كثرة الأحاديث هذه الأيّام حول احتماليّة نقضْ القيادة الثوريّة الإيرانيّة المُمثّلة بالسيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى لفَتواها بتحريم إنتاج الأسلحة النوويّة يُوحي بأنّ هذا “النّقض” أو الإلغاء قد اقترب أكثر من أيّ وقتٍ مضَى، إن لم تكن هُناك فتوى مُضادّة قد صدرت فِعلًا، تمسَح الأولى، وربّما يتم ظُهورها إلى العلن في الأيّام والأشهر القليلة المُقبلة.
هُناك عدّة مُؤشّرات، وتصريحات، على ألسنة مسؤولين إيرانيين من الصّف الأوّل تُعزّز هذا الاحتِمال:
الأوّل: العُدوان الإسرائيلي الجوّي (بالمُسيّرات) الذي استهدف قاعدة جويّة إيرانيّة في مدينة أصفهان يوم 20 نيسان (إبريل) الماضي، قريبة من مُنشأة نطنز النوويّة الإيرانيّة كَرَدٍّ على هُجومٍ إيرانيٍّ كانَ الأوّل من نوعه، بالصّواريخ والمُسيّرات على قاعدتين جوّيّتين إسرائيليّتين في النّقب.
الثاني: “تشريع” السّيناتور الأمريكي الجُمهوري ليندسي غراهام المُقرّب جدًّا من البيت الأبيض ودولة الاحتِلال استخدام الأخيرة قنبلة نوويّة لتدمير قطاع غزة وإبادة مِليونين من أبنائه، أُسْوَةً بقصف بلاده لمدينتيّ هيروشيما وناغازاكي لإرهاب الشّعب الياباني للانتِصار ولإعلان دموي لنهاية الحرب العالميّة الثانية واصفًا ذلك (أي غراهام) بالقرار الصّائب.
ثالثًا: السّيناتور غراهام يعرف جيّدًا حجم قطاع غزة (150 ميلًا مُربّعًا)، مثلما يعرف أن استخدام القنابل النوويّة لقصفه تحت ذريعة بقاء الدّولة اليهوديّة سينقل الإشعاعات النوويّة إلى قلب دولة الاحتِلال أيضًا، ويُفني مِئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من مُستوطنيها، ولكنّه بمِثل هذه التّصريحات يقصد إيران على وجْهِ الخُصوص التي تقود محور المُقاومة، وتُشَكِّلُ بدعمها للمُقاومة الفِلسطينيّة تهديدًا وُجوديًّا فِعليًّا لدولة الاحتِلال التي لا تستطيع تَحَمُّلَ هذا النّزيف البشريّ والسياسيّ والاقتصاديّ من الخسائر.
رابعًا: تصريحات اثنين من المسؤولين الإيرانيين الكبار التي تُؤكّد أنّ فتوى تحريم إنتاج واستخدام الاسلحة النوويّة ليست “مُقدّسة” وأنها قابلة للتّغيير، الأوّل كان جواد كريمي قدوس النائب المُحافظ في البرلمان وعُضو المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي قال اليوم “إذا تمّ تغيير فتوى السيّد خامنئي سيتم إجراء أوّل تجربة نوويّة في غُضونِ أُسبوع”، أمّا الثّاني، فكان كمال خرازي رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجيّة الإيرانيّة في كلمةٍ قال فيها في مُؤتمرٍ سياسيّ “في حال تعرّض بلاده لتهديدٍ نوويٍّ من قِبَل إسرائيل فسَتُغيّر إيران عقيدتها النوويّة فورًا”.
خامسًا: تأكيد رافائيل ماريا غروسي مدير الطّاقة الذريّة الدوليّة “أن إيران لديها ما يكفي من اليورانيوم عالي التّخصيب لتصنيع عدّة قنابل نوويّة”.
سادسًا: امتلاك إيران صواريخ فرط صوت من نوع “فتاح 2” قادرة على حمل صواريخ نوويّة، ويصل مداها إلى 2000 كيلومتر، ولا نعتقد أن وجود هذه الصّواريخ للاستِعراض فقط وإنّما أحد أبرز معاول ترسانة الرّدع العسكريّة الإيرانيّة المُخصّصة لمُواجهة أي عُدوان نووي إسرائيلي، فإسرائيل هي الوحيدة في المِنطقة التي تملك رُؤوسًا نوويّة وتُهَدِّد دُولها وشُعوبها وقد حانَ الوقت لوضعِ حَدٍّ لهذا التّهديد.
***
إيران تملك حقًّا مشروعًا بتغيير عقيدتها النوويّة، وفي أسرعِ وقتٍ مُمكن في ظِل حالة الانهيار التي تعيشها دولة الاحتِلال حاليًّا بسبب حُروب محور المُقاومة التي تُحاصرها على أكثر من جبهة، الأمر الذي قد يدفعها إلى “الانتِحار” باللّجوء لاستِخدام أسلحة نوويّة في مُحاولةٍ يائسةٍ للحِفاظ على وجودها واستِمرارها، وتاريخ اليهود حافلٌ بالأمثلة في هذا المِضمار.
إطلاق إيران لأكثر من 360 صاروخًا ومُسيّرة وصلت أعداد كبيرة منها إلى العُمُق الإسرائيلي المُحتل أثناء هُجوم “الوعد الصّادق” رغم أنها صواريخ ومُسيّرات قديمة تحتلّ مكانةً مُتدنّية في سُلّم التّرسانة الإيرانيّة، غيّر المُعادلات على الأرض، وكانت هذه الصّواريخ والمُسيّرات بمثابةِ رسالةٍ تحذيريّة فقط لاختبار الرّدع الصّاروخيّ الإسرائيليّ والأمريكيّ، وجاءت النّتائج كارثيّة لدولة الاحتِلال وتأكيدًا على فشل القواعد الأمريكيّة والغربيّة التي كانت تُشَكّل “حائط الصَّد” في الأردن لحماية دولة الاحتلال، بدليل أنّ إسرائيل تخلّت عن عدم جدوى منظومات صواريخ “الباتريوت” الأُسطوريّة، وتأكّدت من الفشلِ الكامِل لمنظومة القبب الحديديّة، التي كلّفت عشَرات المِليارات من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين.
السيناتور غراهام عندما “يتعمّد” حثّ “إسرائيل” على قصف غزة بقنابلٍ نوويّة، وفي هذا التّوقيت، فإنّه لا يُمثّل نفسه، وإنّما الدّولة الأمريكيّة العميقة وحِلف النّاتو، ويعكس حالة من الإحباط والاعتراف بالهزيمة في جبَهات قطاع غزة وجنوب لبنان والعِراق واليمن، ولا ننْسَ إيران دولة المُواجهة على أيدي رجال المُقاومة.
تصريحات المسؤولين الإيرانيين حول تغيير فتوى “التّحريم النّووي” تعكس وعيًا إيرانيًّا، واستِعدادًا جدّيًّا لمُواجهة كُلّ الاحتِمالات، وعدم التردّد في الرّد السّريع وربّما النّووي إذا لَزِمَ الأمْر، في حال شنّت إسرائيل أي هُجوم بأسلحةٍ تقليديّةٍ أو نوويّة على بلادهم “القارّة”.
“إسرائيل”، وباختصارٍ شديد، خسرت، وتخسر كُل أدوات الرّدع التقليديّ أو النوويّ، أو حتّى الحرب المعنويّة والنفسيّة، وعندما يقول جواد كريمي قدوس إنّه إذا تم تغيير فتوى السيّد خامنئي النوويّة سيتم إجراء أوّل تجربة نوويّة في غُضونِ أُسبوع، فإنّ هذا يعني أنّ القنابل النوويّة جاهزة، ولم يَبْقَ إلّا الإعلان عن وجودها وجاهزيّتها بالاستِخدام العملي، أو التّجريب الإثباتي…. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان