المفاهيم الوطنية المتشابكة: المواطن والمقاوم والسياسي

أربعاء, 2024-03-13 05:29

نحن المواطنون نفهم السياسة. كل عربي يفهم في السياسة.  حتى السياسي العربي يظن كذلك! وقد يكون أننا نَصِفُ التطورات والأحداث حولنا ونعتبرها سياسة لأنها، وما يجعلها تتطور وتحدث، هي السياسة. لا يختلف في هذا الصغير عن الكبير ولا العالم والمتعلم. الكل يفهمها ويتقنها. القليل يعرف دواخلها و ثناياها. السياسة هي الطريق، غالباً المتعرج، لتحقيق مصلحة، مهما كانت أهمية هذه المصلحة والاعتقاد بصوابها أو استهجانها. تحديدها كمصلحة، وتوقيتها وكيفية الاستحواذ عليها هي سياسة. ولهذا كلنا سياسيون حينما نتتبع مصالحنا المشروعة وغير المشروعة، صغيرها وكبيرها.  لكننا في حياة الأوطان لا نعلم لماذا، أو أننا نظن أننا نعلم، يتم اختيار مصلحة بالذات دون غيرها لتتحكم بنا؟ للسياسي فهم و للمواطن فهم والمقاوم له فهم. كلهم يحبون الوطن و قد يختلفون في مصلحته. لنعطِ أمثلةً.

لماذا يختار بعض العرب مصلحة المقاومة وركوب الصعاب عوضاً عن قبول المعروض عليهم في السلام من آفاق رخاء؟ هل استشاروا في اختيار مصلحتهم هذه مواطناً واستمعوا لمعارض؟ أم أن قرارهم المقاومة استند لرأيهم وتجنب الرأي المعارض؟ وهل نعلم في المقابل لماذا يُفرضُ “السلام” وما يأتي معه: عَلَمٌ بغيضٌ و سفراء وقحين وسياحة وتجارة وتبادل أمني وخطوط طيران مباشرة و متوارية و إنشاء معابد وتنظيم حفلات ومعارض فنية وجمعيات مشتركة للتوعية بالسلام ومشاريع بيئية وعلميّة وتبادل طلبة دراسات عليا وعمليات استيراد وتصدير ومناورات عسكرية مشتركة؟ و ما هي المصلحة العربية في المقاومة دون نصرٍ حاسم، أو السلام مع مؤسسةٍ من المجرمين، فيما العرف والقانون هو محاربة الجريمة ومرتكبيها، أي الاصطفاف مع المقاومة؟  تحاول فتفشل أن تفهم المنطق العربي الرسمي في إبقاء و تسويق معاهدات سلام يرفضها الشعب و تنسف بنودها جرائمُ يومية للصهيونية.  ونوجدُ للمقاومة  المبرر لتفسير ارتقاء آلاف الشهداء والدمار المريع، والقلب في ذات الوقت يتساءل وقد يثور فيه الشك في حكمة المقاوم.

السياسي العربي في دول التصالح و دول الطموح للتصالح ينظر لفوائد ربما تكون مادية أو سُمْعوية هي في خطته نتيجةَ علاقاتِ سلامٍ مع الصهيونية. ولا يهتم كثيراً أو قليلاً لرأي المواطن الذي أعطى الموافقة كما يقولون عبر مجالس نيابية لم تعد الألسن تخشى أن تقول أنها أتت نتيجة تزوير انتخابات وهي لهذا لا تعبر عن رأي الناخب بل رأي المُزَوِّرْ الذي يعرف الناس أنه السلطة. ولو سُئِلَ المواطن باستفتاءٍ نظيفٍ لما قبل بالسلام مع الصهيونية وتعكس هذا التوقع استبياناتٌ متعددة في العالم العربي.  وقد يتعب السياسي العربي من الإجرام الصهيوني تعبَ الغاضب ليس حَمِيَّةً وغيرةً على الوطن، بل من الإفساد الصهيوني للصفاء الذي يريده العربي الرسمي في ظلال السلام.  العربي الرسمي لا يريد منغصاتٍ في سلامهِ أو حتى  همسةً من مواطنٍ في جوف ليلٍ تلعن السلام الصهيوني.  كما أن الرسمي لا يرى في مذبحة غزة وعموم فلسطين و دمار جنوب لبنان دليلاً على فشل سياسة السلام، بل دليلاً على نجاحها. لولا السلام لكان مصير بلاده ما تراه غزة. السلام عنده هو درءٌ للسفَّاح الصهيوني من استباحة ِدمه وجنيٌ لما عددناه أعلاه من فوائد متخيلة. أما فَقْدَ فلسطين والأقصى فإن العربي الرسمي يرى أنهما أصبحا من التاريخ الذي لا يمكن تغييره، ويكفيه الإصرار علي حل الدولتين ليُحَلِّلَ العربي الرسمي نفسهُ من ذنبٍ أو وغْزَةِ ضميرٍ إن شعر بهذا الفقد يوماً . هذا هو الواقع الذي نراه. مقاومةٌ تُدميِ العدو وتَدْمىٰ، لكنها بعيدةٌ عن النصر الحاسم، و رسميون عرب يتدافعون لولوج باب السلام على سِعَةِ عيوبه التي تغطي منافعه. فما هي المصلحة للسلام إذاً؟ وما هي المصلحة للمقاومة؟

أن يعيش العرب! السياسي يقول لنعش برخاء و المقاوم يقول لنعش بكرامة. ومن قالَ أن المواطن لا يريد أن يعيش ملئ حياته، بسلامٍ و رخاءٍ وكرامة؟ لكننا نرى أن حياةً يفضّلها السياسي عن حياةٍ ينادي بها المقاوم فيها اختلافٌ شاسعٌ وقد تم ترسيمها للمواطن بصيغةِ “إما هذه أو تلك”. كما نسأل، ألا يعيش الصهيوني مثلاً؟ بلى يعيش، ولكنه يعيش على معرفةِ قوتهِ المتكاملة التي تجعل حياته مزيجاً متجانساً من المتعة السادية في الاغتصاب الاستعماري والتمتع بمباهج الحياة. ونحن نرى أننا عرباً من الخليج للمحيط نعيش طافينَ على معرفتنا بضعفنا الذي أقنعتنا به الحكومات أمامه، أو مقاومين له طامحين لتحديه، و نرى ارتفاع أقوامَ الثراء الفاحش في عديد البلدان، وانحدار الشباب في حفرةِ البطالة والافتقار في بلاد غيرها. وكيف يعيش معظم العرب في دول السلام الحالي؟ وكيف يعيش من هم خارجهُ؟ الحق أن العرب خارج السلام الصهيوني يعيشون بمعظمهم بصعوبةٍ خلقتها عوامل داخلية وحصاراتٍ خارجية والذين هم داخله يعيشون بحبوحةً فئويةً وحرماناً قد يكون ضافياً للباقي.  فهل يُلامُ على هذا التصنيف السلامَ ومن اختارهُ أم المقاومةَ ومن اختارها؟  يتمثل في الذهن قول الشاعر عن حياةٍ تسر الصديق أو مماتٍ يغيظ العدا. لكن الحقيقة ليست بهذا الوضوح فالسلام لم يأت للحياة بالمسرات ولا الموت أغاظ عدواً.

يختلف مع ما سبق الكثير.  يقولون أن للسلام والداعين له وجهة نظرٍ سليمة في إصرارهم.  السلام من وجهة نظرهم مدعاةٌ للرفاه والبناء وحفظ الأرواح.  وإن لم يكن من رفاهٍ وبناءٍ، أو أنهما كانا و لكن لم يشملا كل المواطنين، فإن حفظ الروح يكفي، ويتبع هذا حفظ الممتلكات بأصنافها.  يقولون، ماذا يهم لو أن نصف الشعب فقير و النصف ثري طالما أن الشعب يعيش من دون حروبٍ يموت فيها؟! وها هي غزة المدمرة تثبت هذه النظرة، كما يقولون. أما قضية التنازل والشعور بالاستسلام للصهيونية فهي قضيةٌ تعالجها الحلول السياسية، والزمن الكفيل بالنسيان، والإرتواء العربي بتعظيم مسألة السيادة وتزويقها للمواطن وللخارج فيزهو المواطن بعظمةِ بلاده وحسب أما غيرها من بلاد العرب فليست من شأنهِ.  كذلكَ، بإعادة تثقيف المواطن لكي لا يعلم من الدين والتاريخ إلا اللجوء للسلم وطاعة ولاة الأمر لأنهم أفهم بالسياسة، وهم وقد صاروا ظل الله على الأرض لم يبق لهم إلا توزيع صكوك الجنة، وبوسعهم ذلك فعندما ينتشي المواطن بحب قادته يصدق كل ما يقال عنهم من فضائل ولو كان خرافةً دعائية. ألا نسمع عن زعماء سياسيين و دينيين لهم صلة مباشرة بالله مُلْهَمينَ و محاطين بالرعاية الإلهية التي تقود قراراتهم؟ فكيف نتجرأ على رفض جنوحهم للسلام وهم الأعلم والأعلى؟

وجهة النظر المؤيدة للسلام تستند للرفاه والبناء والسيادة والتوظيف العقلي والروحي لهذه الغايات وضرورة الاصطفاف الحضاري مع بلدان الديمقراطية في العالم المحبة و الساعية للسلام.  لكن الإضافة الأساسية لهذه القائمة هي ليست في تأكيد ضرورة السلام تشجيعاً و ترويجاً له للرفاه والبناء فحسب، ولكن تقويضاً مستمراً لكل ما يُمَكِّنْ المواطن من خوض حرب أو مقاومة استسلام أو أن يتحمل تبعاتهما مما يجعل السلام الذليل هو الملجأ الوحيد والاختيار الأنسب.  و وجهة نظر المقاوم، أن الحياة الرغيدة لا تكتمل إلا بحرية الوطن وأن تثوير الجزء أفضل من تثوير الأغلبية التي تم اصطيادها بوعود الرخاء من السلام وعلى الجزء انتشالها من هذا الخيال لإتمام مهمة التحرير ثم العيش بكرامةٍ تأتي بالرفاهية.

لكن هل هو المواطن الذي سيخوض الحرب أم القوات المسلحة؟ هي نقطةٌ جوهريةٌ استُخدِمت في سياق غزة عندما هاجم البعض المقاومة لأنها لم تحسب حساب المدنيين فاستشهدوا وتحطمت منازلهم وتشردوا ويجوعون.  في غزة كان الظن الغالب أن الغزيين مهيئين لمواجهة العدو والواقع أرانا غزيين مكونين من مقاومةٍ لا تنثني و مدنيين يعانون الأَمَرَيَّن. في دولنا أن المبدأ المُشاع هو أن الدولة لها مسؤولية الدفاع والحماية فهي كما يقول السياسي لا ترمي المواطن في أتون الحرب دون تدبيرٍ مسبقٍ، كما فعلت المقاومة في غزة أو جنوب لبنان. ويغفل القائلون بهذا عن أن غزة ليست دولة وهي محاصرة منذ سنوات وتتعرض للاعتداءات المستمرة. وقد يكون أن بناء ملاجئ وخطط طوارئ كانت ستكون أولوية للمقاومة مع البناء المقاوم والأنفاق لكن هذا الإنشاء الثنائي ليس متاحاً في التخطيط العسكري المقاوم و قد يؤاخذ عليه فعلاً، و الوضع ذاته يتكرر إلى حدٍ ما في جنوب لبنان ويصل لليمن. لكن دولنا ذوات المبدأ والمسؤولية عن المواطن تنحاز للسلام وهي مسلحةٌ للثمالة، ولا نعرف لماذا. لماذا تصرف الدولة الأموال على السلاح و تأتي للشعوب بمعوناتٍ وذرِّ رمادٍ في العيون على هيئة ترفيهٍ وإنجازاتٍ بُنيت بالديون يستفيد منها ذوي القدرة المالية ويعمل فيها ذوي الحاجة للعمل مع بقائهم فقراء، يرون ولا يمتلكون؟ التمويل التسليحي يذهب للقوات الرسمية وهذا هو المفهوم والعرف لكن هل من دولنا من أنشأ مجتمعاتٍ بإرادةِ مقاومٍ للصهيونية أو بنى ملاجئ للمدنيين مثلما عند اليهود؟ هل لدينا جيش احتياط مدرب وجاهز للقتال من فورهِ لأنه يُستدعى ليتدرب سنوياً ويعرف واجباته لو قامت الحرب بعد ساعة؟  هل لدينا مبادئ ثقافةٍ عسكرية كمواطنين نجابه بها ما قد تأتينا به الأيام الصهيونية؟ كلا، لا يوجد. فلماذا ملامة مقاومةً في حصارٍ لأنها لم تحسب حساب المدنيين؟  ولماذا لا نلوم بلادنا غير المستعدة هي الأُخرى لحماية المدنيين؟ و لماذا لا تكون بلادنا في استعدادها للقتال مثلما نرى عند الصهاينة؟ ذلك لأن بلادنا نفضت من منطقها وخططها القتال واستبدلتها بالسلام و الطمأنينة.  أَذْهَبَتْ  باختيارها الوجود الوطني الجوهري وأبقت على قشوره.  جوهر الوطن هو الشعور بكل الوطن (العربي) الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى لكنه اليوم جوهراً في حدودٍ، مرسومةً ومحميةً باختياراتٍ منفردة لكل وطن ٍمحدودٍ، ولهذا تنطبق علينا قصة الثيران التي اعتقدت أنها إن سلَّمت واحداً سينجو الباقي وثبت العكس في الحكاية التي يتداولها الناس. فتبقى الجيوش للاستخدامات الضيقة، أما الصهيونية فهي مطمئنة إنها ليست الهدف. أما المقاومة فاتخذت طريقاً معاكساً و وضعت نفسها أمام فوهة النقد من العدو والقريب لأنها “متهورة” وليس “مسؤولة”.  فمن يقرر من هو المصيب؟

في هذا نستطيع أن نقول أن السياسي و المواطن والمقاوم العربي نافيين لبعضهم البعض، واحدٌ يلغي الآخر في خَطِّ السياسة وتنفيذها ورد الفعل عليها سِرَّاً وعلانيةً، وفي فهم وتفسير السياسة المتبعة، مهادنةً أو مقاومةً.  السياسي العربي ينظر للمواطن (المقاوم أو المهادن) على أنه لا يفهمه والمواطن، هادن أم قاوم، ينظر للسياسي أنه “منبطح” لم يصل للسياسة إلا بالمحاباة الأبوية والتنازل عن ثوابت الأوطان.  السياسي يقول أن ليس بالإمكان أفضل مما كان والمواطن المقاوم يقول بلى نستطيع، و النوعين في صراع أتت غزة دليلاً يستخذه الطرفان،.  وها نحن ننتظر، واحدٌ  ينتظر وفاةِ منطق الآخر فإما سلامٌ وإما مماتٌ.  منطقان لا يلتقيان. السياسي يصل لاستنتاجاته السلمية لأنه يصنع مسوغاتها والمواطن المقاوم الذي يرفض سلام السياسي لا يستطيع قلب الطاولة عليه أما المواطن العادي فهو يعتاش من السلام لا حباً لكن إكراهاً ولا يستطيع الفكاك منه، وهو أيضاً لا يستطيع أن يتحمل أعباء العمل المقاوم لأن دولته لم تهيئه له.

مهما قيل عن منفعته فالسلام العربي الصهيوني انغماسٌ في الموبقات والكبائر بالاختيار الذي يجر وراءه اللعنات فيكرهها المواطن. مسجدٌ ضرارٌ ولو صلُّوا فيه فالناس تبتعد عنه.  والمقاوم يُشعل النار ردَّاً على النار التي يكويه بها الصهيوني فتشتعل الدار ربما عكس ما أراد و يأمل بالفزعة العربية فلا تأتيه لا من الدولة القادرة ولا من المواطن الذي يريد ولا يستطيع و يريد فضلاً أن يعيش.  فمن هو السياسي الأفضل فهماً لواقعنا ومستقبلنا بين هذه المجموعة: الرسمي العربي أم المقاوم أم المواطن؟ إن قسنا الحياة بالسنوات البشرية فالسياسي هو الأفضل في جنوحه للسلام عسى أن تأتيه السنوات القادمات بالخلاص، النسيان والفوائد. وإن قسنا الحياة بالحكمة والتوجيه الإلهي فالمقاوم أفضل لأسباب متعددة وواضحة لا يرضاها ويتخيلها إلا مؤمنٌ بحق. النصر من عند الله. وإن قسناها بلقمة العيش للمواطن فإنه يضع قدماً مع هذا ليعيش وقدماً مع ذاك لينفي عن نفسه الانصياع، وهو مُنصاعٌ لا جدال في ذلك بطبيعة اعتماده على مؤسسات إعاشة. و لذلك فالمواطن هو الميكاڤيلي بينهم و هو الأفهم في السياسة! إنه يفهم اللحظة و ينتظر، يميل لهذا وذاك. هل هي دعوةٌ للتقية المواطنية و المشي بجانب الحائط وتفادي الشر؟ أخشى أنه واقعنا فلو كان العكس لكانت وقفتنا مع فلسطين وقفةَ تحرير لا وقفةَ تبرير ولا وقفة كسير.

علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق

الأردن