تخضع الصراعات العربية الدائرة الآن إلى توصيفين يكمّل كلٌّ منهما الآخر: التوصيف الأول الذي يراها كصراعٍ بين قوى إقليمية ودولية فقط، أمّا التوصيف الثاني، فيصوّرها فقط صراعاً داخلياً على الحكم ومن أجل إقامة أنظمة ديمقراطية.
فإذا كانت هذه التوصيفات تعتمد المواقف السياسية كمعيار، فإنّ ذلك يُسقط عنها السِّمة الطائفية أو المذهبية أو الإثنية، حيث نجد حلفاء هذا الطرف أو ذاك ينتمون لطوائف وجنسيات مختلفة إقليمياً ودولياً.
هي ليست طبعاً صراعاتٌ بين “خيرٍ وشر” ولا بين “أيديولوجية الكراهية” و”عقائد الحب”، ولا هي أيضاً بين “شرقٍ وغرب”.. تماماً كما أنّها ليست بصراعاتٍ طائفية ومذهبية وإثنية. فلا تكبير طبيعة هذه الصراعات يصحّ معها، ولا تصغيرها يحجب حقيقتها.
أيضاً، بعد أكثر من عقدٍ من الزمن على بدء هذا القرن الجديد الذي اقترنت سنته الأولى بالأعمال الإرهابية في سبتمبر 2001، نجد أن جماعاتٍ كثيرة ما زالت تمارس أسلوب العنف المسلّح تحت شعاراتٍ دينية إسلامية، وهي تنشط الآن في عدّة دول بالمنطقة، وتخدم في أساليبها المشروع الإسرائيلي الهادف لتقسيم المجتمعات العربية وهدم وحدة الأوطان والشعوب معاً.
صحيح أنّ القتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، لكنه يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمانٍ ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية، وعلى وجود قوى مستفيدة من أعمال الإرهاب.
ومن الواضح الآن أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي سادت بالنصف الأول من القرن الماضي، وربما أيضاً إلى إعادة رسم خرائط هذه الأوطان.
كذلك نجد الآن توظيفاً واسعاً واستثماراً كبيراً لما حصل من حراك شعبي عربي من أجل خدمة مصالح وأجندات خارجية، وهناك وضعٌ مأساوي داخل عدّة بلدانٍ عربية، ممزوجٌ أحياناً بتدخّلٍ خارجي، تزداد فيه الانفعالات الغرائزية التي نراها تحدث بأشكال طائفية يواجه فيها بعضُ الوطن بعضَه الآخر، وكأنَّ هذه البلاد العربيّة قد فقدت البوصلة التي توجّه حركة مجتمعاتها وقياداتها، فإذا هي ببحرٍ هائج تدفع بها الرياح في كلّ صوب!!.
إنَّ التطورات الحاصلة في المنطقة، تحمل طابع المصالح والمنافع الإسرائيلية فقط، بينما “الآخرون” – وهم هنا العرب وجوارهم الإسلامي والأوروبي- يتضرّرون ممّا في هذه التطورات من تهجير جماعي ومن مخاطر أمنيّة وسياسية على مجتمعاتهم وأوطانهم وعلى مصالحهم المشتركة.
المؤسف أنّ المنطقة العربية أصبحت أيضاً سوقاً استهلاكية لمشاريع دولية وإقليمية، وحكوماتها المعنيّة بالأزمات “تحصد ممّا تزرع أمنياً، لكن لا تلبس ممّا تصنع سياسياً”. فالمشكلة عربياً ليست في كيفيّة فهم الصراعات وأحجامها فقط، بل أيضاً في المقدار المتاح لحرّية الإرادات المحلية!
وهناك بلا شك مسؤولية “غربية” وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء “إسلامية”، لكنْ هذا هو عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة. ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى “جاهلي الدين” في قضايا عديدة، من ضمنها مسألة استخدام العنف ضدّ الأبرياء أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي.
إنّ المنطقة العربية بمعظمها تعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.
هي الآن مرحلة حاسمة ليس في “تاريخ” العرب فقط، بل أيضاً في”جغرافية” أوطانهم وفي “هويّتهم” وفي مستقبل أجيالهم. فالمجتمعات العربيّة أمام تحدٍّ خطير يستهدف كلَّ من وما فيها. هو امتحان جدّي لفعل المواطنة في كل بلدٍ عربي إذ لا يمكن أن يقوم وطنٌ واحد على تعدّدية مفاهيم “المواطنة” و”الهويّة”. وحينما يسقط المواطن في الامتحان يسقط الوطن بأسره.
لقد استغلّت أطراف خارجية ومحلية سلبيات كثيرة لحال “النظام الرسمي العربي المريض”، لكن هذه الأطراف قزَّمت الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كلّ بلدٍ عربي، فتحوّلت الهويّة الوطنية إلى “هُويّة مناطقية”، والهويّة الدينية الشمولية إلى “هويّة طائفية ومذهبية” في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتّى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!
لقد جرى في العقود الماضية “تسييس″ الدين، ويتمّ الآن “تطييف” و”مذهبة” كل عمل سياسي وعسكري، وهذا بحدّ ذاته يُحوّل الخلافات السياسية وصراعات المصالح إلى فتن طائفية ومذهبية لا يمكن التنبّؤ بنتائجها.
لقد أصبح فرز “قوى المعارضة” عربياً يتمّ على أسسٍ طائفية ومذهبية وإثنية، في ظلّ التركيز الإعلامي العالمي على التيّارات السياسية الدينية في المنطقة ككل، فعن أيِّ “معارضة وطنية” يتحدّثون؟!.
ثمّ لو سألنا كلَّ إنسانٍ عربي عن أولويّة اهتماماته العامّة الآن، لكانت الإجابة حتماً محصورةً في أوضاع وطنه الصغير، لا “وطنه العربي الكبير”، ولا قضيّته الكبرى فلسطين، فالأمَّة الواحدة أصبحت الآن “أمماً”، وفي كلٍّ منها “أممٌ متعدّدة” بتعدّد الطوائف والأعراق والعشائر، ولدى كلٍّ منها أزمته الحادّة وصراعاته المفتوحة دون أن يلوح أفقُ أملٍ أو حلٌّ قريب.
الآن، تعيش الأمّة العربية كلّ أنواع الحروب الأهلية والأزمات الإقليمية والصراعات الدولية وأعمال العنف والإرهاب وبروز جماعات متطرّفة في أكثر من بلد عربي.. وكلُّ ذلك يحدث دون بوصلة سليمة ترشد هذه الأمّة إلى الهدف الصحيح، وفي غياب قيادة عربية جامعة لإرادات الأمَّة المبعثرة.
لذلك، هي حاجة كبرى الآن إعادة تصحيح البوصلة في الحدِّ الأدنى، وتلك مسؤولية تقع أولاً على عاتق مفكّري هذه الأمَّة وقياداتها المدنية الفاعلة، ممّا يستوجب ضرورة صياغة رؤية عربية لمستقبلٍ أفضل، تحمل في مضامينها حسماً لمنطلقات، ورسماً لغايات، وتحديداً لوسائل تؤدّي بمجملها إلى تصويب منشود للصراعات، وإلى إعادة ترتيب أولويّات هذه الأمَّة وطنياً وعربياً.
صحيحٌ أنّ المسألة الديمقراطية هي أساس مهمّ للتعامل مع كلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، لكن العملية الديمقراطية هي أشبه بعربة تستوجب وجود من يقودها بشكل جيّد، وتفترض حمولةً عليها، وهدفاً تصل إليه. وهذه الأمور ما زالت غائبة عن الدعوات للديمقراطية في المنطقة العربية. فتوفُّر آليّات الحياة السياسية الديمقراطية وحدها لن يحلّ مشاكل الأوطان العربية، بل العكس حصل في عدّة بلدانٍ عربية شهدت من الديمقراطية مظاهرها فقط وآلياتها الانتخابية.
ففي الأمَّة العربية مزيجٌ مركّب من الأزمات ممّا يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأوطان المحتلّة .. وهي كلّها مسائل معنيّةٌ بها أوطانٌ عربية مختلفة، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي ..
وإذا كان من الطبيعي أن تنتفض بعض شعوب دول المنطقة وأن تُطالب بأوضاع أفضل وأن تسعى من أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، فإنّ المشكلة بالتحرّك الجماهيري السليم أنه يحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم وإلى أسلوب سلمي في العمل، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف، وليس لمصالحها الخاصّة.. فهل توفّرت هذه العناصر كلّها في الانتفاضات الشعبيىة العربية؟!.
إنّ الديمقراطية السليمة والإصلاح الشامل مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ الحياة الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول الأخرى.
لكن يبقى السؤال المهمّ: لِمَ يسير قطار الديمقراطية الآن في البلاد العربية فقط على سكّة تجزئة الكيانات وعلى الفتن بين الشعوب، وصولاً إلى محطة الإخضاع الكامل للسيطرة الأجنبية؟!.
صبحي غندور"مدير “مركز الحوار” في واشنطن