خطورة ما في الواقع العربيّ الراهن أنّه يضع الإنسان العربي الآن بين خيارين: خيار اليأس والإحباط وفقدان الثقة بنتيجة أيّ فكر أو أيّ عمل، وآخر يعمل ويحاول التغيير، لكنّه فاقدٌ للأسلوب السليم وللبوصلة الفكرية أو المرجعية الصحيحة التي تُرشده لبناء حياة أفضل!
وهناك من يعتقد أنّ العرب لم يصلوا بعد إلى قاع المنحدر، وبأنّه ما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو “الهُويّات الإثنية” ربما سيكون هو ذاته، خلال الفترة القادمة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة. فقيمة الشئ لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه.
هذه ليست مجرّد توقّعات مثالية أو أحلاماً، بل هي محصّلة تجارب شعوب أخرى، كالأوروبيين الذين خاضوا في النصف الأول من القرن الماضي حربين عالمتين دمّرتا أوروبا وسقط نتيجتهما ضحايا بالملايين، وكانت بين شعوب الدول الأوروبية صراعاتٌ قومية وإثنية وطائفية أكثر بكثير ممّا تشهده الآن المجتمعات العربية. رغم ذلك، وحينما توفّرت الظروف والقيادات والرؤى السليمة، طوت أوروبا صفحات الماضي المشين بينها واتّجهت نحو التوحّد والتكامل بين شعوبها، متجاوزةً ما بينها من خلافات في المصالح والسياسات، واختلافات في اللغات والثقافات والأعراق.
أوروبا شهدت أيضاً في النصف الأول من القرن الماضي تجارب فكرية وحزبية سيّئة، كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، كما هو حال الجماعات البارزة الآن على سطح الأحداث العربية، ودفعت القارّة الأوروبية كلّها ثمناً باهظاً لسياسات هذه التجارب السيئة. لكن هذا “النموذج الأوروبي” في التقاتل والتصارع أولاً، ثمّ في التكامل والتوحّد لاحقاً، احتاج طبعاً إلى مناخ سياسي ديمقراطي داخلي، على مستوى الحكم والمجتمع معاً، ممّا سمح بحدوث التحوّل الكبير. فالمسألة ليست فقط انتخابات وآليات للممارسة الديمقراطية الشكلية، لأنّها إذا لم تقترن بثقافة ديمقراطية سليمة داخل المجتمع نفسه، فقد تزيد الأمور تعقيداً، كما جرى في تجربتيْ ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
أيضاً، فإنّ مسألة الحرّيات في الولايات المتحدة لم تنتعش وتزدهر في العقد السادس من القرن الماضي إلّا بعد فترة “المكارثية” الظالمة في العقد الخامس منه. كذلك لم يصل “الأميركيون الأفارقة” إلى حقوقهم المدنية إلّا بعد عقودٍ طويلة من مواجهة الممارسات العنصرية، ومن إحداث تغيير في ثقافة المجتمع الأميركي نفسه. فالدستور الأميركي العظيم يساوي بين كل المواطنين، مهما كان لونهم أو عرقهم أو دينهم، بينما المجتمع الأميركي لم يكن ناضجاً لتقبّل فكرة المساواة بين الناس كما نصّ عليها الدستور والقوانين الأميركية. لكن هذا المجتمع الأميركي نفسه أوصل باراك حسين أوباما، الإفريقي الأصل، ليكون رئيساً في “البيت الأبيض” لفترتين متتالتين. وفي هذا “النموذج الأميركي” دلالة كبيرة على أهمّية وأولويّة إحداث التغيير في المجتمع أولاً، وفي المفاهيم والتقاليد الخاطئة عند عامّة الناس، وليس فقط بالحكومات وبالدساتير وبالنصوص القانونية.
ولعلّ أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء دينية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات هي بواقعها وأهدافها سياسيةٌ محض، وهذا ما يجري عادةً في الحروب الأهلية التي تُسخَّر فيها كل الأسلحة بما فيها سلاح الطائفية السياسية. ولنتخيّل لو جرى اعتبار الحروب التي حصلت بين الهند وباكستان أنّها بين المسلمين والهندوس تستوجب الصراعات بين الطرفين حيثما يتواجدان في العالم! أو لو تمّ توصيف الحرب بين الإنجليز والأيرلنديين الشماليين بأنّها حرب بين الكاثوليك والبروتستانت تفرض الصراع بين الطائفتين في كلّ أنحاء العالم المسيحي!!.
طبعاً ما كان غائباً في هذه الصراعات المشار إليها هو وجود “الطرف الثالث”، الذي يكون له مصلحة كبيرة في تصعيد وتوسيع دائرة الصراعات وتأجيج المشاعر الانقسامية بشأنها، وهو الموجود للأسف حالياً في كلّ الصراعات الإقليمية والحروب المحلّية الجارية في المنطقة العربية. وهذا “الطرف الثالث” الحاضر في الأزمات العربية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية التي قد تتباين مصالحها، لكنّها تتّفق على هدف جعل الأزمات العربية تأخذ أبعاداً طائفية ومذهبية وإثنية.
فلماذا يحرص البعض على القول إنّ الصراع مع “إسرائيل” ليس بصراعٍ ديني بينما يتمّ استخدام التوصيفات الدينية والمذهبية في صراعاتٍ مع أطراف أخرى؟!.
طبعاً، فإنّ هذا النوع من الأحاديث الطائفية والمذهبية يزيد الآن الشروخ الدينية والوطنية، ولا يبني سدوداً منيعة أمام جماعات التطرّف، بل على العكس، يرفدها بمزيدٍ من المؤيّدين. فالمواجهة مع جماعات “التطرّف العنفي” تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني حتّى يمكن محاصرة هذه الجماعات، وتجفيف كل منابع الدعم المادي والبشري لها.
وإذا لم يستطع العرب وقف خطايا حروبهم وصراعاتهم الداخلية، فليحسنوا على الأقل توصيف هذه الصراعات حتّى لا يخدموا عدوّهم الحقيقي (العدو الصهيوني) وأفرعته الدولية والمحلّية!.
فالحلّ الآن للأزمات العربية المتفجّرة ليس في مزيدٍ من التهوّر في السياسات والممارسات، ولا هو في إشعال الغرائز الطائفية والمذهبية والإثنية، ولا حتماً بالانقياد للعنف الداخلي المسلح الذي يُدمّر الأوطان ووحدة الشعوب ويخدم دعاة التقسيم والتدويل لأزمات المنطقة.
الحلّ أساسه وقف حال الانهيار الحاصل في وحدة المجتمعات وبناء البدائل الوطنية السليمة، على مستوى الحكومات والمعارضات معاً. فشعوبٌ كثيرة مرَّت في ظروفٍ مشابهة لكنّها رفضت “الموت السريري” البطيء، فنهضت من جديد وصحّحت أوضاعها وأرست دعائم مستقبل أجيالها.
لكن ما كان لتجارب شعوبٍ أخرى في آسيا وأوروبا (كنموذجي اليابان وإلمانيا بعد الحرب العالمية الثانية) أن تنجح لولا توفّر ثقافة عامّة شعبية ترفض الهزيمة والاستسلام ل”الأمر الواقع″، ولا تقبل بالمراهنة على “التغيير” من الخارج، ولا تعتمد سياسة “حسيبك للزمن”. فهذه تجارب راهنت فقط على إرادة شعوبها وعلى قدراتها الذاتية في بناء مستقبل أفضل. ولعلّ في تجربةٍ إنسانية أخرى في إفريقيا أيضاً ما تحتاجه البلاد العربية من “نموذج” لإصلاح أوضاعها الراهنة. ففي تجربة تحرّر “جنوب إفريقيا” من النظام العنصري، والتي قادها نيلسون مانديللا، اتّضحت أهمّية القيادة السليمة، وضرورة وضوح الهدف المركزي والإخلاص له، والإصرار على تحقيق الهدف، وعلى الأسلوب السليم السلمي من أجل الوصول إليه.
ومن يرى في الأمَّة العربية الآن أمَّةً متخلّفة، فليقارنْ مع دولة جنوب إفريقيا التي كانت نسبة الأمّية فيها عند إسقاط النظام العنصري، تفوق الـ 70% من عدد السكان!. ومن يرى في اختلاف العرب “وحروبهم القبلية” مانعاً لوحدتهم المستقبلية أو لبناء مستقبل عربي أفضل، فليقارن أيضاً مع حال دولة جنوب إفريقيا التي لم تكن مجتمعاً منقسماً بين سودٍ وبيض فحسب، بل أيضاً بين قبائل سوداء متناحرة لعشرات السنين مع بعضها البعض.
ففي هذه النماذج المختلفة من تجارب العالم المعاصر، ما يعزّز الأمل بإمكان بناء أوطانٍ عربية موحّدة ومجتمعٍ عربيٍّ أفضل، شرط الجمع بين حصيلة دروس هذه النماذج، وشرط بناء مجتمعات مدنية لا تقبل باستغلال الأديان في العمل السياسي، إذ لا يمكن لأمّةٍ مشدودة فقط للماضي، ومنقسمة على نفسها، ولا تملك مشروعاً واحداً لنهضتها، أن تربح معارك قضاياها أو تحمل لشعوبها آمالاً بمستقبلٍ أفضل!.
الأمّة العربية وأوطانها عطشى الآن لمثل هذه الخلاصات من تجارب شعوب أخرى، ولاحداث التحوّلات الفكرية والثقافية في مجتمعاتها، وليس فقط القيام بتغييراتٍ سطحية في الحكومات والقوانين. وهناك في التراث الفكري العربي المعاصر ما فيه “خارطة طريق” من أجل الوصول إلى ينابيع الفكر السليم والقدوة الحسنة لبناء مجتمعات عربية صحّية، تستوعب اختلافاتها وتنوّعاتها وتقبل وجود “الآخر” وحقوقه ودوره المشارك كمواطن في وطنٍ يقوم على مفهوم “المواطنة”، لا على مفاهيم “الأكثرية والأقلية”، ولا طبعاً على نظام “الراعي والقطيع″.
*مدير “مركز الحوار” في واشنطن