من الثابت في ديننا الحنيف أن أول ما يجب على المكلف تصحيح إيمانه... وهي قاعدة شرعية وفرض عين قليل من يضعه في الاعتبار في أيامنا هذه وخاصة في صفوف الشباب. وقد جرت العادة أن يكون أي مسلم مقلداً لمجتهد ومذهب، ويكفيه اتباع فقهاء ذلك المذهب القدامى، والمحدثين.. ومن العبارات السائرة في هذا المقام تلك الكلمة الشائعة في ثقافتنا الشعبية: "حطها على رقبة عالم"، وهي الكلمة المعبر عنها أيضاً بقولهم: "من قلد عالماً لقي الله سالماً"، التي تعني ضرورة الاستناد على تخريجة فقهية لتبرير شرعية أي قول أو عمل، والعهدة في ذلك على الفقيه.. وليس على من لا يحضره الفقيه سوى التحرز لنفسه ودينه حتى لا يضل أو يضيع في مهامه الوهم، أو يخبط خبط عشواء، حين تفترق به بنيات الطريق، ولا يغني الظن من الحق شيئاً.
والحقيقة أن تصحيح الإيمان فرض عين، ومهمة شخصية، لا شأن له بالغير، ولا يغني فيه تقليد ولا اتباع لفقيه أو إمام، فكل إنسان مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى عن تصحيح إيمانه، وكل نفس بما كسبت رهينة. وفي قضية الإيمان لا تقليد لعالم، ولهذا قال في مراقي السعود:
وقول من قلد عالماً لقي.. الله سالماً فغير مطلق.
ولئن كان السلف رضوان الله عليهم قد بالغوا في الحض على تقليد الأئمة والفقهاء ذوي الصفة، مع اعترافهم بأن لعلم هؤلاء الفقهاء أيضاً حدوداً، ولقدرتهم على استنباط الأحكام واحتواء محدثات النوازل قيوداً، حيث إن أقصى ما يمكن أن يصل إليه أحدهم بعد الأئمة الأوائل هو صفة المجتهد غير المطلق، أي مجتهد المذهب، إلا أنهم لم يجدوا مبرراً لتقليد المكلف لمكلف آخر في أي حكم شرعي سوى أن يكون جاهلاً. بل إن بعضهم رأى أن كل من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فهو جاهل أصلاً ويجب عليه التقليد. قال التسولي: "العامي والجاهل والمقلد ألفاظ مترادفة لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد". وقال ابن فرحون في الديباج (أي الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب) إن "التقليد ألجأت إليه ضرورة الجهل، لأن الإنسان قبل بلوغه غير مخاطب بالتكاليف الشرعية ويستحيل غالباً أن يستكمل شرائط الاجتهاد يوم بلوغه، ولا يجوز له العمل بالجهل، فلم يبقق إلا أن يقلد عالماً، لا يخلصه من الله إلا ذلك".
وهذا التأكيد على التقليد، بسبب تفشي الجهل بالأحكام الشرعية في الناس، وضرورة سؤال أهل الذكر والعلم للاسترشاد بما تأدت إليه اجتهاداتهم وفهمهم السليم لمنطوق النصوص ومقاصد الاحكام، هو السائد بين المسلمين منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، وهو المعتاد والمأمون عند الفقهاء، وهو ما أشار إليه المقري في إضاءة الدجنة بقوله:
والحزم أن يسير من لم يعلم.. مع رفقة مأمونة ليسلم
ويسلك المحجة البيضاء.. فنورها للمهتدي استضاء
بل إن بعض الفقهاء الكبار في بلادنا، بعد ذيوع مقولة إغلاق باب الاجتهاد، يالغوا أحياناً مستخدمين قوة المجاز والتوسع في دلالات الكلام للتأكيد على ضرورة التقليد، والابتعاد عن "الابتداع"، وذلك ورعاً منهم والتماساً لمثل هذه "الرفقة" المأمونة لدى أئمة العلم الأوائل، قال الشيخ محمد المامي بن بارك الله:
وكل قوم وإن راجت علومهم.. في حجر من قبلهم طفل غلامين
فلا نكلف غيضات لها اقتحموا.. فيها الأسود الضواري والفيالين
العلم بحر لغوص الماهرين به.. تلقى اليواقيت فيه والمراجين
لكنه غير مأمون تماسحه.. وليس في كل موج منه دلفين.
لكن لا شأن لقضية الاعتقاد هنا بمثل هذا التخويف الشديد من الاجتهاد، وهذا التأكيد الشديد على التقليد والاتباع. فمن واجب المسلم تصحيح اعتقاده الشخصي واقتناعه وإيمانه بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وكل ما هو واجب الاعتقاد شرعاً.