الغموض حول سورية وفوضى التاكتيك والإستراتيجية

ثلاثاء, 2024-12-31 21:19

بداية أقول بوضوح إنه ليس من حق أحد أن يوجه أي لوم للجماهير التي عبرت عن فرحتها بسقوط نظام عائلة الأسد، والذي أحسنت وصفه “كاسك يا وطن” منذ نحو خمسة عقود بصرخة “غوار” في وجه رجل أمن يأمره وهو يُعذّبه بأن يرفع رجليه ليتلقى ضربات ” الفلقة” : الجورنال يقول إرفع رأسك موش إرفع رجليك.

ولقد تابعت أحداث ديسمبر بالكثير من التناقض العاطفي، واعترف أنني لم أكن أحمل الكثير من الودّ للنظام منذ سقوط الجولان في 1967، مرورا بتولي بشار البهلوانيّ للسلطة، ووصولا إلى مأساة الهجمات الكيمياوية والبراميل المتفجرة.

وأنا أعرف أن كثيرين لم يكتموا دهشتهم من سهولة استيلاء المجموعات المسلحة على المدن السورية، ولم يقنعني تفسير أحمد منصور من أنه نتيجة تاكتيك ذكيّ في اختيار أساليب الاختراق، وأرى أنه كان أساسا نتيجة انسحاب الجيش “النظامي” المفاجئ، مما يطرح أسئلة كثيرة عن نوعية الجيش الذي كان النظام يعتمد عليه في حمايته والدفاع عنه.

وأسعفتني كلمات أستاذنا فؤاد البطاينة الذي وضّح ذلك بقوله إن سورية الأسد كانت “دولة منهكة باحتلالات أجنبية وبلا شعب يسندها، ولا جيش قادر على فعل شيء من واجباته النظيفة، وبمافيات من صلب النظام عصية على الضبط والسيطرة.

والأخطر أن تحالفاتها مع روسيا وإيران تشمل الدفاع عن بقاء نظام الأسد كممثل للشرعية الدولية، ولا تشمل الدفاع عن سورية الوطن والشعب، ولا الجيش وتسليحه، وهذا مقابل “شرعنة” مصالح عسكرية لروسيا ومصالح إيران وأهمها استخدام الأراضي السورية ممرا لنقل السلاح لحزب الله.، وهذا ضرورة، ولكن تُركت المقدرات والأراضي السورية مستباحة لإسرائيل بصمت الحليفين، وبالتالي لم يكن دور سورية في المحور سوى لوجستي، لم تحافظ عليه إيران عندما اختزلت سورية به”.

وإذا عدت إلى مسرحية غوار، فإن الاستنتاج المنطقي هو أن القوات المسلحة كانت مجرد عصا في يد مؤسسة الأمن، أي أن المخابرات كان لها جيش تستعمله لتحقق به سيطرتها بالوسائل الدنيئة، بدلا من أن تكون مجرد فرع من أسلحة الجيش يتحمل مسؤولية الدفاع عن الوطن تحت سلطة قوانين تحمي المواطن من تجاوزاتها، بل وتحميها من نفسها.

ومما لا شك فيه أنه كان في الشام عسكريون لا يقلون وطنية وكفاءة عن أمثالهم في بلدان العالم التي تحترم نفسها ومواطنيها، لكن السلطة الحقيقية لم تكن في يدهم.

وأتذكر الستينيات، عندما استقبلت الجزائر وفودا عسكرية عربية في إحدى المناسبات الوطنية، كان من بينها وفد سوري يرأسه جنرال.

كنت يومها طبيبا في القوات البحرية، وكُلفت، لنقص الإطارات في بداية استرجاع الاستقلال، بإدارة المحافظة السياسية (التوجيه المعنوي) وكان من بين مهامي المساهمة في برتوكول استقبال الضيوف والعناية بهم.

وخلال الإعداد لحفل العشاء رحت أبحث عن رئيس الوفد السوري وسألت أحد أعضاء الوفد وكان ضابطا برتبة ملازم: أين الجنرال ؟ واستفسرني عن السبب فأجبته بأن عليّ أن أرافق الجنرال إلى مكانه في المائدة الشرفية مع القيادات العليا.

وكانت الإجابة صاعقة، إذا قال لي الملازم باستهانةٍ عن قائده: حسبتوه راجل ؟ (…أي والله).

وعرفت فيما بعد أن الملازم مخابراتيٌّ ينتمي للحزب “القائد” بخلاف رئيس الوفد الذي كان واضحا أن هناك كثيرون أمثاله، وهو أمر يدمر هيبة القيادات.

وتفاديا لجدلٍ برع فيه البعض أجد نفسي مضطرا للتذكير بأنني قلت بكل وضوح في 20 ديسمبر بأنني أتعاطف مع سعادة الجماهير السورية، وبأنني سعيد بالفرحة التي عبّرت عنها جماهير الشام في مختلف المحافظات، فمن حق الجماهير أن تفرح بسقوط الطغيان، وليس بالضرورة على قاعدة: “اليوم خمر وغدا أمر”.

وكان من خلفيات تعاطفي هو الحملة “العربية” الشرسة التي راحت تسيء لما حدث في سوريا بأسلوب سوقي، بدا أن وراءه أمرين، عقدة الإسلاموفوبيا، التي كشفها ما نُسِب لـ”وول ستريت جورنال”، من أن سلطات “عربية” طلبت من “واشنطن” التضييق على القيادة السورية الجديدة “بسبب هويتها الإسلامية”.

والأمر الثاني هو خشية قيادات عربية من مصير مشابه لمصير “بشار الأسد”، حيث أنها لا تختلف كثيرا عنه في ممارساته القمعية، وهي، عبر إعلامييها، تُخيرنا بين الطاعون والكوليرا بينما هي بؤرة لكل الأوبئة.

ورحت أتابع الأحداث في جو اتسم بتناقض المعلومات وتنافرها، ومن هنا حرصت على القول بكل وضوح: وبتواضع حقيقي لا افتعال فيه، إنني مجرد مثقف يرقب الأحداث من سطح بيته البعيد، ويرصد ما يراه ليحاول أن يفهمه ويتفهمه مستعينا بدروس تجارب مرّ بها عبر سنين طويل، يتصور أنها سوف تمكنه من تسليط ما يمكنه من أضواء على ما نراه جميعا في ساحة مضطربة تتشابك فيها المعطيات ويغطي الدخان الكثير من جوانبها، ولم أدّعِ يوما أنني أمتلك الحقيقة، ويسعدني دائما أن يكون هناك من يُصحح أخطائي أو يستكمل معلوماتي أو يناقش تحليلاتي، وهو، في تصوري، دور منوطٌ بأي مُعلّقٍ يمارس قراءة واعية بعيدة عن تصفية أي حسابات، وملتزم بالضوابط التي يتطلبها الحوار الفكري عبر منبر إعلامي يفتح صدره لكل رأي حرّ، ولا مجال فيه للمزايدات وللغمز واللمز والبلاغيات.

وأكرر ما قلته من أن “بداية النهاية أو نهاية البداية كانت في الربط العضوي اللاعقلاني بين المقاومة العربية للعدوّ وبين نظامِ حكم، ليس من حقه بأي حال من الأحوال أن يحتكر دعم المقاومة.

وكنت أقصد الربط بين المقاومة الفلسطينية ومن يدعمها وبين نظام حكم الأسد، الأب ثم الابن، لأن هذا جعل المقاومة تتحمل مسؤولية كثيرٍ من التجاوزات التي عرفتها سوريا في عهد النظام المخلوع، وفرضت عليها تحالفا اضطراريا ربما كان من بين أسباب التعقيدات التي واجهتها في سنوات لاحقة، حيث أن ذلك فرض على “حزب الله”، مثلا، الالتزام بدعم النظام السوري، فأصبح شريكا في تحمل مسؤولية كل المثالب التي نسبت للنظام: خصوصا خلال وجود قواته في لبنان، ثم جعلت من الحزب جزءًا فاعلا في مواجهة المعارضة السورية في العشرية الثانية.

ولأن دور حزب الله ما كان ليثمر بدون الدعم الكامل للجمهورية الإيرانية فإن هذا جعل طهران حليفا فعليا للنظام السوري في كل الممارسات التي تنعكس اليوم على نوعية التعامل السوري معه”.

وأذكر أيضا أنني قلتُ بأن مصرع الرئيس الإيراني السابق كان جزءا من عملية منظمة لم أكن أعرف من وراءها،  وهو ما اتضحت بعض معالمه اليوم، عندما بدأ التناقض بين القيادة الإيرانية والقيادة السورية.

لكن الأهم هو أنني، في استعراضي لما أراه في الشام من تطورات، حرصتُ على أن أوضح بأن الالتزام مع القضية الفلسطينية هو المقياس والدليل والمرجعية، وقلت إنه “مع الإقرار بصعوبة التحديات التي تفرض أسبقيات معينة وتصريحات معينة من القيادات، كل القيادات، فإن هناك نقطة جوهرية لا يمكن تجاهلها، وهي الموقف من القضية الفلسطينية”.

لكن الأمور بدأت تأخذ منحىً مُقلقا عبر عنه عمُّنا عبد الباري عطوان بقوله: تمثلت مسببات القلق في إعلان القيادة الجديدة رسميًّا عن عدم نيتها “تحويل سورية إلى قاعدةٍ لمُحاربة دولة الاحتلال الإسرائيلي، بحُجّة أنها مُنهكة، والتّلميح إلى احتمال توقيع اتّفاق سلام، أو هدنة رسميّة معها، الأمر الذي فسّره كثيرون بأنّ هذا النّظام الجديد يُريد إدارة ظهره للقضيّة الفِلسطينيّة.

وتوقفت عند ما كتبته د.لينا الطبال فبدأت أراجع نفسي، حيث قالت: “ما تبقى هو أشلاء وطن مقسم، الشمال تحت النفوذ التركي، حيث يتباهى “أردوغان” بسيطرته عليه ويفتح شهيته للتقدم نحو طرابلس في لبنان ولما لا نحو الموصل في العراق، أما الشمال الشرقي، فهو تحت سيطرت القوات الكردية، ويبقى الداخل بيد التنظيمات والجماعات المسلحة التي يرأسها أحمد الشرع”.

ثم رحت أقرأ بقلق ما كتبه الكاتب المغربي إدريس هاني وهو يقول : “إنّ الشعب السوري الجريح الذي فَرض عليه “الإرهاب” حربا استنزفت الدولة والجيش والشعب، ها هو لا يزال يدفع ثمن ثورة خداج مفصولة عن سياقها التّاريخي والاجتماعي”.

ويزداد قلقي مع ما قاله الأستاذ كمال خلف بالأمس: “أتساءل هنا هل سورية ستكون استثناء وأمامنا هذا الكم من النماذج في بلداننا.. يسقط نظام قمعي فاسد، ثم ينشأ لا نظام وتحل الفوضى وتسود العصبيات القبلية والطائفية والعرقية، ما الذي يجعل سورية نموذجا معاكسا؟ هل فعلا الحكام الجدد في سورية استوعبوا الدروس السابقة، وممكن تجنب تكرار المأساة أتمنى ذلك من اجل استقرار سورية ورفاهية شعبها الذي تحمل الدمار والفقر وسفك الدم والتهجير على مدار 13 عاما”.

هذا يقابله ما أوردته “رأي اليوم” أمس الأول من أن وزير الكيان قال إنّ الحكومة الجديدة في سوريّة هي عصابة إرهابية كانت في إدلب وسيطرت على العاصمة دمشق، وليست حكومة مستقرة”.

غير أن د.محمد بكر يقول أنه: “لا يُمكن الجزم بأن القائد الشرع هو صنيعة أميركية أو تركية مطلقة، وان بدا المشهد خلال أيام سقوط النظام السوري الإحدى عشر مرسوماً بدقة من الرئيس التركي تحديداً، ومباركاً من الجانبين الأميركي والروسي”.

وتذكرت على الفور ما عرفه الشام بعد الثامن من ديسمبر من تدمير إسرائيلي مُمنهج للقدرات الحربية السورية، التي لم تكن استعملت على الإطلاق ضد الكيان الصهيوني.

ورأيت أن هذا يؤكد ما كنت قلته من استهجان لكل ادعاء بدور إيجابي إسرائيلي في دعم النظام الجديد في الشام، وما كنت حذرته منه من تغلب التاكتيك على الاستراتيجية.

هكذا يختلط عليّ الأمر، فهل هناك من ينير لي الطريق؟

دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق