يكشف العدوان الصهيوني الرَّاهن الَّذي دخَل شهرَه السَّادس على قِطاع غزَّة، والتجرُّد الصهيوني السَّافر من كُلِّ القوانين والأعراف الدوليَّة قابله عجز عربي تامٌّ عن مناصرة الأبرياء من المَدَنيِّين الأطفال والنِّساء والأشقَّاء في قِطاع غزَّة ما يفسِّر حالة الوهَن الكبير الَّذي تجذَّر في الحالة العربيَّة، وزعزع الأمن القومي العربي منذُ اتفاقيَّة كامب ديفيد عام 1979م، ويزداد سوءًا كُلَّما تقدَّم الزَّمن ويمضي نَحْوَ مخاطر أوسع لا بُدَّ من تداركها قَبل فوات الأوان، وإن لَمْ يبدأ العرب اليوم تدارك هذا الوضع فإنَّ المخاطر مستقبلًا سوف تبتلع أُمَّتنا العربيَّة من المحيط إلى الخليج، فالكُلُّ هنا ليس معزولًا عن تلك المخاطر، وهذا هو الوضعُ المثالي للصهيونيَّة لِتنفيذِ مخطَّطاتها بدعمٍ وإسناد صريح من الولايات المُتَّحدة وأدواتها الوظيفيَّة حَوْلَ العالَم .
عِنْدما نعُودُ بالذَّاكرة العربيَّة إلى حدود الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن الماضي ونشخِّص الواقع العربي تبرز لدَيْنا حقائق جوهريَّة تُمثِّل ركائز استراتيجيَّة في الصِّراع مع العدوِّ الصهيوني، من أبرزها وحدة الموقف، حيث يتَّفق العرب بالإجماع على وجود كيان معادٍ للأُمَّة العربيَّة يُهدِّد الأمن القومي العربي. كما تبرز أيضًا حقيقة كبرى وهي امتلاك العرب زمام المبادرة في المواجهة وإعلان الحرب مع هذا العدوِّ. وهناك حقيقة ثالثة وهي أنَّ العرب لا يُمكِنهم القَبول بتعرُّض الشَّقيق العربي لأيِّ اعتداء أو امتهان، فهناك وحدة مصير ووحدة موقف وإرادة عربيَّة يُعزِّزها وجود قيادات تستقطب الأُمَّة العربيَّة حَوْلَها وتدفع باتِّجاه التصدِّي للعدوان أو احتماليَّة العدوان على أيِّ جزء في الوطن العربي الكبير، ورغم الاختلاف السَّائد بَيْنَ الزَّعيم عبدالناصر والملك فيصل والَّذي تجسَّم إبَّان قيام الجمهورية العربيَّة المُتَّحدة وفي حرب اليمن، إلَّا أنَّ الأمور عادت إلى مسارها الصَّحيح في تغليب لغة المصلحة وأهمِّية الحفاظ على الأمن القومي العربي بعد مؤتمر الخرطوم في سبتمبر عام 1967 أي بعد حرب النَّكسة. ومع أنَّ الخسارة كانت كبيرة باحتلال مساحات من الأراضي العربيَّة، إلَّا أنَّ الواقع العربي الَّذي كان يحفِّز الأُمَّة بكُلِّ طاقاتها نَحْوَ القتال والاستعداد لمعركة ردِّ الثَّأر والكرامة وعدم القَبول بأنصاف الحلول ممَّا يبرز قوَّة النِّظام الرَّسمي العربي، ويؤكِّد وجود قيادات محوريَّة تمتلك الإرادة وتمتلك زمام المبادرة وترفض الانحناء، وقَدْ بدأت بالفعل معركتها الكبرى في الأوَّل من يوليو عام 1967م، أي بعد (20) يومًا فقط من هزيمة 67م في معركة رأس العش الَّتي تُعَدُّ بداية شرارة حرب الاستنزاف الَّتي كبَّدت العدوَّ الصهيوني خسائر فادحة وقادت نَحْوَ تحقيق الانتصار في معركة العبور العظيمة في أكتوبر/رمضان عام 1973م. نعم كانت هناك إرادة ووحدة موقف عربي وإعلان حرب بدأ في مؤتمر الخرطوم لا صلح لا تفاوض لا اعتراف وما أخذ بالقوَّة لا يسترد إلا بالقوَّة .
أدرَك أعداء العرب أنَّه لا بُدَّ من إحداث تشظٍّ للموقف العربي ولا بُدَّ من اختراق النِّظام الرَّسمي العربي، ولا بُدَّ من تحييد أوراق القوَّة العربيَّة، ولَمْ يكُنْ ذلك بعيد المنال لِيتمَّ إحداث أوَّل ثغرة في الجدار العربي واختراق أكبر دَولة عربيَّة وتوقيع اتفاقيَّة السَّلام الَّتي أبعدت مصر عن محيطها العربي، وأحدَثَت صدمة في الواقع العربي، وتمَّ عزل مصر وسحْبُ مقرِّ جامعة الدوَل العربيَّة مِنْها لِيستمرَّ الحال نَحْوَ مزيدٍ من الخلَل والتشظِّي والانقسام وعودة قوى الاستعمار من جديد في الوطن العربي، ولَمْ يقف الوضع مع عزْل أكبر قوَّة عربيَّة عن وحدة الموقف العربي وعزْلها عن الصِّراع العربي الصهيوني، فاستمرَّ الحال العربي يَسير من سيء إلى أسوأ مع ضمان العدوِّ أنَّ اتفاقيَّة كامب ديفيد لَنْ تنفكَّ عُراها بتغيير القيادة في مصر بعد اغتيال السَّادات في حادثة المنصَّة بتاريخ الـ5 من أكتوبر1981م، بعدها بأقلَّ من عام واحد، أي في يونيو عام 1982، تمَّ اجتياح ثاني عاصمة عربيَّة بيروت من قِبل جيش الاحتلال الصهيوني والنِّظام الرَّسمي العربي يتفرَّج على الموقف لَمْ يكُنْ هناك إلَّا سوريا الَّتي دافعت وقدَّمت الشُّهداء في سبيل مواجهة العدوان الصهيوني على لبنان، وفي عام 1990م زاد انفراط الموقف العربي بعد كارثة الغزو العراقي للكويت وزيادة الانقسام العربي الَّذي نتَج عَنْه تدخل قوى الاستعمار بالقوَّة العسكريَّة وحوصر العراق أكبر قوَّة صناعيَّة عسكريَّة عربيَّة في ذلك الوقت لِيصبحَ هباءً منثورًا في ظلِّ موقف عربي مترنِّح وغياب القوَّة العالَميَّة الثانية (الاتحاد السوفيتي) عن المشهد؛ فتوالت بعدها اتفاقيَّات ما سُمِّي السَّلام أو (الاستسلام) لِتصلَ عام 1994م للأردن عَبْرَ اتفاقيَّة وادي عربة، وبالتَّالي فإنَّ اتفاقيَّتَي كامب ديفيد ووادي عربة ضمَنَتا حماية الخطِّ الحدودي الفاصل مع أهمِّ وأطوَل جبهتَي حدود مع دوَل الطوق العربي، ووُضِعت منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة في وضعٍ حرجٍ دُونَ غطاء عربي حتَّى أنَّ الرئيس المصري حسني مبارك في إحدى جلسات التَّمهيد لاتفاقيَّة السَّلام مع السُّلطة الفلسطينيَّة يُهدِّد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ويرمي عَلَيْه كلمات نابية عِنْدما تردَّد بالتوقيع على الاتِّفاق في عمليَّة بيع وشراء تحت التَّهديد لَمْ تعرف الأُمَّة العربيَّة سوابق لها .
مع هذا الوضع الرَّسمي المُخيف الَّذي تزعَّمته الدوَل المحوريَّة بدأت انطلاقة المقاومة الفلسطينيَّة الَّتي كبَّدت الكيان الصهيوني خسائر فادحة في الانتفاضة الأولى (الحجارة) والثانية (الأقصى)، واستمرَّت عجلة الصِّراع بالنِّضال الفلسطيني والرِّباط المقدَّس الَّذي لَمْ تخفت جذوته حتَّى اليوم لكنَّه توازى مع ضعف وانقسام رسمي عربي، بل خذلان وهوان لَمْ يستطع العرب خلاله تقديم شيء يُذكَر لصالحِ القضيَّة الفلسطينيَّة الَّتي جُرِّدت من الدَّعم العربي بعد غياب تلك القيادات العربيَّة المحورية الَّتي كانت تحكُم المشهد العربي. لكنَّ السؤال الأخطر هو: أين يتَّجه الأمن القومي العربي في ظلِّ هذا التغوُّل الصهيوني والمسانَدة الغربيَّة لهذا العدوِّ المُجرِم الَّذي لَمْ يأبَه بأيِّ قوانين دوليَّة ومسانَد بالفيتو الأميركي الَّذي يقف مدافعًا عن الظلم وضدَّ ركيزتَي السِّلم والأمن الدوليَّين في مشهدٍ يُمثِّل انهيارًا للسَّلام العالَمي قَدْ يدفع ثمنَه النِّظام العالَمي قريبًا.
النِّظام الرَّسمي العربي اليوم بَيْنَ اتِّجاهَيْنِ؛ إمَّا التَّماهي مع السِّياسة الأميركيَّة في المنطقة الدَّاعمة للكيان الصهيوني والَّذي ـ للأسف الشَّديد ـ يتوازى معه عددٌ من الدوَل العربيَّة وهو في الواقع ضدَّ المشروع العربي ويُهدِّد الأمن القومي العربي بكُلِّ وضوح ويُعلن عن مشروعات الصهيونيَّة العالَميَّة «إسرائيل الكبرى» و»الإبراهيمية» ويهدف إلى القضاء على بؤرة المقاومة الفلسطينيَّة الباحثة عن تقرير المصير والتحرير، واستعادة الحقوق المسلوبة. وقَدْ بدأَ يتجسَّد ذلك من خلال استنكاف الدوَل العربيَّة عن مناصرة الأشقَّاء في فلسطين رغم العدوان الهمجي البربري الَّذي مارسته آلة البطش والإجرام الصهيونيَّة وهي تدركُ أنَّ حدودها مؤمَّنة على طول جبهتَيْنِ عربيتَيْنِ ولا يُمكِن أن يتَّفقَ العرب مطلقًا طالَما كانت هناك اتِّفاقات سلام (أبراهام) مكبّلة لعددٍ من الدوَل العربيَّة، وبسببِها لَنْ يتمكَّنَ النِّظام الرَّسمي العربي من تحقيق أيِّ نتائج إيجابيَّة في مواجهة العدوان الصهيوني ولَنْ يتمكَّنَ العرب من معادلة الأمن القومي العربي، وسيُترك أيُّ قطر عربي وحيدًا في مواجهة هذا الطغيان والعدوان مستقبلًا كما حدَث مع قِطاع غزَّة، ولا يُمكِن للنِّظام الرَّسمي العربي أيُّ قدرة لإعلان موقف عربي جماعي في ظلِّ غياب الإرادة العربيَّة، وبالتَّالي إلى أين يريد أن يسيرَ النِّظام الرَّسمي العربي بهذه الأُمَّة؟!!!
المخاطر جمَّة على الأمن القومي العربي وعلى الجغرافيا والتَّاريخ والحضارة والإنسان والمصير العربي في ظلِّ هذا الانبطاح وهذا الواقع المخزي والمسيء لهذه الأُمَّة الَّتي تداس كرامتها بشكلٍ يومي؛ جرَّاء الأحداث في غزَّة والاستفراد الصهيوني بأهْلِنا والانتهاكات ضدَّ أبنائنا وحرائرنا في فلسطين، والتَّهديد غدًا سوف يطول كُلَّ الدوَل العربيَّة. لذلك يجِبُ تحقيق انتفاضة عربيَّة وعلى البقيَّة الباقية من الدوَل العربيَّة أن تتسلَّمَ الراية وزمام المبادرة لإعادة توحيد الموقف العربي والتوجُّه نَحْوَ الدوَل الدَّاعمة للحقِّ العربي، وإعادة تصويب البوصلة وتعريف حقيقي للمفاهيم وانتزاع المبادرة. أمَّا العيش على واقع الذُّل والهَوان فلَنْ يبقَى فيه أملٌ لأيِّ مشروع عربي ويُمعن أعداء الأُمَّة في إذلالها وإهانتها، وكُلُّ ما يتحقَّق من تقدُّم اقتصادي على الصُّعد الوطنيَّة لأيِّ دَولة عربيَّة هو في حقيقته مباح لِقوى التحالف العالَمي المُهيمنة على المشهد العربي، لذا على العرب الاختيار على أيِّ المحاور يُمكِن التحرُّك مستقبلًا.
خميس القطيطي كاتب عُماني