لم يعرف الوطن العربي والعالم الإسلامي عملية تناقضت فيها وحولها الآراء كما حدث مع العقوبات الجوية التي وجهتها إيران للكيان الصهيوني انتقاما من الهجوم على القنصلية الإيرانية في سوريا.
ولقد كان المنطقي هو أن تقوم سوريا نفسها بالردّ، فالهجوم الصهيوني استهدف هيبتها كدولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة، وإذا صدقنا بأن الأجواء السورية هي في حماية قوات دفاع روسية، فشلت أكثر من مرة في القيام بواجبها الذي تدعي أنها جاءت من أجله، أمكننا القول بأن الكيان الصهيوني وجه صفعة مزدوجة لكل من روسيا وسوريا.
لكن، كما يقول أشقاؤنا المصريون، آدي الله وآدي حكمته.
والواضح أن الشارع العربي لا يعيش إجماعا في تقييمه للعملية الإيرانية، بل ارتفعت أصوات ساخرة تتغنى بعبارة “تمخض الجبل فولد فأرا”، وقرأنا لمن يقولون، بما يعبر عن عقدة نقص هي سمة “القواعد من النساء”، بأن ما حدث هو تمثيلية، لكنهم، ولمجرد أن يثبتوا لنا أنهم ليسو مجرد “ماريونت” وأنهم قادرون على التقدير السليم، لا يتساءلون: لماذا تدخلت أميركا وبريطانيا وفرنسا لحماية الكيان من الصواريخ والمسيرات؟ ولم يدركوا أنه لو لم تقم الدول العظمي، كالعادة، بدعم إسرائيل وتدمير الصواعق الإيرانية في سمائها لتغير الوضع تماما، ولماذا نفضت أمريكا يدها رسميا من أي دعم لتصعيد إسرائيلي ضد إيران.
من جهة أخرى يجب أن ندرك أن القضايا الكبرى لا تواجه بالمبالغة في الرضا عن النفس، بل تتطلب وقفة نقد ذاتي تسمح بتدارك العيوب وإصلاح الخلل.
وهنا يأتي الخطأ الأول الذي يعيب ما قامت به طهران.
ذلك أن أي عملية ضخمة من هذا النوع لا يكفي فيها حشد عدد من الخبراء العسكريين الذين يحتكرون العمل العسكري باعتباره تخصصهم الذي لا يحق لأحد أن ينازعهم فيه، ويتناسون دروس التاريخ التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص، حيث كان التخطيط للعمليات الكبرى يضم عسكريين وديبلوماسيين وسينيمائيين وإعلاميين بل وأطباء شرعيين (وأذكر بعملية “اللحم المفروم” البريطانية التي عرفت باسم”الرجل الذي لم يكن” (MINCEMEAT).
والخطأ الذي ارتكبته إيران يتلخص في أنها لم تدرك أن أي حرب لا تدعمها القوة الإعلامية هي حرب فاشلة حتى ولو حققت أكبر النجاحات، ولولا “هوليود” لما كان للحرب العالمية الصدى الهائل الذي ما زلنا نعيش آثاره حتى اليوم..
ولم يكن سرّا أن العالم الغربي كله، وبجانب حمايته لسماء الكيان الصهيوني، سخّر كل إمكانياته الإعلامية لتقزيم العملية الإيرانية والسخرية منها، وخصوصا بالتستر على حجم الخسائر الإسرائيلية، التي لم يكن أقلها شأنا حالة الفزع النفسي التي عاشها الكيان الصهيوني ليلة كاملة، ولعله ما زال..
ولن يقنعني من قد يقسم بألف يمين، وهو على غير وضوء، بأنه لم تحدث خسائر إسرائيلية على الإطلاق، وأعده بأننا سنكتشفها بعد عدة أشهر عندما يتقلص حجم الضغط المخابراتي الإسرائيلي على الساحة الإعلامية، وتنطلق الألسن لنبش خطايا “ناتنياهو” وسقطاته.
ومن المؤكد أن إيران كانت تدرك أنها لم تكن عاجزة إعلاميا فقط بل كانت تعرف أن خصومها، أوربيون وعربا ومستعربون ومتأسلمون ومطبّعون، يملكون أقوى الأجهزة الإعلامية الخبيرة في الكذب التكنولوجي المستند إلى أقلام تم تدجينها عبر السنوات الماضية، بحيث أصبحت أكثر صهيونية من كتاب معاريف وهآرتس ويديعوت أحرونوت، وجلّ هؤلاء إن لم يكن كلهم من ألسنة “الموساد”، وهم بالتالي “لا ينطقون عن الهوى”.
وهنا جاء التخطيط الإعلامي الإيراني الذي استعمل أسلوب المقامرة، فرأى أن يعلن بنفسه عن ضربته الانتقامية ليستغل الإعلام العالمي نفسه في الترويج لعمليته، وأتصور أن الخطأ الرئيسي هنا جاء في طول الفترة الزمنية بين الإعلان عن الضربة وعن تنفيذها.
ولعلي هنا لا أختلف كثيرا مع ما كتبه أستاذنا عبد الباري عطوان من أن “إبلاغ إيران الولايات المتحدة بموعد الهُجوم ربّما يكون دَليلُ ثقةٍ في النّفس، وانعدام الخوف من دولة الاحتِلال، أو من الولايات المتحدة حاميتها، التي تبرّأت سريعًا من المُشاركةِ في أيّ ردٍّ إسرائيليٍّ انتقاميٍّ من إيران، لأنّها لا تُريد السُّقوط في المَصيَدة الإسرائيليّة والانجِرار إلى حربٍ إقليميّةٍ مضمونةِ الخسارة في الشّرق الأوسط، في وقتٍ تتعاظم خسارتها في حربِ أوكرانيا، وتزايُد احتِمالات صِدامها مع الصين”.
وأنا لست خبيرا عسكريا، لكنني مجرد مثقف بسيط أرى أن اكتفاء إيران بالإعلان عن الضربة بمجرد بدئها كان سيخلق وضعية اضطراب إعلامي دولي، وعربي على وجه الخصوص، تتضارب فيه التساؤلات إلى حد التناقض، وهو ما سوف يتضاعف عند الإعلان عن انتهاء العملية، مقترنا بعبارة: وإن عُدْتُم عُدْنا.
كل هذا أخفى حقيقة تفقأ الأعين، وهي أن الكيان الصهيوني الذي يدعي دائما أنه قوة لا تقهر أثبت أنه كيان هزيل يعيش بنقل دم مستمر، كان أوربيا وأصبح اليوم أيضا عربيا وتركيا، وكان المضحك المبكي أننا لم ندرك أن إسرائيل ما كانت لتهاجم مصر في 1956 لو لم تستجب فرنسا وبريطانيا في “سِفْر” لإصرار “بن غوريون” على انتزاع وثيقة مكتوبة وموقعة من إيدن وغي موليه، يتعهدان فيها بأن يكون البلدان القوة الرئيسية الداعمة للغزو الهزلي الإسرائيلي، والذي تمكن من تجاوز ممرات “متلا” و”الجدي” و”الخاتمية” في سيناء، لمجرد أنه لم تكن هناك قوات مصرية تواجهه، بعد أن أمر عبد الناصر بالانسحاب الذي أنقذ به جيشه، عندما اكتشف هو نفسه، وليس مخابراته، بأن الطائرات المعادية التي حلقت فوق رأسه في الاسكندرية لم تكن من النوع الذي تملكه إسرائيل، بل كانت، على ما أتذكر، طائرات “كانبيرا” البريطانية.
ولن أتحدث عن هزيمة 1967 التي كان يمكن أن تكون نصرا ساحقا لو قامت المخابرات العربية بدورها، ولم تتهاون القيادة العسكرية المصرية في التعامل الجدي مع تحذير جمال عبد الناصر، حيث قوبل بعبارة ” برقبتي يا ريّسْ”، التي كانت تفوح منها الأدخنة الزرقاء، وكان يكفي أن تقنبل الطائرات السورية المطارات الإسرائيلية التي كانت بدون حماية فعالة إثر انطلاق الطائرات الإسرائيلية صباح 5 يونيو للهجوم على مصر، حيث ستضطر إلى النزول في البحر، لأن مدرجات المطارات قد دُمّرتْ.
باختصار شديد، تأكد اليوم ما كنا نردده منذ سنوات وسنوات من أن إسرائيل قاعدة متقدمة للإمبريالية الغربية، وتأكد أن زيارة الرئيس السادات للقدس كانت جزءا من عملية معقدة هي التي وصلت بنا اليوم إلى وضعية أصبحت فيها جُلّ القيادات العربية أكثر صهيونية من “بن غوريون”، وهذا هو الواقع الذي يتحتم علينا أن نواجهه كما واجه المسلمون هزيمة “أحد”، وكما واجه البريطانيون صواريخ “البليتز” ( The Blitz) وكما واجه الأمريكيون ضربة “بيرل هاربر”.
وأنا غير مقتنع بالأسلوب الذي لجأت له إيران، برغم أنها لم تقل أكثر من أنها انتقمت لضحايا قنصليتها، وبأن الرسالة الأساسية هي أنها أثبتت لإسرائيل ولمن يدعمها أنها قادرة على الوصول المدمّر للعمق الإسرائيلي، كل هذا بالاستناد إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وبدون أن تربط ما قامت به بمأساة غزة، وهو ما يسوف يؤكد فعاليته عجز الكيان الصهيوني عن القيام بأي رد فعل باستثناء الادعاء بأن الضغط الأوربي عليها قد نقص بفعل الهجوم الإيراني، وهو إدعاء لن يصمد طويلا، لأن إسرائيل عتمت على ما أصابها في الضربة الإيرانية، وهو ادعاء ستدفع ثمنه غاليا، فليس هناك عاقل، ولو كان أمريكيا، يجرؤ على أن يساوي بين عدة مُسيّرات لم تتلف شيئا، كما ادعت إسرائيل، وجريمة إبادة جماعية لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
وأتفق ثانية مع عبد الباري في أن تَعاطُف الرّأي العام العالمي مع أهل قطاع غزة بسبب حرب الإبادة الإسرائيليّة التي أدّت إلى استِشهاد 34 ألف من أهله مُعظمهم من النّساء والأطفال، وإصابة مِئة ألف آخَرين وتدمير أكثر من 88 بالمِئة من منازل القطاع، هذا التّعاطف لن يتوقّف ويذهب إلى إسرائيل مجددًا، لأنّ الهُجوم الإيراني الذي استهدف قاعدتين جويّتين عسكريّتين إسرائيليّتين في النّقب لم يتمخّض عن مقتل مدني أو طفل إسرائيلي واحد (كما قالت إسرائيل نفسها) ممّا يُظهر الفارق الإنساني والأخلاقي الكبير بين إسرائيل “الديمقراطيّة الوحيدة” ومُمثّلة الغرب في المِنطقة !!، والدّولة الإيرانيّة وأذرعها العسكريّة، المُحاصَرة أمريكيًّا وغربيًّا مُنذ أكثر من أربعين عامًا.
ويبقى أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام عن”غُثاء السيل” قد بدا للأعين كحقيقة واضحة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن عرب الجاهلية كانوا أكثر رجولة ونبلا من معظم قيادات الوطن العربي والإسلامي، بل ومن جموع المسلمين الذين يتشاجرون حول زكاة الفطر ويتهافتون على الحج والعمرة بينما أطفال فلسطين يموتون جوعا.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ووزير اعلام جزائري سابق