صراع القوى الإقليمية والدولية في سوريا يهدد بسايكس-بيكو جديدة... بدون حل القصية الفلسطينية لا سلام ولا استقرار في الشرق الأوسط

أربعاء, 2024-12-18 05:32

دخلت منطقة الشرق الأوسط المركز في مرحلة انتقال وتحول سياسي وإستراتيجي جديدة مع سقوط دمشق تحت سيطرة مجموعة من القوى المسلحة تحت قيادة جبهة تحرير الشام التي يتزعمها أحمد الشرع "محمد الجولاني"، مرحلة مكملة ومترابطة بأشكال متشابه حينا ومختلفة حينا آخر مع ما حدث بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق سنة 2003 وتدخل حلف الناتو في ليبيا في مارس 2011، والحرب في اليمن في مارس 2015، والصراع المسلح في السودان المتعدد الأقطاب محليا ودوليا في أبريل 2023. هذا التحول قلب إلى حد ما التوازنات التي تشكلت من وفي الصراعات العسكرية والسياسية بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023.

بعض المحللين الغربيين ومنهم من تقلدوا مناصب مسؤولية عليا سواء في الأجهزة الأمنية والسياسية في واشنطن ولندن يشيرون إلى أن نجاح تل أبيب بالتعاون الفعلي مع حلفائها الغربيين في قتل حسن نصرالله زعيم حزب الله وجزء أساسي من قيادات التنظيم في 27 سبتمبر 2024 في بيروت شكل شرارة تسريع التحول الذي قاد إلى التطورات التي يمكن أن تنفع تل أبيب مرحليا وفي نفس الوقت قد تشكل سيفا ذو حدين.

من الناحية الإستراتيجية شكل التحول في سوريا خسارة لموسكو وطهران، ولحزب الله في لبنان إذا قطع ساسة دمشق الجدد خط تسليحه عبر سوريا، إسرائيل كسبت واستطاعت احتلال الجزء الذي استعاده الجيش السوري من هضبة الجولان في حرب أكتوبر 1973 وزادت عليه جبل الشيخ والقنيطرة وأصبحت قواتها على بعد 25 كيلومتر من دمشق، كما دمرت ما بين 75 و 80 في المئة من أسلحة الجيش السوري بحيث صعبت مهمة قادة سوريا الجدد في بناء قوة عسكرية قادرة على القيام بجهد لاستعادة أراض محتلة أو تأمين الاستقرار والأمن الداخلي.

تركيا ساندت مختلف القوى المسلحة التي انطلقت من إدلب للسيطرة على حلب وصولا إلى دمشق، وفي هذه العملية تشاركت في العملية العسكرية مع أوكرانيا التي قدم عسكريوها السند للفصائل المسلحة بالطائرات المسيرة ومختلف أساليب الحرب الالكترونية كأسلوب انتقام من موسكو، وهي بذلك وجهت ضربة لعلاقتها مع الكرملين. أنقرة بدعمها للقوى الجديدة المسيطرة حاليا على دمشق ونجاحها في اسقاط الأسد وسعت نطاق نفوذها الذي يتقدم شرقا في الجمهوريات الإسلامية وسط جنوب آسيا التي كانت جزء من الاتحاد السوفيتي حتى انهياره في العقد الأخير من القرن العشرين، وكذلك غربا وجنوبا الذي يمتد من القرن الأفريقي حتى ليبيا.

المشكلة التي تواجه أنقرة وهي توسع نطاق نفوذها شرقا وغربا، هي فرضية اصطدامها بالمشروع الأمريكي الغربي لإقامة دولة كردية تضم أراض من إيران شرقا عبر العراق وسوريا وتركيا غربا مع العلم أن تركيا تضم أكبر مجموعة كردية بين الأقطار الثلاثة السابق ذكرها بما يصل إلى 14 مليون نسمة وجيشها يقاتل منذ حوالي أربعة عقود حركة الانفصال الكردية.

خصوم ساسة تركيا الحاليين، يتهمون الرئيس التركي أردوغان وحزبه العدالة والتنمية بأنهم يريدون إحياء الدولة العثمانية التي خسرت سيطرتها على مساحات ضخمة من الشرق الأوسط بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.

ولتعزيز هذه المقولة يشار إلى ما قاله أردوغان خلال خطابه في المؤتمر الإقليمي الثامن لحزب العدالة والتنمية بولاية سكاريا يوم 13 ديسمبر 2024: "هذا الشعب التركي أنصار، والسوريون مهاجرون. لن نقوم بطردهم من هذا البلد أبدا، وسنظل ندعمهم".

وهاجم إردوغان التساؤلات المتعلقة بوجود تركيا في سوريا، معتبرا أنها تنم عن "جهل بالتاريخ أو تعصب أيديولوجي"، حسب تعبيره.

وقال إردوغان: "لو كانت نتائج الحرب العالمية الأولى مختلفة، لكانت مدن مثل الرقة وحلب وإدلب ودمشق جزءا من وطننا تماما كمدن عنتاب وأورفة وهاتاي".

وأضاف الرئيس التركي، "بدأ السوريون الذين لديهم منازل أو عائلات هناك بالعودة تدريجيا، وسنعمل بإذن الله على تطهير ما تبقى من الأراضي السورية من التنظيمات الإرهابية"، في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردي. المسألة الأخرى الشائكة ماذا عن موقف أنقرة من التوسع الإسرائيلي في سوريا ومساندتها للإنفصاليين الأكراد.

عربيا أيدت غالبية الحكومات العربية خيارات الشعب السوري. ولكن الأطراف التي كانت لها أدوار في الصراع بفضل قدراتها المالية وتأثيراتها على الفصائل المسلحة، كانت لها أراء مختلفة ففيما تحمست قطر لمساندة حكام دمشق تمسكت أطراف أخرى بالحذر.

أعرب أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي عن قلق أبو ظبي إزاء الانتماء الإسلامي للفصائل السورية المسلحة التي أسقطت نظام بشار الأسد.

وقال أنور قرقاش خلال كلمة في "مؤتمر السياسات العالمية" في أبوظبي: "نسمع تصريحات معقولة وعقلانية حول الوحدة وعدم فرض نظام على جميع السوريين". وأضاف "لكن من ناحية أخرى أعتقد أن طبيعة القوى الجديدة وارتباطها بالإخوان وبالقاعدة، كلها مؤشرات مقلقة للغاية".

وأضاف المستشار الدبلوماسي "يتعين علينا أن نكون متفائلين من ناحية وأن نساعد السوريين في المهمة الصعبة اليوم، وفي الوقت نفسه لا يمكننا تجاهل أن المنطقة شهدت حلقات مشابهة سابقا لذا يتعين علينا أن نكون حذرين".

في القاهرة علق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأحد 15 ديسمبر، على تطورات الأوضاع في سوريا بالقول إن "أصحابالبلد" هم من يتخذون القرارات في الوقت الحالي و"إما أنيهدموها أو يبنوها"، وذلك في وقت أعلنت فيه مصر في بياناتسابقة أنها تدعم عملية سياسة تحافظ على وحدة واستقراروسيادة سوريا.

في القدس المحتلة صرح وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس يوم الأحد 15 ديسمبر 2024، إن التهديدات في سوريا تتزايد رغم الصورة "المعتدلة" التي يقدمها القادة حاليا عن أنفسهم.

 وأضاف: "لم تختف المخاطر المباشرة على البلاد، والتطورات الأخيرة في سوريا تزيد من حدة التهديد، على الرغم من الواجهة المعتدلة التي يدعي قادة المتمردين أنهم يقدمونها".

وفي هذا الصدد دعا إلى الهدوء والحذر من الرسالة التصالحية للجولاني، وأضاف: "الرجل جهادي متطرف تابع لتنظيم داعش، ومحاولة تقديم نفسه للغرب على أنه معتدل حقيقي لا أساس لها من الصحة".

موازاة مع ذلك صادقت حكومة إسرائيل يوم الأحد 15 ديسمبر 2024 على خطة بقيمة 11 مليون دولار لزيادة عدد مستوطنيها في هضبة الجولان المحتلة إلى المثلين، قائلة إن التهديدات التي تواجهها من سوريا لا تزال قائمة.

 

تقسيم سوريا

 

صرح الخبير الإسرائيلي في العلاقات الدولية والأمن القومي والمستشار في حكومة تل أبيب، سيمون تسيبيس:

"الآن اقتربت الدبابات الإسرائيلية من ضواحي دمشق، لكن، على حد علمنا، لا يخطط الجيش الإسرائيلي لاحتلال العاصمة السورية. سنحاول تدمير أكبر قدر ممكن من المعدات العسكرية والطائرات والسفن التابعة لقوات الأسد. سنقوم بنزع سلاح (سوريا) حتى لا تقع الأسلحة في أيدي الجهاديين والجماعات الإسلامية المتطرفة، وسنغادر. لكن على الأرجح فإن جزءا من الأراضي في غرب سوريا، على سبيل المثال، القنيطرة، سيبقى مع إسرائيل".

"أما بالنسبة للجانب الاجتماعي والسياسي للقضية، ففي المستقبل القريب سوف تشتد المواجهة بين مختلف الفصائل في سوريا. وبعد ذلك، ستكون هناك مركزية للسلطة، وسيتم القضاء على قطاع الطرق أو طردهم، وسيجد الغرب شخصيات قابلة للتحكم ووضعها في مناصب قيادية. وسوف يوقعون في النهاية معاهدة سلام مع إسرائيل مع غياب المطالبات المتبادلة.. ونتيجة لذلك، سيكون لإسرائيل جار أقل عدوانية. أعتقد بأن جزءا آخر من الأراضي السورية سيحتله الأكراد. وتقيم إسرائيل علاقات طبيعية مع الأكراد. نحن نرحب بمثل هذه التغييرات"، و"يمكن أن تحتل تركيا شمال سوريا. وهنا لا نرى أي مشاكل أيضا. فإسرائيل صديق عظيم للغرب، وتركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، لذلك لا ينبغي أن تنشأ أي أسئلة بيننا. وبناء على ذلك فإن ما تبقى من المعارضة السورية الحالية سوف يقع تحت الحماية الغربية. ومن الواضح أنهم لن يقوموا بأي محاولات لاستعادة الأراضي المفقودة. ويمكن إهمال مجموعات صغيرة من المتطرفين".

فجر يوم الاثنين 16 ديسمبر هاجمت إسرائيل جوا وبحرا منطقة طرطوس وذكرت وكالات الأنباء إن الانفجارات العنيفة جراء الغارات الإسرائيلية على المدينة، سجلتها أجهزة قياس الزلازل على أنها هزة أرضية بقوة 3 درجات على سلم ريختر.

 انها الفوضى التي لا يمكن حاليا قياس ابعادها وإسقاطاتها، خاصة مع وجود ضبابية وغموض حول كثير مما حدث.

 

غموض 

 

مصادر رصد ألمانية ذكرت أنه قبل سقوط دمشق في قبضة القوات التي يقودها الجولاني تمكن حزب الله من نقل الاف الأطنان من مختلف المعدات العسكرية التي تخلى عنها الجيش السوري خلال انسحابه أو التي اعطيت له أوامر له بفعل ذلك. وتضيف نفس تلك المصادر أنه خلال العمليات الجوية الإسرائيلية والتي أعلنت تل أبيب أنها شملت 512 هدفا عسكريا وبحثيا في الأراضي السورية تضاف إليها غارات أمريكية على 242 هدفا في سوريا كل ذلك خلال أقل من 96 ساعة، تبين وبعد مراجعة أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية للصور التي سجلتها الطائرات التي شاركت في الغارات الجوية وتلك التي وردت من الأقمار الصناعية، أن هناك ثغرة كبيرة بين ما تم رصده في فترات مختلفة قبل 27 نوفمبر 2024 وما تتم التأكد من تدميره، وهذا يعني أن الفاقد ذهب إلى مكان ما. بالإضافة إلى ذلك أفاد ضباط مخابرات التحالف الذي ساند القوات التي انطلقت من إدلب نحو حلب ثم حماة وحمص قبل الوصول إلى دمشق أن القوات الروسية سحبت من مواقع موزعة داخل الأراضي التي كان يسيطر عليها الجيش السوري -70 في المئة من مساحة البلاد الكلية-، كل معدات الرادار والحرب الالكترونية المصنفة سرية وصواريخ ارض جو وذلك نحو قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية.

جزء من الفرقة المدرعة الرابعة في الجيش السوري والتي تصنفها واشنطن وتل أبيب كقوة النخبة تراجعت إلى منطقة اللاذقية ولم يعرف حتى منتصف شهر ديسمبر ما إذا كانت تلك الوحدات موجودة أم ذابت مثل بقية قوات الجيش السوري التي كان تعدادها قبل 27 نوفمبر وحسب القيادة المركزية الأمريكية المشرفة على منطقة الشرق الأوسط يتجاوز 230 ألف جندي وضابط.

نفس الأمر يمكن قوله كذلك بشأن قوات النمر وهي وحدة للقوات الخاصة تابعة للجيش العربي السوري تعمل في المقام الأول كوحدة هجومية في الحرب. وقد وصفت أمريكيا بأنها "أداة ساخنة لأي هجوم حكومي"، ولكن أعدادها الصغيرة نسبيا تجعل من الصعب نشرها في جبهات متعددة في آن واحد.

 

طريق إمدادات

 

في الوقت الذي كانت القوات الجوية الإسرائيلية والأمريكية تعملان بطاقتهما القصوى لتدمير القدرات العسكرية والعلمية في سوريا، قال الأمين العام لحزب الله اللبنانية نعيم قاسم يوم السبت 14 ديسمبر إن الجماعة المسلحة فقدت طريق إمداداتها عبر سوريا، وذلك في أول تصريحات له منذ الإطاحة بالرئيس بشار الأسد.

واستخدمت الجماعة المدعومة من إيران سوريا إبان حكم الأسد لجلب أسلحة ومعدات عسكرية أخرى من إيران، عبر العراق وسوريا إلى داخل لبنان. لكن في السادس من ديسمبر، سيطر مقاتلون مناهضون للأسد على الحدود مع العراق وقطعوا ذلك الطريق، وبعد يومين سيطرت المعارضة المسلحة على العاصمة دمشق. 

وذكر قاسم في خطاب بثته محطات تلفزيونية دون أن يذكر الأسد بالاسم “نعم خسر حزب الله في هذه المرحلة طريق الإمداد العسكري عبر سوريا ولكن هذه الخسارة تفصيل في عمل المقاومة”. 

وأضاف “يمكن أن يأتي النظام الجديد ويعود هذا الطريق بشكل طبيعي ويمكن أن نبحث عن طرق أخرى”.

وبدأ حزب الله التدخل في سوريا عام 2013 لمساعدة الأسد في قتال الفصائل المسلحة التي حشدها الغرب وجند لها مقاتلين من 80 دولة حسب تقارير الأمم المتحدة والتي سعت للإطاحة به في ذلك الوقت. وفي بداية ديسمبر، ومع اقتراب مقاتلي الفصائل من دمشق، أرسلت الجماعة “قوات مشرفة” لتنسيق انسحاب مقاتليها من هناك.

وقال قاسم “لا يمكننا الحكم على هذه القوى الجديدة إلا عندما تستقر وتتخذ مواقف واضحة وينتظم وضع النظام في سوريا” لكنه عبر عن أمله في استمرار التعاون بين الشعبين اللبناني والسوري وحكومتي البلدين.

وأضاف “نتمنى أيضا أن تعتبر هذه الجهة الحاكمة الجديدة إسرائيل عدوا وأن لا تطبع معها. هذه العناوين هي التي ستؤثر على طبيعة العلاقة بيننا وبين سوريا”.

 

مواقف أمريكية 

 

بينما ساندت واشنطن في شخص رئيسها جو بايدن التحولات في سوريا وبدأت اتصالاتها رسميا مع هيئة تحرير الشام، اتخذ الرئيس الأمريكي القادم ترامب الذي سيتولى الرئاسة يوم 20 يناير 2025 موقفا مختلفا. حيث صرح إن الولايات المتحدة يجب ألا تتدخل في الصراع في سوريا، وكتب في منشور على منصته "تروث سوشيال" للتواصل الاجتماعي "سوريا في حالة من الفوضى، لكنها ليست صديقتنا ويجب ألا يكون للولايات المتحدة أي علاقة بها. هذه ليست معركتنا.. دعها تستمر.. لا تتدخلوا".

يذكر أن ‏محاولة ترامب إبان فترة رئاسته الأولى في سحب القوات الأمريكية – رغم عدم تجاوزها الألف جندي أمريكي- من سوريا لم تنجح بسبب مماطلة قيادات البنتاغون حتى انتهت ولايته وانتقد تدخل سلفه أوباما في الشأن السوري. ويرى ملاحظون أن إدارة ترامب القادمة قد تجد نفسها تواجه معضلة حقيقية في سوريا التي بلا شك سيؤثر انتصار هيئة تحرير الشام فيها على معادلة توازن القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.

ولقد سبق أن أدلى ترامب بتصريحات شبيهة بهذه – ‏أثناء فترة رئاسته الأولى نحو كوريا الشمالية- لينتهي به المطاف مصافحا زعيمها ومتبادلا معه رسائل مودة سياسية لم يكشف عن مضمونها بعد.

يوم الأحد نقلت وكالة أسوشيتد برس عن مسؤولين أمريكيين استبعادهم أن يتخلى ترامب عن المواقع العسكرية الأمريكية في سوريا كما كان يرغب خلال فترته الرئاسية الأولى.

وقالوا إن اعتقادهم هذا ينبع من حقيقة أن ترامب ينسب لنفسه في كثير من الأحيان الفضل في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية واستعادة الأراضي التي كان التنظيم سيطر عليها في عهد إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما.

وقالوا إن تهديد عودة تنظيم الدولة الإسلامية سيكون كبيرا لدرجة أن ترامب لا يمكنه المخاطرة بهذا الأمر.

 

مع وضد

 

قبل ساعات من دخول الفصائل المسلحة دمشق نشر على موقع "الحرة" التابع للحكومة الأمريكية التقرير التالي:

 التقدم السريع للفصائل المسلحة التي تقودها هيئة تحرير الشام المصنفة على لوائح الإرهاب الأمريكية، وما أظهرته من امتلاكها قدرات عسكرية يدفع لطرح تساؤلات عن مصدر هذا التسليح.

كبير الباحثين في مؤسسة "نيو أمريكا"، دوغلاس أوليفانت، يقول إنه ليس سرا أنه ينظر إلى هذه الفصائل على أنها "أذرع تابعة لأنقرة، خاصة في ظل التسليح الذي يمتلكونه بشكل غير معهود".

ويشرح في حديث لبرنامج "الحرة الليلة" أن الأسلحة الخفيفة مثل الرشاشات يمكن أن تعثر عليها في كل أنحاء المنطقة، وهذا الأمر "معتاد"، ولكن استخدامهم لـ "مسيرات متقدمة جدا، يطرح تساؤلات عن مصدر تزويدهم بهذه الأسلحة". 

وزاد أوليفانت أن الإجابة عن هذه التساؤلات لا تبتعد عن "تركيا، التي لها علاقات طويلة الأمد مع هذه الفصائل، ناهيك عن استفادتهم المباشرة من هذا الأمر".

واعتبر أن ما يحدث لا يخرج عن نطاق "رغبة أنقرة في توسيع نطاق السيطرة في الأراضي السورية، والدفع باللاجئين إلى هذه المناطق"، مؤكدا أن هذه التطورات "ليست مفاجأة".

وبرر أوليفانت الصمت الأمريكي تجاه ما يحدث في سوريا من فصائل مصنفة إرهابية، وقال إن غالبية الفصائل في سوريا إما أنها مصنفة إرهابية أو تابعة لمجموعات إرهابية، فمنهم من يرتبط بمجموعات لها علاقة مع إيران وحزب الله، أو لها علاقة مع داعش أو المجموعات القريبة من حزب العمال الكردستاني.

وأكد أن واشنطن الآن في وضع المراقب، وغير راضية عن تقدم مجموعة مرتبطة بداعش في المعارك، وفي الوقت ذاتها هي غير راضية عما يفعله النظام، ولهذا "تقف الولايات المتحدة جانبا".

وذكر أوليفانت أن هذه المجموعات التي تقاتل الآن ليس لديها طموحات إرهابية توسعية خارج سوريا كما كانت داعش، وفي هذه الحالة هم يريدون مقاربة تشبه طالبان في أفغانستان، حيث يريدون السيطرة والحكم بدولة إسلامية في داخل سوريا، ولكن هذا الأمر قد لا يكون مناسبا للولايات المتحدة، إذ أن مثل هذه الدول قد تكون حاضنة لمجاميع إرهابية أخرى.

 

المخابرات الأوكرانية

 

في إضافة لما ذكره الباحثون الأمريكيون عن مصادر أسلحة الفصائل ذكرت صحيفة واشنطن بوست بتاريخ 11 ديسمبر أن مقاتلين خصوم لدمشق تسلموا نحو 150 طائرة مسيرة، فضلا عن دعم سري آخر من أعضاء في المخابرات الأوكرانية شهر نوفمبر 2024 قبل أسابيع من التقدم نحو دمشق. 

ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة على الأنشطة العسكرية الأوكرانية لم تسمها أن المخابرات الأوكرانية أرسلت نحو 20 مشغلا للطائرات المسيرة ونحو 150 طائرة مسيرة تعمل بتقنية منظور الشخص الأول قبل ما أربعة أو خمسة أسابيع تقريبا لمساعدة هيئة تحرير الشام.

وكانت وزارة الخارجية الروسية قد ذكرت في وقت سابق، إن مقاتلي المعارضة حصلوا على طائرات مسيرة من أوكرانيا وتلقوا تدريبا على كيفية تشغيلها، وهو ما قالت وزارة الخارجية الأوكرانية حينئذ إنها ترفضه “رفضا قاطعا”.

وساعدت القوات العسكرية الروسية قوات الجيش العربي السوري في شن غارات جوية على الفصائل المسلحة خلال الأسابيع التي سبقت سقوط دمشق، ولكن هذه العمليات لم تكن بالكثافة السابقة وذلك بسبب تكريس موسكو ثقلها العسكري في حرب أوكرانيا ومواجهة إحتمالات فتح جبهات جديدة ضدها خاصة من جورجيا. لكن مدوني حرب روسيين يعارضون الكرملين ويعملون انطلاقا من غرب أوروبا حذروا من أن الإطاحة بالأسد لا تهدد فقط منشأتين عسكريتين روسيتين مهمتين استراتيجيا في سوريا، وإنما تهدد أيضا وجود موسكو في الشرق الأوسط وأفريقيا.

 

تقسيم الشرق الأوسط

 

نشرت صحيفة آي البريطانية، مقالا لمراسل الشرق الأوسط باتريك كوكبيرن، بعنوان "تقسيم الشرق الأوسط الجديد لن يجلب السلام".

رأى كوكبيرن أن تغيرات سياسية كبرى تختمر في الشرق الأوسط بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، مقارنا الوضع الراهن بذلك الذي سبق إبرام اتفاقية سايكس-بيكو في 1916، عندما اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم الإمبراطورية العثمانية.

واعتبر كوكبيرن أننا الآن إزاء تقسيم جديد ونوه إلى أن اتفاقات قديمة كانت تحافظ على السلام بين إسرائيل وسوريا بعد حرب 1973 تم تجاهلها، حيث لم تعد تعكس ميزان القوى الحقيقي.

ورأى كوكبيرن أن مَن يحكم سوريا في المستقبل، أياً كانت توجهاته، سيجد دولة منتهكة بدرجة كبيرة، حيث لا تقيم إسرائيل اعتبارا لحدود سوريا في الجنوب، وكذلك تفعل تركيا مع الحدود السورية في الشمال.

من جانبها نشرت "ناشيونال إنترست" الأمريكية يوم 13 ديسمبر بحثا لألكسندر لانغلويس جاء فيه:

على مدى أسبوع صادم، انهار نظام بشار الأسد في سوريا بعد ما يقرب من 14 عاما من الحرب. ولكن في حين أن سقوط حكومة دمشق يمثل بالتأكيد نقطة اشتعال جيلية للمنطقة - والتي من شأنها أن تعيد تشكيل غرب آسيا بطرق لا يمكن التنبؤ بها وربما غير مسبوقة - فإن الأزمة نفسها بعيدة كل البعد عن النهاية. 

في الواقع، مع دخول سوريا مرحلة جديدة، يجب على الجهات الفاعلة الدولية أن تتخلى عن التنافسات الجيوسياسية والرؤى الكبرى لبناء الدولة الدقيقة وتسمح للشعب السوري بقيادة الطريق. يجب أن يكون إحياء البلاد جهدا مملوكا سوريا ويقوده السوريون بدلا من تمديد السياسات غير المفيدة التي أطالت أمد القتال.

لا تزال هناك العديد من الأسئلة. فالقتال لا يزال مستمرا في الشمال بين الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة. واندلعت احتجاجات كبيرة ضد قوات سوريا الديمقراطية وذراعها الإدارية، الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

ولا تزال الشائعات مستمرة حول عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الشرقية في سوريا.

إن هذا لا يقول شيئا عن طوفان الجماعات المسلحة التي تجوب دمشق والبلاد. وهذه الجماعات لا تخضع لنفس الهياكل القيادية ولا تحمل نفس التحالفات. وتشكل الميليشيات الجنوبية من درعا والسويداء الجبهة الجنوبية القديمة، وتشكل هيئة تحرير الشام جبهة شمالية إسلامية براغماتية، وتشكل مجموعات الجيش الوطني السوري المتعددة الولاءات عرقية وجغرافية مختلفة في جميع أنحاء البلاد إلى جانب معاقلها الشمالية. 

هذا الوضع ليس متقلبا للغاية فحسب - بل إنه غير مستدام. إذ يمكن للمصالح المتنافسة المتعددة التي توحدت في قتالها ضد الأسد أن تتحول بسرعة إلى منافسة على موارد الدولة والسلطة. لقد أصبح هذا الواقع المؤسف يحدد الكثير من الأزمة السورية وإخفاقات المعارضة في الماضي. وقد لعبت السياسة القديمة دورا سلبيا في النسيج الاجتماعي لعقود من الزمن. ولا يمكن لسوريا أن تتقدم ما لم يعالج شعبها هذا الواقع بشكل مباشر.

إن التعاون بين أصحاب المصلحة المتعددين على المستويين الإقليمي والدولي سيكون حاسما. وأي جهود لإحياء الدولة السورية لابد أن يحظى بقبول واسع النطاق على هذه المستويات أيضا ــ بما في ذلك المعسكرات المؤيدة والمعارضة للأسد. ومن المرجح أن يتطلب هذا تنازلات غير مستساغة ولكنها ضرورية، بالنظر إلى الظروف كما هي وليس كما نتمنى أن تكون.

في نهاية المطاف، لكي تنجح أي عملية حكم جديدة، فإنها تتطلب موافقة شعبها. وإذا رأى هؤلاء الناس أن الحكومة الفاشلة التي يديرها طاقم متنوع من أمراء الحرب السابقين تفشل في تحسين حياتهم، فإن القوى المضادة للثورة سوف تنجح.

 

نبوءة جيرينوفسكي

 

كتبت أولغا أوستروفسكايا، في "كومسومولسكايا برافدا":

قد تبدو الاضطرابات في الشرق الأوسط وسقوط النظام السوري سريعة للغاية وغير متوقعة. لكن فلاديمير فولفوفيتش جيرينوفسكي رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي تنبأ بكل هذا منذ زمن طويل.

كان جيرينوفسكي على يقين من أن الولايات المتحدة ستخلق الفوضى في الشرق الأوسط. فبحسبه، هدفهم هو إزالة سوريا كدولة من أجل السماح للغاز العربي، وخاصة من قطر، بدخول البحر الأبيض المتوسط. بحيث يتدفق عبر خطوط أنابيب الغاز التركية إلى أوروبا، وتستهلك أوروبا كمية أقل من الغاز الروسي. هذا ما قاله جيرينوفسكي من 11 عاما، ووصف هدف واشنطن الثاني بأنه "إعادة صياغة" الشرق الأوسط. "إسرائيل لم تكن خائفة من سوريا، لكنها تحتاج إلى تحالف لضرب إيران. لكن كيف تضرب إيران؟ في نهاية المطاف، لا يمكن إرسال مقاتلي داعش إلى هناك، كما أمكن إرسالهم إلى سوريا. وهكذا تتم الإطاحة بنظام الأسد وتظهر الأسباب لضرب إيران، الهدف التالي بالنسبة للولايات المتحدة خلق فوضى مسيطر عليها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وبالتالي يسيطرون على النفط والغاز. كل شيء من أجل حل المشكلة الرئيسية، وهي إنقاذ الاقتصاد الأمريكي والدولار الأمريكي".

ومن المثير للاهتمام أن جيرينوفسكي لم يكن أول من فكر في كيفية قيام الولايات المتحدة بتمزيق الشرق الأوسط. ففي العام 2008، حدق الزعيم الليبي معمر القذافي، أثناء حديثه في قمة جامعة الدول العربية في سوريا، في عيون الأسد وتوقع سقوطه.

والتقطت الكاميرا وجوه الرؤساء وهم يستمعون إلى خطاب الزعيم الليبي. تبتسم الرئيس المصري حسني مبارك، بخبث، وقد تمت الإطاحة به بعد ثلاث سنوات، في العام 2011، وبشار الأسد الضاحك استمر 16 عاما أخرى".

 

إرباك توازن القوى 

 

نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية بتاريخ 10 ديسمبر مقالاللكاتبين ناتاشا هول وجوست هيلترمان، يتحدثان فيه عن سقوط النظام السوري، أسبابه، وتداعياته، والمشهد التالي المحتمل جاء فيه:

كان للتسلسل المذهل للأحداث الذي سمح لـ"هيئة تحرير الشام" بإسقاط النظام السوري أسباب عديدة، بما في ذلك الحرب على لبنان، وانهيار المحادثات بين أنقرة ودمشق، والجيش السوري الذي يعاني من ضعف الأجور وانخفاض الروح المعنوية، وانشغال روسيا بالحرب المكلفة في أوكرانيا. وفي سباقهم نحو دمشق، نجح المتمردون في جلب حرب أهلية دولية للغاية، على الأقل في الوقت الحالي، إلى نهاية إيجابية. 

يمثل استيلاء المتمردين على البلاد تحولا تكتونيا في الشرق الأوسط يترك القوى الإقليمية والدولية الكبرى غير متأكدة من كيفية الرد. فقبل بضعة أسابيع فقط، كانت إدارة بايدن تعمل مع الإمارات العربية المتحدة لرفع العقوبات المفروضة على سوريا مقابل إبعاد الأسد نفسه عن إيران ومنع شحنات الأسلحة لحزب الله، وفقا لمصادر متعددة تحدثت إلى "رويترز". 

ولكن سقوط الأسد يظهر أيضا مدى ترابط الصراعات المختلفة في المنطقة، وبطرق لا يمكن التنبؤ بها، وما يمكن أن يحدث عندما يتم إهمالها أو تطبيعها. لقد تقاسم الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والحرب الأهلية السورية هذا المصير. أدى اندلاع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي المفاجئ مع هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 إلى حرب "إسرائيل" على غزة، وحملة اليمنيين في البحر الأحمر، وحرب "إسرائيل" في لبنان، ووابل من الهجمات بين إيران و"إسرائيل". في سوريا، أنهى هذا الزلزال الأخير النظام القائم. وفي كلتا الحالتين، تظهر الاضطرابات السريعة التي لم يكن أي طرف خارجي مستعدا لها حماقة تجنب الصراعات المطولة في الشرق الأوسط للحفاظ على الوضع الراهن الذي لا يطاق. وعلى الرغم من أن العديد من الأسئلة لا تزال قائمة حول الكيفية التي ستحاول بها "هيئة تحرير الشام" إدارة البلاد، وما إذا كانت ستتمكن من التعامل مع المجموعات المختلفة المتنافسة على النفوذ، فإن نهاية الأسد تبدو مؤكدة لتحويل توازن القوى في المنطقة.

إن حملة "هيئة تحرير الشام" ضد الأسد ترجع بجذورها إلى الحرب السورية التي بدأت في عام 2011 ولم تنته حقا. وسرعان ما تحول هذا إلى صراع دولي إذ أرسلت القوى الخارجية، إيران ودول الخليج وروسيا وتركيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص، الأسلحة والأموال إلى الجماعات المسلحة المفضلة لديها.

كان للصراع تداعيات دولية بعيدة المدى. فقد أدى وصول أكثر من مليون لاجئ سوري إلى أوروبا في عام 2015 إلى تسريع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في العديد من البلدان الأوروبية، ما دفع الحكومات الأوروبية إلى تعزيز علاقاتها مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والرئيس التونسي قيس سعيد لوقف تدفق اللاجئين.

ورغم أن التحالف المتنامي بين روسيا والصين يعود في كثير من الأحيان إلى بداية حربها على أوكرانيا في عام 2022، فإن العلاقات الوثيقة بين البلدين بدأت في الواقع مع الحرب السورية، عندما بدأت بكين في التصويت بالتوازي مع الكرملين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مستخدمة حق النقض أكثر من أي وقت مضى. ورغم أن دور الصين في سوريا كان ضئيلا، فإن تصويتها وخطابها الداعم للنظام السوري كان وسيلة للرد على الهيمنة الأمريكية، وبالتالي المساعدة في توحيد بكين مع الكرملين في ما سيصبح لاحقا شراكة "بلا حدود".

في غضون ذلك، تطورت "هيئة تحرير الشام" من مكانتها كفرع سوري لتنظيم "القاعدة" إلى جماعة إسلامية تنبذ الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وتركز قتالها على نظام الأسد. وفي انتظار الوقت المناسب، عقدت تحالفات مع مجموعات أخرى، وخففت من رسالتها، وحصلت على الحماية من تركيا، وأنشأت حكومة مدنية في منطقة سيطرتها في إدلب، حتى مع حكمها بقبضة من حديد. وخلال تلك السنوات، لم يغفل المتمردون عن هدفهم الشامل: عزل الأسد. ثم في مطلع نوفمبر، انهارت المفاوضات بين دمشق وأنقرة، برفض الأسد طلبات أنقرة وهو الحدث الذي ربما دفع حكومة إردوغان إلى عدم الوقوف في طريق "هيئة تحرير الشام" عندما قررت الخروج من إدلب بعد بضعة أسابيع.

وفي النهاية، لم يثبت أي سوري تقريبا استعداده للتضحية بأي شيء آخر من أجل هذا النظام، أو ببساطة لم يستطع. ولعل الأهم من ذلك أن "هيئة تحرير الشام" كانت تتوقع أن قوات الجيش السوري التي تعاني من ضعف التدريب وقلة الأجر وضعف الروح المعنوية لن تبدي أكثر من مقاومة رمزية. وتبين أنّها كانت على حق. فقد اختفت القوات السورية في معظمها. وبعد أن شاهد سكان درعا والسويداء في الجنوب التقدم السريع الذي أحرزته "هيئة تحرير الشام"، انتفضوا بسرعة وطردوا النظام من مناطقهم من تلقاء أنفسهم.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للصدمة كان إنهيار الدعم الدولي للأسد. ففي السادس من ديسمبر، استدعت روسيا قواتها ودبلوماسييها وبدأت في الانسحاب من قواعدها. ومع تضاؤل الخيارات، سحبت إيران أيضا قواتها، مدركة أن القتال من أجل الأسد سيكون بلا جدوى. وفي الشرق، أبرمت "قوات سوريا الديمقراطية" التي يهيمن عليها الكرد والمجالس العسكرية التي يقودها العرب صفقات مع قوات النظام للاستيلاء على المناطق التي يسيطر عليها النظام في دير الزور، والأهم من ذلك، معبر البوكمال مع العراق، وقطع خطوط إمداد النظام من إيران والعراق. ومع اقتراب المتمردين من دمشق، انسحبت القوات الروسية والإيرانية وقوات النظام المتبقية أيضا من مواقعها في مختلف أنحاء الشمال الشرقي.

 

مستقبل مليء بالشكوك

 

إن مستقبل سوريا والمنطقة مليء بالشكوك. وفي الوقت الحالي، اكتسبت تركيا اليد العليا في النتيجة الحالية، وتكبدت روسيا، في تراجعها المتسرع، خسارة مدمرة. ولكن، يبدو أن إيران هي الخاسر الأكبر، بعد أن انهارت إستراتيجيتها "الدفاعية الأمامية"، وأصبحت طهران نفسها الآن عرضة بشكل خطير لهجوم إسرائيلي محتمل على برنامجها النووي.

وفي خضم هذا التوازن المتغير بسرعة بين القوى الخارجية، سيواجه السوريون معركة صعبة لتقاسم السلطة في الداخل. فـ"هيئة تحرير الشام" هي جماعة إرهابية صنفتها الولايات المتحدة، ولا تحظى بشعبية كبيرة في موطنها الأصلي إدلب. وحتى الآن، كان زعيمها أبو محمد الجولاني حريصا على اتخاذ موقف تصالحي، ليس فقط مع الأقليات العديدة في سوريا، بل وأيضا مع مسؤولي النظام السابق. والسؤال حول ما إذا كانت هذه النبرة ستبقى وما إذا كانت الجماعات المتمردة الأخرى وفصائل المعارضة ستحذو حذوه هو سؤال آخر. ومع عودة المزيد من السوريين إلى البلاد، بمن فيهم  زعماء المعارضة المختلفين، ستكون هناك توترات حتمية. وقد يجد العديد من الناس منازلهم منهوبة أو أن أسرا جديدة تعيش فيها. وقد تتصادم الجماعات المسلحة داخل سوريا والمعارضة المنفية من أجل السلطة.

كان الهجوم الذي شنه المتمردون ممكنا، جزئيا، بسبب ديناميكيات خارج حدود سوريا، بما في ذلك الحرب على لبنان، وتدهور العلاقات بين أنقرة ودمشق. وعلى العكس من ذلك، فإن زوال الأسد سوف يسبب موجات صدمة تتجاوز سوريا بكثير. 

والآن، أصبحت سوريا على وشك أن تصبح دولة فاشلة. وإلى جانب إرث سنوات من العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية، لا يمكن تجاهل احتمال اندلاع حرب أهلية جديدة والمزيد من عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.

 

واشنطن تتمسك بدعم "قسد"

 

نشرت صحيفة الأخبار اللبنانية أنه في حديث إلى صحيفة "وول ستريت جورنال"، طالب قائد "قوات سوريا الديموقراطية"، مظلوم عبدي، بـ"إدارة لا مركزية" للمناطق السورية، "تتيح لجميع المناطق إدارة شؤونها بما يحقق العدالة والمساواة"، على حد تعبيره، معتبرا أنه "لا حاجة إلى وجود قوة مركزية لحكم البلاد"، ومطالبا الولايات المتحدة بتقديم مزيد من الدعم السياسي، بل العسكري حتى، للمساعدة في تحقيق طموحاته "التقسيمية". وعلى ما يبدو، ينسحب هذا الرأي على عدد من المراقبين الغربيين، الذين بدأوا يدعون الولايات المتحدة، علنا، إلى "تقويض" الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، كي يكون لواشنطن نفوذ وازن في "اليوم التالي" من الحكم في سوريا، فيما يبقى مصير الاستقرار من عدمه، رهن خطوات واشنطن التالية، وما إذا كانت "ستستجيب" بقوة لمطالب التقسيم والفوضى، مما سيرفع من حدة "المواجهة" مع تركيا على الساحة السورية. ويدعو ساسة يمينيون واشنطن إلى زيادة الدعم لقوات "قسد" وخلق "مأزق" لـ"الجيش الوطني السوري" و"الهيئة".

وفي حديثه إلى الصحيفة الأمريكية، أعرب عبدي عن "قلقه" من زيارة رئيس المخابرات التركية، إبراهيم فيدان، على رأس وفد تركي، إلى دمشق، لافتا إلى أن الأتراك "سيحاولون دفع السلطات الجديدة إلى خدمة مصالحهم في سوريا، والتي من الواضح أنها (ضدنا)"، مطالبا واشنطن بممارسة مزيد من الضغوط السياسية لوقف الهجمات التي تتعرض لها قواته على يد الفصائل الموالية لتركيا شمالي سوري، مؤكدا أن "الضغوط الحالية غير كافية". ومن جملة المطالب الأخرى التي عبر عنها عبدي: التدخل الأمريكي "لدعم إدراج الحكم الذاتي ضمن العملية السياسية السورية"، معتبرا أن ذلك يشكل "جزءا حيويا من أي حل سياسي مستدام"، و"أهمية الحفاظ على الوجود الأمريكي للاستقرار وحماية شعبنا". وعلى الضفة نفسها، حذر عبدي من تداعيات وجود فراغ في السلطة في سوريا، "قد يشجع المقاتلين المدعومين من تركيا على شن هجمات تستهدف (قوات سوريا الديمقراطية)"، وتجبرها على وقف عملياتها ضد "داعش"، ما يشكل تهديدا أمنيا "ليس فقط لسوريا ولكن للمنطقة ككل"، معربا عن رغبته "في إرسال وفد إلى دمشق لبحث موقع (قسد) في سوريا الجديدة".

وفي إشارة واضحة إلى التباين التركي – الأمريكي في هذا الصدد، كان وزير الخارجية، هاكان فيدان، قد أبلغ، بداية ديسمبر، نظيره الأمريكي، أنتوني بلينكن، في مكالمة هاتفية، أن "تركيا لن تسمح أبدا للجماعات الإرهابية بالاستفادة من الوضع في سوريا"، مشددا على أهمية "وحدة أراضي سوريا ووحدتها السياسية". ومن جهته، كتب جونول تول، مدير "البرنامج التركي" في معهد "الشرق الأوسط"، في تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، أنه مع احتمال تشكيل حكومة صديقة لأنقرة في دمشق، قد يفتح رحيل الأسد النافذة أمام مغادرة القوات الأمريكية المتبقية في سوريا، وبالتالي تحقيق الهدف الذي طال انتظاره لتركيا، لافتا إلى أنه في حال نجحت الأخيرة في "تجنب المخاطر المحتملة المقبلة"، قد تصبح هي الفائز الواضح في الحرب السورية. ويتابع أنه في حال عدم التوصل إلى حل لمشكلة الأكراد، فإن ذلك سيؤدي إلى عدم استقرار في سوريا، قد يمتد إلى تركيا نفسها، محذرا من أنه إذا "فشل المتمردون في تكريس حقوق متساوية لجميع السوريين في القانون والممارسة، فقد لا تبدو سوريا الجديدة مختلفة عن تلك القديمة، وهي نتيجة لن تكون جيدة بالنسبة إلى أنقرة"، بما في ذلك لناحية عودة اللاجئين السوريين.

 

دعم قسد

 

تزامناً مع ذلك، يتبنى مراقبون وجهة نظر أكثر "تطرفا" في ما يتعلق بالطريقة التي يجب أن تتعامل بها واشنطن مع السلطة القادمة في دمشق، إذ يدعون إلى زيادة الدعم لقوات "قسد" وخلق "مأزق" لـ"الجيش الوطني السوري" و"هيئة تحرير الشام" المدعومين من تركيا. وفي هذا السياق، جاء في تقرير أودره "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، أنه "في هذه اللحظة الهشة، يجب على المسؤولين الأمريكيين إعادة تقييم احتياجات (قوات سوريا الديمقراطية)، لضمان حصولها على الدعم المطلوب لمواصلة مهمتها ضد (داعش)، بما يشمل، حاليا، الدفاع عن عدد من مرافق الاحتجاز الشمالية الشرقية التي تضم الآلاف من أعضاء (داعش) وأنصارها". وتستلزم المهمة المشار إليها، أيضا، إبقاء ميليشيات "الجيش الوطني" في مأزق، وضمان استعداد "قسد"، لـ"مواجهة أي هجوم متجدد لـ(تحرير الشام)، في حال قرر الجهاديون التوغل في شمال شرقي البلاد".

وإذ يلفت أصحاب هذا الرأي إلى أن "قسد" نجحت، من جهة، في الاستفادة من انهيار النظام والخلل في "التوازن" جراء تراجع الوجود الإيراني والروسي، فهم يحذرون من "تبدد ردع (قسد) ضد الجيش الوطني"، تزامناً مع بروز "تحرير الشام" كمنافس "جدي وقوي". وعليه، ورغم التنافس بينهما، قد يختار الطرفان المشار إليهما "التعاون بهدوء"، أو على الأقل "البقاء بعيدا عن طريق بعضهما البعض"، علما أن "الجيش الوطني" هو وكيل تركي، بينما "الهيئة" هي "جماعة جهادية مستقلة" استفادت من الدعم التركي، بحسب التقرير. وعلى ضوء ما تقدم، ستحتاج واشنطن إلى مساعدة المجموعة في وقف تقدم "الجيش الوطني"، وردع "الهيئة"، مع الاستمرار في "تحدي داعش"، لا سيما أنه سبق لواشنطن أن فرضت عقوبات على عدد من أعضاء "الجيش الوطني"، وأن الأخير وتركيا "لم يؤديا دورا رئيسيا في مكافحة (داعش)".

وكرد فعل أولي على التطورات الميدانية الأخيرة، ينصح أصحاب هذا الرأي إدارة جو بايدن بأن توضح لتركيا، في السر والعلن، أن المزيد من "هجمات الجيش الوطني" غير مقبولة، وأنها ستقدم الدعم الجوي لـ"قسد" للتصدي لتلك الهجمات، على أن تكون الرسائل المذكورة مقرونة بتوسيع "تحليق المقاتلات الأمريكية فوق المناطق المعنية". كما يتعين على واشنطن النظر في فرض عقوبات إضافية على قادة "الجيش الوطني"، ونقل القوات الأمريكية إلى الخطوط الأمامية في الرقة وكوباني، وتوسيع الدوريات المشتركة مع "قسد". وفي الوقت نفسه، يجب على الإدارة أن تراقب "تحرير الشام"، التي يمكن أن تحاول الاستيلاء على "ممتلكات (قسد)"، إذا شعرت الأخيرة بالضعف.

وتشمل التوصيات الأخرى معارضة جهود "تحرير الشام" للتوسع في الأراضي التي تسيطر عليها "قسد"، والتأكيد أنّ الولايات المتحدة "ستدعم بحزم قوات سوريا الديمقراطية في حالة وقوع هجوم كبير"، جنبا إلى جنب استمرار الضربات الأمريكية ضد "داعش"، والذي سيتطلب الحفاظ على الوجود الأمريكي العسكري في سوريا، بالإضافة إلى ضمان "استعداد قوات (قسد) للتصدي للتهديدات الجهادية المحتملة".

 

عمر نجيب

[email protected]