ذ. إشدو: الملاحظة الثانية: بالرغم من كل ما عرضنا كان الصراع – كما قلت- بين فئتين: الفئة التي أخذت الاستقلال الوطني، وكانت تقدم رجلا وتؤخر أخرى من أجل إعطائه مضمونه. وفئة الشباب التي تريد أن يعطى الاستقلال مضمونَه دفعة واحدة.
الملاحظة الثالثة تتعلق بالأيام المشهودة؛ وهي للتاريخ أيام فاتح مايو. ففي كل فاتح مايو – أي عيد العمال- تنظم مظاهرات ومسيرات وتقمع.. إلخ.
أيام 29 مايو أيضا؛ أي ذكرى مذبحة الزويرات، وكانت تُحيا في عموم التراب الوطني تقريبا بالمظاهرات والكتابة على الجدران وتوزيع المنشورات.
9 يناير من كل سنة أيضا؛ وهي ذكرى وفاة المرحوم سميدع؛ وهو من آباء هذه الحركة.
يوم 18 مايو الذي تحدثنا عنه، محاكمة زعماء النقابات. وكذلك أيام المهرجانات والمؤتمرات.
وهنالك يوم خالد آخر، هو يوم زيارة الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو لموريتانيا. هذا اليوم حشد فيه النظام كل قوته من أجل استقبال رئيس الجمهورية الفرنسة استقبالا يليق به في انواكشوط التي تقدم رجلا وتؤخر أخرى، وحشد الشباب في الحركة أيضا قواه لاستقبال هذا الضيف الكبير بما يستحقه في نظرهم. وفعلا رغم كل ما حشد لتأمينه فإنه قد ألقي عليه البيض والطماطم وأصاب بذلته في شارع جمال عبد الناصر هو والرئيس المختار في موكب مهيب رغم كل شيء.
وقد قاد هذه المعركة المرحوم لمرابط ولد حمديت. وعائلة أهل حمديت من ضمن مجموعة من العائلات منها أهل زين وأهل باگا وأهل لبات وأهل عابدين وأهل البشير وأهل لكحل.. والكثير من العائلات الموريتانية التي أعطت الحركة الوطنية الديمقراطية جميع أبنائها واحتضنتها.
كان لمرابط ولد حمديت – رحمه الله- إذن بطل عملية استقبال بومبيدو بالبيض.
لحسن: وهل تم على أثرها اعتقال بعض النشطاء؟
ذ. إشدو: بالطبع! جرى بعدها اعتقال بعض النشطاء، لكن لمرابط الذي ركز عليه القمع والتعذيب لم يكن أبواه حيين (رحمهما الله) فتقدمت امرأة فاضلة من أهل موريتانيا كنا نسميها الأم، تقدمت باكية إلى الدرك فادعت أنها أمه لترفع معنوياته وأحضرت إليه بعض المواد الغذائية، وصافحته عند دخولها دون أن تكون محرما له لكي لا تنكشف الحيلة. هذا من روائع التضامن في ذلك العهد.
كان هذا في أيام النضال، وعند ما صدر قرار التأميم كان يوما مشهودا، وبعد التأميم بيومين نظم شباب انواكشوط أضخممسيرة عرفتها العاصمة تأييدا ومساندة واحتفاء بهذا القرار.
لحسن: أتينا في الحلقة الماضية على تأميم "ميفرما" وإصدار العملة الوطنية وبعض الخطوات التي ربما كانت نقلة نوعية في سياسة النظام حينها، وتحولا إلى مرحلة أخرى.
اعترفتم أيضا بأن الحركة لم تواكب تلك المرحلة ولم تفهم التغير الطارئ على سياسة النظام، وكان بإمكانها أن تواكبه إلى حد ما من أجل استفادة الوطن جميعا، لكننا توقفنا عند النقطة التي ربما كانت مؤشرا على نهاية نظام المختار ولد داداه؛ وهي الدخول في حرب الصحراء. دعنا نسأل في بداية الدخول إلى هذا المنعطف المهم من التاريخ السياسي الوطني، برأيكم هل كان اتخاذ قرار الحرب من قبل الرئيس المختار ولد داداه (رحمة الله عليه) قرارا يمكن وصفه بالجنوني؟
ذ. إشدو: كنت أود أن أذكر بعض الذين صنعوا هذا الاستقلال الجديد؛ وقد ذكرت بعضهم، والبعض يمكن أن لا نذكرهم لعامل الوقت، لكنهم يعرفون أنفسهم، ويعرفهم العارفون بهذه الفترة من تاريخ الوطن. ومن الجدير هنا ذكر أسماء قيادة الكادحين في تلك المرحلة؛ هي: عبد القادر ولد حماد، بدن ولد عابدين، أحمدو ولد عبد القادر، المصطفى ولد اعبيد الرحمن، الطالب محمد ولد لمرابط، عبد الله ولد إسماعيل، محمد سالم ولد العتيق رحمه الله، محمد ولد مولود، المصطفى ولد بدر الدين، لادجي اتراوري، محمدٌ ولد إشدو.
وأود القول كذلك إن هذا العمل شاركت فيه موريتانيا بجميع مكوناتها وفئاتها. شارك فيه أبناء الأمراء وأبناء الوزراء والفقراء والعبيد والحراطين. فقد كان عمل موريتانيا كلها. شارك فيه أبناء لمحيميد، مثل ابوه بن محمد المختار رحمه الله، وأبناء اسويد أحمد كالدان بن عثمان؛ وفيه يقول الشاعر:
إن الجديد دواما ** من القديم ينكري
الدان كان أميرا ** لكنه اليوم ثوري!
ويقول الدي ولد أحمد ولد أعمر، وكان من قادة الإضراب في المدارس، وأبوه وزير التعليم: نحن أبناء الوزراء الحمر! وكان هو في الحركة يعمل من أجل تحقيق هذه المطالب.
مسؤولية الجغرافيا
ما هي أسباب الحرب؟ أعتقد أن علينا - قبل الحديث عن القرار- أن نفكر في أسباب الحرب. وأرى أنها لم تحدث صدفة، وسببها الأول والأخطر هو موقع موريتانيا الجغرافي؛ حيث تقع بين إفريقيا الغربية وإفريقيا العربية من جهة، ومن جهة تقع بين أخوين متنازعين - إن لم نقل: متناحرين- هما المغرب والجزائر هداهما الله. وحسب التجربة التي عشناها فإن استقرار موريتانيا وسلامتها وتقدمها تتطلب أن تظل حيادية بين هذين الأخوين، وأن لا تقبل الخضوع أو التبعية لأي منهما، فلن يدخر أي منهما جهدا في السعي إلى إخضاعها وتبعيتها، ولن يقبل أي منهما تبعيتها للآخر، ولن يقبل أهل موريتانيا التبعية.
هذا الموقع الجغرافي من أهم هذه الأسباب؛ ولعلكم تتذكرون أننا في حديثنا عن مؤتمر ألاگ ذكرنا أن موراك (رئيس الحكومة الموريتانية في ظل القانون الإطاري) رأى في قرارات هذا المؤتمر أن نائبه المرشح لرئاسة موريتانيا سعى لاتخاذ قرارات خطيرة تعبر عن قومية عربية سوف تهدد بقاء فرنسا في موريتانيا وفي غرب إفريقيا! هكذا يقول موراك.
من الأسباب الأخرى أن الاستعمار كان مهزوزا في افيتنام، وموقف الاستعمار من العالم العربي هو التقسيم كما تثبته اتفاقية سايكس - بيكو وإبقاؤه متخلفا، ولا أدري إن كنتم تذكرون أنه بعد هزيمة العرب في حرب حزيران اشترت الجزائر (الدولة النفطية) على علات النظام الذي يحكمها آن ذاك، مئات الطائرات الروسية لتعويض الطيران المصري، وبذلك الطيران صمدت مصر في حرب الاستنزاف.
حين ينمو المغرب العربي أو يتحد أو تبرز فيه نمور ذات صناعة وتكنولوجيا (كما في آسيا) فإن في هذا خطرا على الاستعمار؛ وخاصة بلدان شمال إفريقيا الواقعة على الشاطئ الجنوبي للأبيض المتوسط.
إذن كان لا بد من إلهاء المنطقة بحرب عبثية؛ وهذا أحد الأسباب أيضا.
ثمة أسباب أخرى أساسية، ككون موريتانيا تضم أغلبية من البيضان يراقبها أهل الصحراء وبيضان أزواد وبيضان النيجر وبيضان جنوب المغرب وبيضان جنوب الجزائر. من هم سكان تيندوف؟ إنهم البيضان!
فأن تقف موريتانيا على قدميها، أن تكون نمرا، أن تتحرر، فهذا كثير أيضا! هذا أحد الأسباب.
نعود إذن إلى الأسباب الداخلية؛ وهي مهمة جدا. كما قلت لكم فإن يمين حزب الشعب كان ضد التحالف الذي أقامه المختار مع الشباب، وكان ضد لتأميم، وضد الابتعاد عن فرنسا، إلى حد أنه خرج من حزب الشعب وانتظم في حزب جديد يسمى حزب العدالة. هذا اليمين وجد فرصته في الحرب فدعمها ودعا لها، لأن الحرب وحدها هي ما كان سيسمح بسقوط التحالف الوطني الديمقراطي؛ بل وبالتخلص من المختار ولد داداه؛ الذي هو ركيزة هذا التحالف الأساسية. وذكرت أن محاولة للتخلص منه جرت سنة 1966 فلم تنجح. والحرب أيضا هي ما يمكن أن يسمح لهم بالسيطرة على السلطة، وهذه مفيدة لهم لأن ثمة أمرا يصر المختار على بقائه دون تغيير - وسأتحدث عن هذا عند ما أصل إلى الانقلاب- ألا وهو عدم الجمع بين الأختين المال والسلطة، وعند اندلاع الحرب وما آل إليه الوضع من انقلاب وغيره كان أول ما قاموا به بعد العاشر من يوليو 1978 هو الجمع بين السلطة والمال. ورغم جميع الجهود التي قيم بها ظل فك الارتباط بينهما بشكل تام عصيا إلى اليوم.