قرأت مقال الأستاذ محمد جميل منصور: " بعد المؤتمر العاشر..النهضة ورسائلها"، ولم تفاجئني كالعادة قدرة الكاتب على السرد المقنع، والتحليل المنطقي، والقراءة العقلانية المنهجية، وإن بدت موسومة بذاتية الانحياز المدرسي الفكري، باعتراف الكاتب نفسه.
بيد أنني لاحظت بساطة في الطرح خالطها تعجل (على غير عادة الكاتب)، وذلك عند حديثه عن إعادة انتخاب الشيخ راشد الغنوشي رئيسا لحركة النهضة في مؤتمرها العاشر، أي في مأموريته العاشرة ـ من باب مقاربة التسميات ـ فكانت تلك الفقرة غريبة على المقال، سياقا وسوقا، وأفكارا وتفكيرا.
فاستهل الأستاذ محمد جميل تلك الفقرة باستطراد مبررات التناوب المنشود على قمة الهرم، لكنه عرف بعضها، وأعرض عن بعض، فساق بعض الميزات الشكلية، من قبيل ألق مشهد التناوب وروعة جاذبيته، وقطع طريق منتقديه، وهي شكليات لو كانت هي وحدها الغاية من التناوب على الرياسة لما كان مطلبا وهدفا في حد ذاته، وأعرف ـ حق المعرفة ـ أن الأستاذ جميل منصور ما كانت لتغيب عنه، جوهريات وأساسيات القصد من التناوب على القيادة، وفي مقدمتها ضخ دماء جديدة في مراكز صنع القرار، وجلب أفكار تطويرية نهضوية، ومنع صناعة دكتاتورية مستبدة، ورفع الحيف، وسد النقص، وغلق الباب أمام الطامحين للوصول إلى السلطة عبر التغيير غير القانوني، وتربية أبناء الحركة أو الحزب أو التيار، ومن يُشايعهم أو يراقبهم، على الارتباط بالقول لا بالقائل، وبالطرح لا بالطارح، وبالفكر لا بالمُفكر، وبالتالي ضمان استمرارية المشروع في شتى الظروف ومختلف المراحل، وقبل هذا وذاك تقديم القدوة والنموذج لشعار القوم الذي التحفوه، ونادوا به بكرة وعشيا، وحملته من قبل ومن بعد، حركات "الإسلامي السياسي" الأخرى، ذات الطرح الديمقراطي، التي طالما رفعت عقيرتها في وجه المستبدين بالقيادة، المتمسكين بالقائد الضروري لتجاوز المرحلة، أو لإكمال المهمة.. فتلك انتكاسة ينبغي على أنصار النهضة الاعتراف بها، والجهر بتعارضها مع مبدأ تحقيق مناط الديمقراطية، التي اتخذوها نهجا وخيارا لا محيد عنه، وهو تمكين المرؤوس من خيارات شتى لرئاسته، تمكينا يفضي إلى تغيير آليات القيادة نحو الأفضل، خدمة لترسيخ المبادئ، وإعلاء كلمة الثوابت، بل أكاد أجزم أن الأمر سيكون موضوع دفق أقلام وانسياب أفكار في قابل عمر الحركة، في مرحلة ما بعد "المؤتمر العاشر".
ولو أن مبررات التناوب على القيادة، هي تلك الشكليات التي وردت في المقال، لما كان للأستاذ محمد جميل ولد منصور وحزب تواصل، ولا للكثير من الحركات السياسية وحتى بعض الدول، بما فيها موريتانيا، أن يصروا ويحرصوا على محدودية الفترة الزمنية للقيادة، بحثا عن ألق شكلي، أو جاذبية يخبت بريقها غداة انقشاع غبار الانتخابات، أو قطعا لألسنة الناقدين.
ثم إن الرئيس محمد جميل حين أراد سوق مبررات إعادة انتخاب الشيخ راشد الغنوشي رئيسا لحركة النهضة في "مؤتمرها العاشر" ـ وليس الثاني أو الثالث ـ لم يأت إلا بما سبقه إليه دعاة التثبيت والتخليد والتمكين، بل والتوريث أحيانا، من منظري "التغيير في ظل الاستقرار" و "البقاء للأصلح" و "مواصلة مسيرة الإصلاح" و"ضرورة المرحلة".. إلى غير ذلك من شعارات دعاة وأد فكرة التناوب وطمرها بين طيات التنظير الفضفاض لغايات ضامرة آنية..(القصد هنا أولئك لا ذلك)، فالفرق ليس بذلك التباين الجلي، بين أن نقول إن استمرار الشيخ راشد الغنوشي على رأس قيادة النهضة، "لازم في هذه المرحة، التي لعب هو أكثر من غيره الدور الرئيسي في نسج خيوطها وطرح مبادراتها وحبك علاقاتها وتحالفاتها الهشة؛ فتغيير القيادة مربك في هذه اللحظة وللشيخ مكانة وطنية ودولية يرى معظم المؤتمرين أن النهضة -والبلاد معها- تحتاجها لتجاوز بقية المسار المهدد باستمرار".
وبين أن نقول إن هناك من القادة من يحتاجه بلد ما، لإكمال نهضة البناء والتنمية، بل وربما للحفاظ على بيضة الدين وسمك الوطن وآصرة وحدته.. إنها في النهاية صناعة الزعيم الأوحد، والرجل الملهم، والقائد الضرورة.. وترديد لصدى قولة قديمة متجددة ".. لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا.."
فإما أن يؤمن المؤمن بأفكاره، وينزلها على نفسه ومعشره قبل غيره، ويدعو الآخرين لها عن قناعة وبينة وسابق تلبس وتفاعل، وإما أن ينصف الآخرين ويتفهم دعواتهم للتشبث بالسلطة، وعضهم بالنواجذ عليها، أيا كانت تلك السلطة، سواء رئاسة بلد، أو زعامة حزب، أو إمارة حركة، أو قيادة مليشيات، وهلم جر.. ففي النهاية تبقى المبررات هي ذاتها، والغاية هي نفسها، والحصاد المر هو عينه، زعامة مدى الحياة، ودق مزيد من مسامير الاندثار في نعش مشروع يُعدُّ بناته لهدم بنيانه وهدِّ أركانه، حين يصرون على ارتباطه بالفرد، وبقاء "الزعيم" على رأس حرف الهرم.
ولا أعتقد أنني أتجنى على الأستاذ جميل منصور إن قلت إنه لم يكتب قناعته الراسخة، بشأن الموقف من التناوب على القيادة، بل غلبت عليه نزعة المحامي المُرافع الذي يبرز مواطن براءة نصيره، ويلتمس أحسن المخارج لزلاته، فكتب قناعة جزئية، تُخاصمها قناعة كلية أصيلة لديه، فجاءت الفقرة مجتزأة عن سائر المقال الرصين العميق، تطفوا في واد، بينما تغوص بقية فقرات المقال في أودية أخرى، حتى أن القارئ يتمنى لو كان المقال خلوا منها، فلم تقدم جديدا مقنعا في تبرير "المأمورية العاشرة".
أما ما ذكره من التركيز على المحلية في خطاب الشيخ راشد الغنوشي، وغياب حضور الشأن الفلسطيني كما كان ينبغي في خطاب حركة إسلامية، والتلميح للشأن المصري على استحياء رغم فظاعة الموقف وفداحة الجرم، فلعل في الأمر تأثرا أو محاكاة لإيغال في المحلية سبقهم إليه إخوان لهم في المغرب، أفرطوا فيه (بدواعي الوطنية) على حساب الاهتمام بشأن الأمة والتفاعل معها بالشكل الذي يبقيها في خطابهم وبرامجهم "أمة الجسد الواحد.."، وهو بالمناسبة موقف ما يزال حزب "تواصل الإسلامي" هنا في هذه الربوع بمنأى عنه، وإن خيف عليه التأثر بالجار ذي القربي والجار الجنب، والصاحب في الفكر والنهج.