
من بعد ذلك، الضابط الخلقي يلزمنا بالصدق دوما وباللاعنف ما أمكن: الثنائي الذي برهن نضاليا في التاريخ الحديث كل من موهنداس غاندي في الهند، ومارتن لوثر كنج في الولايات المتحدة الأمريكية، ونيلسون منديلا في جنوب أفريقيا... برهنوا نجاعة تعاضدية الصدق واللاعنف في إحقاق الحق وإزهاق باطل عنيد.
في قناعتي، أيُما فكرٍ لا يستند إلى المنهج المعرفي بعناصره الثلاثة مجتمعة: المعرفة العلمية، المنطق العقلي، الضابط الخلقي، هو فكر غير قويم، أمورس من قبل فرد أو جماعة، أو مورس في سياسة دولة، أو من منظور دين.
بما وعَيتُ عن الشأن البشري أستبنت أن ما يَصلح وينمو به حال فرد، يَصلح وينمو به حال أمة، وبما يَصلح وينمو به حال فرد وأمة، يَصلح وينمو به حال جميع الأفراد والأمم، بصرف النظر عن فارق موطن أو ثقافة أو دين، أو مذهب أو عرق. سنة الله قسطاس مستقيم: لا تحابي أحدا ولا تجافي أحدا، لا تبديلَ يعرتيها ولا تحويل: كما نزرعُ نحصد: لا عملَ يصدر منا إلا ويرتد أثره علينا، خيرا بخير، وشرا بشر، هنا في هذه الحياة. فإذا شكرنا شكرنا لأنفسنا، وإذا أحسنا أحسنا لأنفسنا، وإذا ظلمنا ظلمنا أنفسنا، وإذا بغينا كان بغينا علينا، وإذا كدنا بالمكر السيء حاق بنا المكر السيء – تلك بصائر من الفكر النير للناس كافة نتدبرها في الذكر الحكيم.
أخيرا، أفكار ستة أوجزها كتلخيص لما يؤدي إليه العمل بالمنهج المعرفي، أفكار استوعبت في الفكر الإنساني النير منذ القديم، وأكدت بقوة في الفكر العربي والإسلامي: أفكار أرى أنها بقدر ما تستقر في وعي الإنسان ووجدانه، فيفعلها في عموم نظره وأدائه، تصنع له حياة طيبة موفورة النعمِ، ظاهرةٍ وباطنة. بمثل ذلك هي تصنع للمجتمعات عبر العالم، إذا هي عملت بهديها، حياة مهيئة لانطلاق حضاري، رشيد ونبيل:
*الفكرة الأولى هي فكرة وحدة الإنسانية: أن ما هو موحد بين الناس فطرة أعم وأهم مما هو مختَلف بينهم بحكم تغاير البيئات، وتباين الظروف، وتعددية الرؤى والمعتقدات.
*الفكرة الثانية هي فكرة الحرية: الحرية ليس بالمطلق، وإنما بالقدر الذي لا ينال من حرية الآخر، شخصا كان الآخر أو جماعة. وراء ذلك، الحرية تؤكد عامة كحرز أمان ضد الارتهان والاستعباد.
*الفكرة الثالثة هي فكرة المساواة: أن القيمة الإنسانية في الناس كافة، ذكورٍ وإناث، متساوية، وإنما التفاوت ينشأ من تفاوت القيمة المضافة، أي تلك المكتسبة بجهد شخصي. بالنتيجة، التفاوت في المواقع الحياتية للناس لا يُبنى عليه تفاوت في الحقوق، ولا يجاز به استئثار بامتيازات.
*الفكرة الرابعة هي فكرة العدالة: أن كل تعامل بين الناس يجب أن يكون بميزان العدل، مرجحا بالإحسان، وبأن لا معاملة تجحف بحق أي طرف من الأطراف تبقى في المؤدى الأخير.
*الفكرة الخامسة هي فكرة كرامة الإنسان: أن لا يهان شخص أو يدان في ذاته، إنما يدان جرمه، فيجزى الجاني بما يتناسب مع خطورة الجرم.
*الفكرة السادسة والأخيرة هي فكرة الشورى الممكنة مؤسسيا من المشاركة العامة في تقرير الأمر العام. الشورى في عصرنا تستلزم ترافد عنصري التمثيل والتشاور معا وسويا: التمثيل بمعنى تفويض من تنتخب لينوب عنك في تقرير شأن عام، والتشاور بمعنى إلزام من تنتخب بتعهد منه بالعمل ضمن اجتهاد جمعي مؤسسي .
بهذه الأفكار المُثلى على مر العصور ذكر الأنبياء، إليها ندب الحكماء، بها استقامت الحضارات، وبهديها جرى تطور الإنسانية على مسارات النماء المعرفي، والاقتدار العملي، والارتقاء الحضاري. ولأجل تفعيل هذه البصائر في حياة الأفراد والأمم أكدت مكارم الأخلاق في الأدبيات الحضارية عالميا عبر العصور.
ما عرضتُ هي منظومة أفكار بديهية، لكنها جوهرية. هي أفكار تنشد تحقيق الصلاح والنماء في الحراك الإنساني في كل زمان ومكان. هي أفكار تتسق مع ما ننشده جميعا من اصطحاب َكل أثر حميد واستقبال كل جديد رشيد. هي أفكار تنبذ العنف، ترفض الاستبداد، تكافح الفساد، وتصون حقوق الإنسان عالميا، وحقوق المواطنة ضمن كل دولة. وهي أفكار تعتمد المنهج المعرفي في التدبر والتدبير والتهذيب.
هي، لذلك، أفكار جديرة بأن يتمحور اهتمام العالم حولها، ويتواصل مسعي الأفراد والأمم في ترسيخها: تأصيلا في الدستور، تشريعا في القانون، أداء في السلوك، وتطبيقا في التعامل بين الجميع: تعاونيا ضمن الأوطان، وتعايشا وتبادلا للمنافع بين الأمم. ذلك أنها، في المؤدى الأخير، أفكار تتحقق بها إنسانية الإنسان، عروجا إلى الأوفى والأمثل باطراد.
مركز الحوار العربي في واشنطن