مضى 15 عاماً على الأعمال الإرهابية التي حدثت في الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر 2001. وهاهي أميركا تقود الآن تحرّكاً دولياً لمواجهة نسخة جديدة من جماعات الإرهاب، لكنّها جماعات بالمضامين نفسها التي تسيء للإسلام فكراً وممارسة، ومعظم الحروب ضد هذه الجماعات تحصل على الساحات العربية التي تدفع الثمن الباهظ نتيجة وجود هذه الظواهر على ارضها، والتوظيف الدولي لهذا الوجود ولكيفيّة مواجهته.
أيضاً، التساؤلات ما زالت مستمرّة حول أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001: هل كانت عملاً إرهابياً من صنع جماعة بن لادن فقط، أم أنَّ هناك قوًى أخرى داخلية أميركية أو خارجية سهّلت حدوثها؟ وهل كان هناك تنسيق.. أو اختراق ل”القاعدة” من تلك القوى؟!.
هذه التساؤلات تكرّرت الآن مع ظهور جماعة “داعش” التي أصبحت “الخطر الأول الذي يهدّد السلام العالمي” والأمن الأميركي والأوروبي، إضافةً إلى مخاطر وجود هذه الجماعة على المنطقة العربية وجوارها الإقليمي!!. لكن رغم أهميَّة التوقّف عند الجهة المسؤولة فعلاً عن الهجوم الإرهابي الذي حدث على أميركا يوم 11 سبتمبر2001، فإنَّ تداعيات الأحداث بعد ذلك التاريخ جعلت التهمة الأميركية لجماعة “تنظيم القاعدة” تهمةً مثبتة، وقد تمضي عقودٌ من الزمن قبل أن نعرف حقيقة ما حدث يوم 11 سبتمبر 2001، فما زال مقتل الرئيس الأميركي جون كنيدي مسألةً غامضة رغم مضي أكثر من خمسة عقودٍ عليها.
فجهاتٌ عديدة غير عربية وغير إسلامية استفادت من هذه الأحداث الإرهابية، كما تستفيد الآن، من سوء طروحات وممارسات جماعات “داعش” وكل الجماعات التي تمارس العنف الإرهابي تحت أسماء عربية وإسلامية، في الشرق والغرب معاً.
المناخ السياسي والثقافي والإعلامي في الولايات المتحدة والغرب عموماً هو جاهزٌ لكلّ عاصفةٍ هوجاء وأعاصير ضدَّ كلّ ما هو عربي وإسلامي، لكن للأسف، فإنَّ ما صدر ويصدر عن جماعات التطرّف العنفي وما يحدث من ممارساتٍ إرهابية هنا أو هناك، أعطى ويعطي وقوداً لنار الحملة على العرب والمسلمين أينما كانوا.
ولا تختلف كثيراً الصورة الآن بوجود “داعش” فيها عمَّا كانت عليه عقب هجوم 11 سبتمبر2001، فما زال حال العرب والمسلمين في أميركا والغرب يتأثّر سلباً بنتائج هذه الممارسات العنفية، وبما يواجهها أيضاً من حملات تشويه وتعبئة عنصرية ضدّ كل ما يمتّ للعرب والمسلمين بصِلة.
لقد غاب التوازن لعقودٍ طويلة بين مدى حجم التورّط الأميركي الرسمي في قضايا العالم، وبين مدى فهم المواطن الأميركي العادي لهذه القضايا ولما يحدث حوله في العالم، إلى حين صدمة 11 سبتمبر التي كانت بمثابة صحوة من غفوةٍ زمنيةٍ طويلة، لكن الصحوة حصلت بعد كابوسٍ مرعب أخلَّ بالتوازن الجسدي والعقلي والنفسي لعموم الأميركيين والغربيين.
العديد من الشخصيات السياسية والمؤسسات الإعلامية الأميركية والغربية تمارس غسل دماغ المواطنين ب”مساحيق إسرائيلية” صباحاً ومساءً .. ذلك كلّه يحدث وكثرة من البلدان العربية والإسلامية تعيش أزماتٍ سياسية واقتصادية وأمنية تهجِّر المزيد من مواطنيها إلى دول الغرب، حيث يزداد الخوف من هذه الهجرة العربية و”الإسلامية” وتأثيراتها على هذه المجتمعات الغربية.
هذا هو المزيج القائم الآن في الغرب عموماً بعد 15 عاماً على 11 سبتمبر 2001، وعشيّة التهيئة الأميركية والغربية لطي صفحة “دولة داعش” من الكتاب المفتوح زمنياً ومكانياً: “الحرب على الإرهاب”!!. يحدث ذلك الآن بينما “الإرهاب الجديد باسم الإسلام”، كما كان قديمه في “القاعدة”، يتجنّب محاربة إسرائيل ويخدم مشاريعها في إقامة حروبٍ أهلية عربية وإسلامية، وبتوسيع مشاعر العداء بين “الشرق الإسلامي” و”الغرب المسيحي”!.
لكن هل يمكن تجاهل وجود أزمة حقيقية لدى العديد من الشعوب الإسلامية، والتي يزدهر في أوساطها الفكر التكفيري القائم على طروحات حركات سلفية تستبيح قتل كل من يختلف معها دينياً أو مذهبياً أو فقهياً؟! فالقتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف للدين الإسلامي ولكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمان ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية.
إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا أمر يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يجمع الناس عليها، وتحوّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.
لذلك، فإنّ الموقف المبدئي الرافض لهذه الأساليب أينما كان هو المطلوب الآن، لا الاكتفاء بالإدانة النسبية فقط تبعاً لاختلاف المكان والمصالح.
إنّ مواجهة نهج التطرّف تتطلّب من العرب تحديداً الارتكاز إلى فكر معتدل ينهض بهم، ويُحصّن وحدة أوطانهم، ويُحقّق التكامل بين بلادهم، ويُحسّن استخدام ثرواتهم، ويصون مجتمعاتهم المعرّضة الآن لكلّ الأخطار. فالعرب هم بنظر العالم الإسلامي القدوة التي يُحتذى بها، وبتخلّف العرب وانقسامهم يتخلّف المسلمون ويتصارعون.
لكن الفكر المعتدل المطلوب ليس المقصود به الفكر الواحد في كلّ مكان، ولا يجب أن يكون. فالاعتدال هو منهج وليس مضموناً عقائدياً. وقد يكون المضمون دينياً أو علمانياً، وطنياً أو قومياً أو أممياً، لا همّ بذلك، فالمهم هو ضرورة اعتماد نهج الاعتدال ورفض التطرّف كمنهاج في التفكير وفي العمل وفي السلوك الفردي أيضاً. فالاختلاف والتنوع في البشر والطبيعة هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم (وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب وأمكنة مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه، و”من ليس معهم فهو ضدّهم”، ويكفّرون ويقتلون من ليس على معتقدهم حتّى لو كان من أتباع دينهم أو من وطنهم وقومهم.
تبقى مشكلة هذا الجيل الجديد الذي ينشأ الآن، في الغرب وفي الشرق على السواء، ولا يجد أمامه النماذج الجيّدة من القيادات أو الجماعات أو الأفكار، فيتوه مع التائهين في مجتمعه أو يتمثّل ويتأثّر بمن هم قدوة سيئة في الفكر وفي الأسلوب. بعض هذا الجيل الجديد المولود في الغرب، والمنتمي إلى عائلات أصولها من بلدان إسلامية، يعاني من مشاكل شخصية أو نفسية أو مهنية، أو ضغوط عائلية واجتماعية، فيختار – كما هو حال بعض جيل الشباب اليائس عموماً – الانتحار على “الطريقة الإسلامية”، أي القيام بأعمال عنفية تؤدّي إلى مقتله على أيدي آخرين، معتقداً أنّ ذلك سيجعله شهيداً مثواه الجنّة!.
في الإسلام مفاهيم وضوابط واضحة لا تقبل بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء – وهو مضمون المصطلح المتداول الآن (الإرهاب)- مهما كانت الظروف والأعذار، حتّى ولو استخدم الطرف المعادي نفسه هذا الأسلوب. وفي قول ابن آدم (هابيل) لأخيه (قابيل) حكمةٌ بالغةٌ لمن يعيها:
“لئِنْ بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلني ما أنا بباسطِ يدِيَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إنّي أُريدُ أن تبُوْأَ بإثْمي وإثْمِكَ فَتكونَ من أصحابِ النّارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين”. (القرآن الكريم- سورة المائدة/الآيتان 28 و29).
وفي القرآن الكريم أيضاً: “منْ قتَلَ نفْساً بغيْر نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحْياها فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً” (سورة المائدة/الآية 32).
لذلك، فإنّ الانتحار، كما قتل الأبرياء، يبقى حراماً، وليس أيٍ منهما بجهادٍ وشهادة مهما حاول البعض تبرير هذه الأعمال على حساب القيم الدينية والإنسانية.
*مدير “مركز الحوار” في واشنطن