نشرته في مثل هذا اليوم.. قصتي مع العبودية... في موريتانيا! 1-3
هذا الخبر، المرفق أدناه (خبر عن عرض سي إن إن فيلماً مفبركاً عن العبودية في موريتانيا)، ذكرني بواقعة حدثت لي يوم الاثنين 18-3-2012 حين نزلت إلى مقهى المؤسسة الإعلامية التي أعمل فيها لتناول كوب نسكافيه "كاباتشينو" وعند مدخل مقصورة المقهى استقبلتني زميلة أميركية بترحاب غير عادي، قائلة إنها تسأل عني منذ بداية اليوم... وقد أمَّن زوجها الإسكتلندي برأسه عدة مرات مؤكداً صحة قولها، دون أن يطلب منه أحد الشهادة، وهي شهادة مجروحة على كل حال... وبعد أن أخذنا مواقعنا جميعاً حول الطاولة قالت إن سبب البحث المحموم عني اليوم هو أنها شاهدت ليلة البارحة (ليلة الأحد- الاثنين) تقريراً في قناة "سي إن إن" حول تفشي العبودية في موريتانيا، وإنها كتبت اليوم تقريراً موجزاً حول الموضوع سينشر في صحيفة إنجليزية تصدر عن مؤسستنا، تشتغل السيدة الزميلة وزوجها محررين فيها... أما المطلوب مني أنا في كل هذه القصة فبسيط للغاية... وهو أن أقول رأيي كصحفي موريتاني... في صحة أو عدم صحة وجود العبودية الآن في موريتانيا، علماً بأن رأيي لن يتم تضمينه في التقرير، لأسباب مهنية بحتة، ليس هذا محل تفصيلها...
قلت بكل وضوح للزميلة الأميركية إن العبودية ظاهرة تاريخية كانت موجودة في عموم العالم القديم... وإنها ظلت موجودة في غرب إفريقيا خاصة إلى عهد قريب... وإن موريتانيا موجودة جغرافيّاً في منطقة غرب إفريقيا... ولذلك تعتبر من آخر مناطق العالم التي بقيت فيها هذه الظاهرة...
هنا سألتني الزميلة "جنيفر" إن كان في مقدوري أن أتحدث -باعتباري مواطناً موريتانياً- عن تجربتي الشخصية ومشاهداتي لمظاهر العبودية؟
قلت لها دون تردد: إنني أعرف أشخاصاً عديدين تربطهم صلة رق سابقة مع عائلات مختلفة... وحالهم الآن بعيد عن العبودية عمليّاً، فبعضهم حر سلفاً، وبعضهم حرره -ولو شكليّاً- حظر العبودية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي... ومع هذا أشهد أنني رأيت بأم عيني آثار العبودية ظاهرة على فئة كريمة من الشعب الموريتاني تسمى "الحراطين" -والكلمة بربرية مشتقة من "أحرضان" أي الرجل الأسمر- فهذه الفئة هي الأشد فقراً، والأقل حظاً في موارد وفرص البلاد... وقد فشلت الحكومات الموريتانية المتعاقبة في إيجاد نوع من التمييز الإيجابي لصالح هذه الفئة الكريمة يعوضها عن ظلم وظلام القرون... لأنها انتقلت في الواقع من عبودية العرف إلى عبودية الحاجة... فالمهن المتدنية وقليلة العائد تكاد تكون حكراً عليها...
كما أدى ضعف الثقافة الحقوقية للحكومة إلى عدم حظر المهن الحاطة من كرامة المواطن مثل خدمة المنازل، فاستمر ذلك النوع من المهن أحياناً كغطاء أو امتداد تتخفى تحته علاقات "الأسياد" و"الأرقاء" السابقين!
ولذلك ما زال الحديث مستمراً عن بقايا لتلك الممارسة الظلامية القروسطية في موريتانيا حتى الآن. هذا زيادة على تحول الخطابة الحقوقية بشأن العبودية إلى "أكل عيش" ومهنة مدرة للدخل، بتعبير الإدارة الموريتانية، وخاصة بالنسبة لمن يستدر بها أموال منظمات المجتمع المدني الغربية!
اعتبرت السيدة "جنيفر" أن ما قلت لا يتماشى مع مضمون التقرير، فما يقوله واضح تماماً، وهو أن العبودية ما زالت متفشية على أوسع نطاق في موريتانيا اليوم، وبصورتها التقليدية التاريخية المعروفة، ولا يستبعد أن هنالك حتى الآن من يأتي إلى السورق العام، جهاراً نهاراً، وهو يقود "عبده" بحبل في رقبته، ليبيعه، ويأخذ ثمنه عداً ونقداً، ويعود في حال سبيله!
قلت لها إن موريتانيا التي أعرفها لا يوجد فيها اليوم مثل هذه الممارسات، وإذا كانت على خريطة العالم موريتانيا أخرى، فمن الوارد أن تكون هي موضوع حديثها...
ضحكت، وضحك زوجها الإسكتلندي، وقالت لي في خطوة استباقية إنها تعرف أن العبودية ظاهرة تاريخية عرفتها كل المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك بلادها هي نفسها أميركا التي كانت العبودية تمارس فيها، ولكن جاء الرئيس أبراهام لنكولن، في القرن التاسع عشر، وحرر "العبيد" وانتهت القصة...
فأجبتها بأن هذا صحيح، ولكن مخلفات ثقافة العبودية ظلت مستمرة في أميركا، وظل الفصل العنصري قائماً حتى الستينيات من القرن العشرين، عندما جاءت نضالات مارتن لوثر كينغ وحركة الحقوق المدنية وقضت على تلك المخلفات بشكل كبير، وإن كان بعضها ما زال قائماً في أميركا حتى الآن... فالفجوة في الحقوق والامتيازات بين السود والـWASP أي البيض الأميركيين الأنجلو-ساكسون، ما زالت كبيرة جداً، ويكفي للدلالة عليها أن عدد السود في أميركا لا يتجاوز 12 في المئة من السكان، ومع ذلك فإن نسبتهم في السجون تزيد على 40 في المئة، ونسبتهم في من ينتقل إليهم الإيدز بسبب الجهل والفقر يفوق 50 في المئة. وقسْ على ذلك من مظاهر الغبن الاجتماعي الأخرى الكثيرة...
وذكّرت الزميلة بأن حال السود الأميركيين ما زال متخلفاً حتى اليوم من حيث الحقوق ومن حيث التمكين مقارنة مع البيض. وفي الذهن أحوال سكان مدينة لويزيانا عاصمة ولاية نيوأرلينز، التي تفوق في فقرها أحوال سكان أحياء الصفيح في كثير من الدول النامية. بل إن السود الأميركيين على رغم ما يقال عن الاندماج والمساواة في الحقوق المدنية والاقتصادية، وفي الفرص، مازال السواد الأعظم منهم يعيش في معازل عرقية تشبه أحوال البانتستونات المخصصة للسود على هوامش مدن جنوب إفريقيا أيام نظام التمييز العنصري السابق (الآبارتايد). وحتى في مدينة كوسموبوليتية مثل نيويورك -التي تعتبر بمثابة عاصمة للعالم المتحضر كله- يوجد "غيتو" السود ذائع الصيت "هارلم"، الذي تتفشى فيه أشنع وأبشع صنوف المعاناة من فقر وجريمة ومجاعة، على نحو ما يعرض ويتقمص ذلك وجدانيّاً ويتعاطف معه رمزيّاً الفيلم الشهير "الغضب في هارلم".
هنا نبهتني الزميلة الأميركية بلباقة إلى أن استطرادي قد طال بشأن أحوال السود والحقوق المدنية في أميركا، في حين أن الموضوع الحقيقي يتعلق بموريتانيا... فلنعد إلى صلب الموضوع... وعند هذه النقطة يبدو أنها قررت رفع قفاز التحدي، أو لنقل، رفع سقف النقاش... وربما كانت تعتقد أنني لا أمتلك شجاعة الاعتراف والقدرة على التحدي... حيث بادرتني بسؤال: حسناً لنكن صرحاء قليلاً، نحن أثرنا تجاربك الشخصية ومشاهداتك، فتحدثت لنا عن تجارب أسر أخرى وبلدان بعيدة... لماذا تتهرب من صلب الموضوع؟ أليس عند أسرتك أنت أرقاء؟... (يتبع)...