في الستينيات من القرن الماضي على ما أتذكر نُشرتْ مقولة على لسان “موشي دايان” مضمونها أن العرب لا يقرأون.
وانزعج بعضنا من المقولة وسخر البعض الآخر، وهزّ كثيرون أكتافهم وكأن الأمر لا يعنيهم، لكن حسرة العجز والقهر أصابت أمثالَنا ممن يسهرون الليالي في تسويد الصفحات التي تدعو إلى اليقظة وتنادي بالحذر وتشدد على ضرورة إخضاع كل شيئ للمراجعة التحليلية وللنقد الذاتي.
وكنت قلت في الحديث الأسبق أنه ((كان على حزب الله أن يحدد اللحظة المناسبة التي يضع فيها كل ثقله لتشتيت فعالية العدوّ الصهيوني، ولم أكن أتخيل أن ضعف الحاسة الأمنية سوف يمكن العدو الصهيوني من القيام بعملية ليس فيها من العبقرية إلا استغلال نقطة الضعف في الجانب العربي، تماما كما حدث في هزيمة 1967، والتي كان أسوأ ما فيها أنها كان يمكن أن تكون انتصارا عربيا صاعقا لو كانت قيادة القوات المسلحة ومخابراتها آنذاك تجسد على أرض الواقع كلمات المشير عامر للرئيس ناصر…”برقبتي يا ريّسْ”. كانت هزيمة يونيو في مصر في تصوري خللا مخابراتيا داخليا لا يتحمل رجال القوات المسلحة المصرية ولا الشعب المصري مسؤوليته، مثل ما هي ضربة اليوم في لبنان، التي كانت أيضا خللا أمنيا لا يتحمل جنود حزب الله تبعاته)).
وبعيدا عن الشماتة والتشفي الذي برع فيه أشباه القواعد من النساء فإن الواقع هو أن مضمون تلك السطور يجسد الفرق الجوهري بين ما تسير إسرائيل على هداه وتتصرف على ضوئه وبين ما نمارسه نحن منذ عقود وعقود.
كان الرئيس الفرنسي شارل دوغول يخصص للقراءة يومين في الأسبوع بعد الظهيرة، وهو ما يذكرني بالرئيس هواري بو مدين الذي كان يهاتفني أحيانا في ساعة متأخرة ليسألني عن فقرة معينة في نص كان ساهرا يقرؤه.
لكن ما عرفته بعد ذلك عن بعض المسؤولين السامين كان صادما، وأتذكر أنني كنت منذ سنوات قليلة في زيارة أحد الرفاق، وجدت عنده مسؤلا ساميا قال لي إنه التقى رئيس الجمهورية منذ أيام ووجد على مكتبه كتابيَ الأخير.
وبتصرف أخوي أو بروتوكولي قلت له إنني على استعداد لأرسل له نسخة من الكتاب، فكان جوابه العبقري: وهل تظن أن عندي وقت كافٍ للقراءة ؟.
واكتشفت أن الأغلبية الساحقة من المسؤولين في هذا الزمان ممن يحاولون متابعة الكتب أو المقالات الصحفية أصبحوا يعتمدون كليةً على ملخصات يُعدّها أحد المساعدين، والذي قد يلجأ هو نفسه إلى مساعد له يخفف عنه عبء إعداد الملخص الذي يطلبه المسؤول الكبير.
ولأن المساعد يوصي غالبا مساعده الأدنى بالاختصار الشديد لتفادي إزعاج المسؤول الأعلى يضيع مضمون الجهد الذي بذله الكاتب في التنبيه أو التحذير أو التحسيس ( أقصد LA SENSIBILISTION بالنسبة لقضية معينة، وعلى من يجد ترجمة أفضل أن يرشدني لها).
أعود هنا إلى القضية الجوهرية التي تشغل الساحة الوطنية، لأقول بأن الكيان الصهيوني حرص دائما على دراسة نتائج وتداعيات كل الصراعات التي كان يخوضها ضد الوطن العربي، ومن هنا قلت يوما بأن (ما عشناه في الأسبوع الأسود من يونيو 1967 هو استمرار ذكي للعدوان الذي وقع في عام 1956، كما كان استلهاما حيا للدروس التي أدت إلى فشل عملية ” الهاميلكار “، التي لم تحقق أهدافها الرئيسية بل وذهبت بحكم المحافظين البريطانيين وهيبته، وتسببت، بجانب ثورة الجزائر، في انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة.
وبرغم الثمن الضخم الذي دفعه الشعب العربي في مصر فإن الأمة العربية خرجت من المعركة، بعد فشل عدوان 1956 في تحقيق أهدافه، بانتصار روحي وسياسي ظل طوال سنوات وسنوات مخدرا لذيذا عشنا في ضبابه نغنى أهازيج الانتصار على الدول الكبرى.
ونسينا أن أشرس الوحوش .. اللبوءة الجريحة.
إنها تعد العدة للانتقام، وتضع الأخطاء التي أدت إلى إجهاض نتائج العدوان الثلاثي على مائدة البحث الدقيق.
وهكذا أخذ جنين الانتقام ينمو في أحشاء العدوّ.. ويتغذى من خلاصة تجربة 1956 .. وتعَدّ له كل الوسائل التي تجعل منه وحشا دموي الرغبات .. يضرب بغدر .. وبنذالة.
وكان عنصر القوة الأول هو اليهودي نفسه .. الذي يقف وظهره إلى البحر، ويدرك أن القضية بالنسبة له أما قضاء مبرما على كل المكاسب التي انتزعها بعد طول تشريد وإما مضاعفة لهذه المكاسب وتثبيتا لوجوده وحماية لأمنه وسلامته.
هو جيل الصهاينة الذين لم يعرفوا لهم أرضا غير هذه الأرض .. وُلدوا فيها وترعرعوا ورضعوا أسطورة أرض الميعاد، وتنفسوا الحقد والكره والاحتقار للشعوب العربية المحيطة بهم، وفَرضت عليهم قيادة ذكية جدار اللغة العبرية يوحد صفوفهم ويعزلهم عن كل الأفكار التي قد تهدد معنوياتهم أو تشككهم فيما يؤمنون به.
وهكذا رُبط اليهودي التائه بالأرض، وربما لأول مرة في التاريخ.
بالإضافة إلى ذلك كان هناك يهود يمسكون بمفاتيح بيوت المال في العالم كله، ويسيطرون على معظم الاحتكارات الرأسمالية، ويوجهون سياسة الدول التي تملك التأثير على موازين القوى في المعسكرات السياسية المختلفة، إلى جانب سيطرتهم على أجهزة الإعلام الرئيسية في الغرب كله.
أما نحن، فلم نستطع فهم حقيقة الأمة العربية كما كان يجب أن نفهمها .. بعيدا عن التهريج الإعلامي والألاعيب السياسية والمطامح الشخصية والنعرات الحزبية والطائفية، ولم نستطع أن ندرك أننا أقلية في هذا العالم فلم نفكر بعقلية الأقلية التي لا تجد نصيرا وقت الشدة باتجاهها للوحدة .. بترابطها المتين، بتكوينها الأخطبوطي، باستغلالها لثرواتها الطبيعية، وللأوراق الرابحة التي حبتها بها الطبيعة، وسمحنا لتفوقنا العددي على سكان إسرائيل بخديعتنا، متناسين أن إسرائيل ما هي إلا مجرد قاعدة للعدوان ولكنها ليست وحدها مصدره وقوته الدافعة.
وهكذا وبينما كانت القضية من الجانب الإسرائيلي قضية عسكرية علمية، كانت في الجانب العربي صراعا بين عسكرية استعراضية، واستعراضات ديماغوجية، بجانب اعتبارات دولية سياسية حرص الاستعمار على شلنا بها ليعطي العدو فرصة المباغتة).
نسيت أن أقول أنني كتبت هذا في مجلة الجيش الجزائرية في يونيو 1967، ولا أعرف كم قارئا في مستوى المسؤولية قرأ هذه السطور.
و”رأي اليوم” فيما نشَرتْه أمس، نقلا عن صحف إسرائيلية، كانت تحاول، مرة أخرى، التنبيه والتحذير، وهكذا قالت الجريدة المناضلة التي لا تعترف بأغنية محمد عبد الوهاب: “ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال”:
( بدأ الموساد التخطيط للحملة ضد حزب الله منذ أكثر من عقد من الزمن. حيث درسوا نقاط قوة الحزب وضعفه، مع تنفيذ سلسلة من العمليات الاستخباراتية في الميدان.
كما كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن التخطيط لاغتيال نصر الله بدأ قبل سنوات، وأن ثلاث وحدات استخباراتية أشرفت على العملية.
ووفق الصحيفة فإن “القضاء على كبار قادة حزب الله ونصر الله على رأسهم، لم يكن من الممكن تنفيذه بدون معلومات استخباراتية دقيقة عن المجمع الموجود تحت الأرض وتحركات أعضاء الحزب بداخله، كما تضمنت المعلومات حسابات دقيقة بتوقيت ومدى القوة التدميرية اللازمة لاختراق التحصينات التي ستقضي على نصر الله ومسؤوليه”.
وحتى بعد الغارة التي استهدفت نصر الله وعدد من قادة حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، واصل الموساد جمع المعلومات لتقييم نتائج الضربة ومدى دقتها.
وتضيف صحف العدوّ أن كل ما نشهده في لبنان، بدءا من يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، هو نتيجة عملية استخباراتية استمرت لسنوات).
وقبل أن يسارع مواطن صالح إلى كيل الاتهامات لأخيكم أكتفي بالتذكير أن كل ذلك العمل المخابراتي المكثف لم ينجح في استباق طوفان الأقصى العظيم، لأن الرجال كانوا…رجالا..
وهذا يجعلني أذكر بأمرٍ آخر.
فبجانب النشاط الاستخباراتي للكيان الصهيوني ومن يدعمونه والذي تتعرض له كل المنطقة كان هناك، وما زال، اختراق واسع للساحة العربية، استهدف تلويث الفكر العربي والإسلامي وتفتيت الإرادة الوطنية للأمة وتشتيت اهتماماتها وتدمير الانتماء القومي للجماهير، عبر عمليات قام بها، بوعي أو بدون وعي، وبتعمد فكري منحرف أو بتسابق إلي منابر الشهرة، بعض من ينتسبون إلى الدعوة الدينية أو النشاط السينيمائي أو التمثيل المسرحي أو العمل الإعلامي أو التوجهات الحزبية، لا فرق بين يمين ويسار ولا بين مسلم ومسيحي ولا بين “ظلامي” وحداثي”، فكلهم في واقع الأمر كانوا وما زالوا طابورا خامسا يعمل في خدمة أهداف من يريدون لنا وضعية السبايا والأقنان.
وهنا ندرك أهمية وقفة النقد الذاتي التي ينادي بها كل مثقف عربي يحاول أن يقوم بدوره الوطني في الدفاع عن الأرض وعن العِرض.
وهذا كله هو ما يجب أن نتوقف أمامه اليوم بعد اغتيال الشهيد حسن نصر الله ورفاقه، وأن نتذكر أن الكيان الصهيوني اغتال برنادوت في القدس وأبو جهاد في تونس والمبحوح في دبي والهمشري في باريس ووائل زعيتر في روما وفتحي الشقاقي في مالطا، وقائمة طويلة ضمت حتى عالمة الذرة المصرية سميرة موسى في أمريكا والمناضل الجزائري بو دية في باريس وجمال حمدان في مصر، وبدون التذكير بقياداتٍ عربية ما زالت الشكوك في أسباب وفاتها تتردد في الأذهان.
إنها عصابة أشرار تقود دولة الإرهاب الأولى في العالم، وهو كيان مصطنع فاجر يتفاخر بأن يده تطال أي مكان، يستفيد من دعم حربي وسياسي واستخباراتي يضمنه له من انتزع وجوده من أبناء الأرض الأصليين بنفس الطريقة، ويمارس نفس الأسلوب في التخلص من خصومه، ويعتمد ابتزاز أتباعه والأنصار.
كيان وجد أشقاء أشقياء يزودونه بالغذاء والمحروقات، وعملاء يتسترون إعلاميا على جرائمه، وجبناء يدّعون التعقل والاعتدال ليبرروا النفاق والدياثة.
ولآ أستطيع الآن إلا أن أقول: حما الله السنوار ورفاقه وعزز أمنهم، ولا قرت أعين الجبناء.
الدكتور محيي الدين عميمور مفكر ووزير اعلام جزائري سابق