قد يستغرب الكثيرون بعض الوقائع التي اسردها في هذه الزاوية عن علاقة وثيقة ربطتني بالشيخ العلامة حسن الترابي طوال فترة التسعينات من القرن الماضي، رغم فارق السن بيننا اولا، واختلاف المنهج والتحصيل العلمي، والتباعد الجغرافي والفكري ثانيا.
ما جمعني مع الدكتور الترابي رحمه الله هو الكراهية لسياسة الهيمنة الامريكية، والعداء للحركة الصهيونية، ودعم كل حركات التحرر العربية والاسلامية في مواجهة هذه الهيمنة التي اذلت الامة، وحولت معظم دولها الى دول فاشلة ممزقة جغرافيا وديمغرافيا، ومهددة بحروب اهلية طائفية وعرقية، قد تمتد لعقود ويروح ضحيتها الملايين من الابرياء قتلى وجرحى ومشردين.
العدوان الامريكي على العراق عام 1991 كان الارضية التي قربت بيننا، فكلانا، ومعنا الملايين، جرى تصنيفنا بأننا من دول “الضد” في مواجهة معسكر “المع″ الرهيب، الذي كان يجمع بين المال السعودي الخليجي، ومصر التاريخ والثقل البشري، وسورية العروبة والثورة والقومية.
الدكتور الترابي قرر في لحظة اجتهاد ان يوحد معسكر الفقراء المعدمين المتمردين على هذا العدوان في حركة، او مظلة فكرية واحدة، ولذلك بادر الى تأسيس المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي، ووجه الدعوة لحضور اجتماعه التأسيسي في عام 1991، على ما اذكر، وكنت من بين المدعويين.
الحضور كان فريدا من نوعه، ضم كل “الارهابيين”، حسب وصف صحافية امريكية كتبت تقريرا عنه في صحيفتها، اعتقد انها “نيويورك تايمز″، فمن بين الحاضرين كان هناك الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي جلس في المقاعد الخلفية مع الرئيس السوداني عمر البشير، للادعاء بأنهما ليس لهما علاقة بالاجتماع، وكانت طائرة ابو عمار في ايام “النبذ” تلك لا تطير الا للخرطوم وصنعاء فقط، فكل المطارات الاخرى كانت مغلقة، وكان بين الحضور المرحوم جورج حبش، ونايف حواتمة، وغلب الدين حكمتيار، وصبري البنا (ابو نضال)، والمرحوم فتحي الشقاقي امين عام حركة الجهاد الاسلامي، والشيخ عبد المجيد الزنداني، والشيخ يوسف القرضاوي، ووفد يضم الحزب المصري الناصري بقيادة عبد العظيم المغربي، والدكتور ايمن الظواهري، ورفاعي طه، (الجماعة المصرية)، ويوسف اسلام الداعية الذي تحول الى الاسلام ونشد لنا “طلع البدر علينا” ومرشد الاخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، واكتشفنا لاحقا ان المرحوم عماد مغنية قائد الجناح العسكري لـ”حزب الله” كان من بين الحضور، دون ان نعرفه، وجاء هذا الاكتشاف بعد رفض السلطات السعودية هبوط طائرة سودانية في مطار جدة كان على متنها وفي طريقها لبيروت، حتى لا تقدم على اعتقاله بطلب امريكي، تنفيذا لمذكرة جلب امريكية، ولا استبعد ان يكون الشيخ اسامة بن لادن كان من بين الحضور، لانه كان يقيم في الخرطوم في حينها، ولكنه لم يكن معروفا.. والقائمة تطول.
قاعة مجمع المؤتمرات الكبرى في الخرطوم الذي قدمته الحكومة الصينية هدية للشعب السوداني غصت بالحاضرين، وبعد كلمات “ثورية” حادة ضد امريكا وعدوانها على العراق، والتواطؤ العربي معها، تقدم احدهم الى الحضور مقترحا بانتخاب امينا عاما لهذا التجمع، وكانت كل هذه العملية الديمقراطية الشكلية، مثلما عرفت فيما بعد، للتمهيد لتعيين شخصية سودانية غير معروفة من مساعدي الشيخ الترابي، ولا تتمتع بأي كاريزما، ومن المصادفة ان هذه الشخصية مثلما تبين لاحقا، كانت من اكثر المطالبين بعلاقات سودانية مع امريكا، وقاد توجها قويا في هذا الصدد.
لم يعجبني هذا الاقتراح، ورفعت يدي طالبا الكلمة، فأعطاني اياها رئيس الجلسة (لا اذكر اسمه)، فقلت بـ”انفعال” اننا جئنا الى هذا المؤتمر تلبية لدعوة الشيخ الترابي، واحتراما له، وتقديرا لمواقفه الوطنية العروبية الاسلامية، ولذلك لا نقبل بان يتولى هذا المنصب، اي احد غيره.
القاعة ضجت بالتصفيق وقوفا، ولم يجلس الحضور على مقاعدهم، ويتوقفوا عن التصفيق الا بعد صعود الدكتور الترابي الى المنصة (بعد اكثر من عشر دقائق من التصفيق) اذعانا لرغبة الحضور، وقال “سامح الله اخي عبد الباري الذي ورطني في هذا المنصب”.
المفارقة ان الرئيس عرفات الذي كان من بين المصفقين طبعا، همس في اذن جاره في المقعد الرئيس البشير لاحقا بقوله انه هو الذي كلفني “رسميا” بذلك باعتباري عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان المنفى)، رغم انني، واقسم بالله، لم التقيه قبلها بأشهر، ولم يجر بيننا اي حديث في هذا المضمار، ولكنه “ابو عمار”، الذي يعرف كيف يوظف المواقف لصالحه والشعب الفلسطيني من خلفه، اذا رأى ان هذا يتناسب مع مواقفه وسياساته، وهناك مفارقات اخرى مماثلة ربما يحين الوقت لسردها لاحقا من اجل التاريخ.
استمرت علاقتي مع الدكتور الترابي عن بعد، فقد انهار المؤتمر الشعبي المذكور، ولم يعقد الا جلستين فقط، وعندما تعرض لمحاولة اعتداء في كندا، التي كان يزورها من قبل احد معارضيه، وكادت ان تودي بحياته، ذهبت الى الخرطوم خصيصا للاطمئنان عليه في دارته المتواضعة في احد احيائها، واقول متواضعة، لانها كانت عبارة عن منزل عادي في منطقة عادية، مثله مثل جميع البيوت الاخرى المجاورة، والطريق اليه رملية لم تكن معبدة.
همزة الوصل بيننا كان السيد ابراهيم السنوسي، نائبه الذي تولى رئاسة المؤتمر الشعبي بعد وفاته، وكان يتردد على لندن، وتعمقت صداقتي معه على ارضية دعم حزبه للحرب التي خاضها الرئيس اليمني في حينها (عام 1994) ضد حركة الانفصال الجنوبية، فقد كنت مسلما عروبيا وحدويا وسأظل، وان اختلف معي البعض.
في احد الايام كنت في مطار برلين في طريق عودتي الى لندن بعد القائي محاضرة بدعوة من اتحاد الاطباء والصيادلة العرب في مؤتمرهم السنوي، عندما تقدم الي احد الاشخاص من اهلنا السودانيين المهذبين الطيبين، وقال لي ان هناك شخصا مهما يريد ان يراك، وطلب مني ان اتبعه، وفوجئت ان هذا الشخص هو الدكتور الترابي، وكان جالسا في مقهى عادي، وليس في القاعة المخصصة لكبار الزوار، او لركاب الدرجة الاولى، او رجال الاعمال، وكان هذا اللقاء، الذي اعتقد انه كان عام 2005، هو آخر لقاءاتنا.
حياة الدكتور الترابي السياسية امتدت لاكثر من اربعين عاما، قضى معظمها في السجون والمعتقلات، والمناصب الحكومية ايضا، وكان يخرج من المعتقل لكي يعود اليه، خاصة بعد الطلاق السياسي البائن الذي جرى بينه وبين الرئيس البشير، وانتقاله الى معسكر المعارضة، وتأسيسه حزب المؤتمر الشعبي السوداني، وتحول الرئيس البشير الذي وصل الى السلطة بانقلاب “دبره” الدكتور الترابي الى العدو اللدود لمعلمه واستاذه، مؤسس “جبهة الانقاذ”، واول من دعا الى تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان، ومن المؤلم ان الرئيس البشير غيّر مواقفه في الاشهر الاخيرة.
مواقف المرحوم الترابي كانت غريبة ومتناقضة، وبعضها استعصى على الفهم في بعض الاحيان، فقد كان السياسي السوداني الوحيد الذي ايد مذكرة التوقيف والجلب للرئيس البشير، التي اصدرتها محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب والابادة في دارفور، وهو التأييد الذي ادى الى اعتقاله عام 2009.
ربما يكون الدكتور الترابي “الاب الروحي” والمؤسس الحقيقي لتيار الاسلام السياسي الحديث، وكان عالما مجتهدا في الفقه وعلوم الحديث، وله مدرسة خاصة عصرية في تفسير القرآن، بغض النظر عن اختلاف العديد من العلماء حول افكاره وآرائه، خاصة حول المرأة في الاسلام، ويضيق المجال لذكرها، وستظل مؤلفاته الفكرية مرجعا للدارسين والمتخصصين ربما لقرون.
الدكتور الترابي لا يتميز فقط بعلمه الغزير، ولا بإجادته لاكثر من ثلاث لغات عالمية مثل الانكليزية (حصل على درجة الماجستير في الحقوق من جامعة لندن)، او الفرنسية (الدكتوراه من جامعة السوربون) او الالمانية، وانما يتميز ايضا بابتسامة لم تفارق وجهه حتى وهو متوجها الى الزنزانة، تارة بتهمة تقديم الدعم لحركة العدل والمساواة في اقليم دارفور، واخرى لمطالبته بثورة تطيح بالرئيس البشير وحكمه، وثالثة لتنديده بالانتخابات عام 2010، وكل انتخابات بعدها باعتبارها مزورة، او حتى لتصريح صحافي لا يعجب تلميذه الرئيس البشير.
الدكتور الترابي لا شك ارتكب اخطاء كثيرة في سيرته الطويلة، ولكن ابرزها في رأيي موافقته على تسليم المناضل العالمي “كارلوس″ لفرنسا الذي لجأ الى السودان بعد تعاظم الضغوط عليه في سورية، وتزوج من سودانية بعد اشهار اسلامه، فقد كنت وسأظل ضد تسليم المناضلين الذين وهبوا حياتهم من اجل القضايا العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين.
رحم الله الدكتور الترابي، وغفر له، واسكنه فسيح جناته، فقد بات من الصعب علي، وربما الملايين مثلي، ان يتصور سودانا بدونه، اختلفنا معه او اتفقنا، فهذا الرجل كان “ظاهرة” عابرة للحدود والقارات، ومجتهدا اخطأ واصاب، وحتما سيفوز باجر المجتهدين، وباحترام خصومه واعدائه قبل تلاميذه ومحبيه، وانا واحد منهم.
عبد الباري عطوان