منذ 8 اكتوبر العام 2023 وحرب الاستنزاف على الحدود اللبنانية الجنوبية بين المقاومة الاسلامية من جهة وجيش الاحتلال الصهيوني من جهة أخرى، تأخذ منحىً تصاعدياً يوماً بعد يوم، وصلت فيه مشهديّة الحرب هذه إلى منعطفين: إمّا غزو بري صهيوني للجنوب اللبناني لا يقف عائقاً دونه سوى الضوء الأخضر الأمريكي، وإمّا اجتراح دبلوماسي أميركي لحل “مفخخ” بشروط صهيونية، وذلك في كل مرة يحّل فيه “آموس هوكشتاين” ضيفاً على”بيروت” متأبطاً “هاجس الترسيم البري”، ممسكاً بيده اليمنى زرّ التفجير، وبيده اليسرى تعديلات في “القرار 1701” على إيقاع سمفونية الحرب النفسية، والتعابير “الأستفزازية” التي لم يستخدم أياً من مفرداتها في زيارته الثالثة هذه، لكنها حملت في طياتها ابتزاز مُغلف بمرونة “حذرة” من خلال:
1 الطلب بتراجع صواريخ المقاومة المضادة للدروع عن الحافة الأمامية إلى ما بعد المدى الفعال، من دون الأتيان على ذكر انسحاب المقاومين من القرى الحدودية، أو تحديد كيلومترات للتراجع كتلك التي يطالب بها العدو.
2 عدم تناوله موضوع فَصل جبهة الجنوب اللبناني عن جبهة غزة، لعلمه المُسبق بموقف المقاومة الاسلامية الصّارم بوحدة الساحات.
1 قناعته بعدم امكانية التطبيق الحرفيّ للقرار 1701 أقله بالمدى المنظور، وتحديداً من الجانب الصهيوني مبرراً له استمرارية الخروقات الجوية والبحرية لضرورات أمنية.
2 الرّبط بين عودتين متزامنتين: جنوبية للنازحين إلى قرى الحدود اللبنانية، وشمالية للمستوطنين إلى الجليل المحتل.
ليغادر “هوكشتاين” بيروت إلى قبرص ف”تل ابيب” على وقع مجزرة ارتكبها العدو في بلدة “حولا” عند الحدود الجنوبية، فكان ردّ المقاومة عليها سريعاً، باستهداف المستعمرات في الجليل في رسالتين: الأولى هي رد مباشرعلى المجزرة، والثانية حملت معها جواباً على الأسئلة “الهوكشتانية”: “إن كان لا بد من حرب محدودة، فلتكن شاملة ونحن لها جاهزون”… حيث جاءت افراغاً لتصريح المبعوث الأمريكي من أي تهديد مُبطّن، باطلاقها صواريخ الجيل الجديد من “الكاتيوشا”، التي لها دالتها التاريخية في الذاكرة الجماعية الصهيونية، فعبرت مع مثيلاتها الحدود، ليصلوا بسلام غير آمنين إلى كلٍ من “كفربلوم” و “افيفيم”…
هذه الحدود التي شهدت وما زالت تشهد عمليات قتالية متنوعة أبرزها محاولات تسلل متبادلة وذلك منذ اندلاع المواجهات…كان أولها في 9 اكتوبر من العام نفسه حين أعلن العدو عن افشاله لمحاولة تسلل إلى الشمال الفلسطيني المحتل عبر الحدود اللبنانية، في وقت تبنّت فيه حركة “الجهاد الإسلامي” العملية… وتوالت انذارات العدو وتصريحاته تارة عن محاولات تسلل لمقاومين وتارة أخرى لمسيّارات، منها ما هو صحيح ومنها ما هو نتيجة للقلق و الارباك اللذين يحيطيّن به على امتداد الحافة الأمامية، لا بل تجاوزاها إلى عمق الأراضي المحتلة لاكثر من عشرة كليومترات عن الحدود، فرضتهما سياسة “الردع التدريجي” للمقاومة، وعملية التوازن الجديدة “لجغرافيا الميدان” مع العدو، الذي ما انفك يطالب بابعاد المقاومين عشرة كليومترات عن الحدود مع فلسطين المحتلة…ليبادر جيش الاحتلال ولأول مرة الى الإعلان في 16 يناير من العام الحالي عن تسلله الى داخل الجنوب اللبناني وازالته ألغاماً في قرية عيتا الشعب، في حين أنّ المقاومة الاسلامية نفت حدوث ذلك، وفيما يلي دوافع الاحتلال وراء إعلانه:
1 تزامنها بُعيّد مغادرة “آموس هوكشتاين” للعاصمة بيروت خلال شهر يناير الماضي، حين فشلت محاولته اسقاط المعادلة القائمة على “وحدة الساحات”، بتجميد العمليات على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وبالتالي فصلها عن باقي الجبهات من أجل اضعاف جبهة غزة، واعادة عشرات الآلاف من الصهاينة إلى مستوطناتهم في الشمال الفلسطيني المحتل.
2 تقع ضمن دائرة الحرب “السيكولوجية” على المقاومة، إذ تهدف إلى ايصال رسالة مفادها أنّ جيش الاحتلال على جهوزيته ولديه من المعلومات ما تكفي عن ألغام المقاومة، والقدرة الكاملة على تنفيذ عمليات “التسلل الناعم”.
3 دراسة وتقييم ردات فعل المقاومة، فإن جاءت التزاماً بالصمت أدخلها في ارباك ميداني، وإن كانت نفياً يتأكد من جهوزيتها وقدرتها على القيادة والسيطرة في الميدان وتحديداً على الحافة الأمامية.
4 التمويه والتغطية على عمليته الأساس، وهي محاولة فاشلة لزرع جهاز مراقبة وتجسس على الحافة الأمامية وليس نزع ألغام.
وفي تصعيد ميداني “ديبلوماسي” للعدو قصفت طائراته الحربية بصاروخين موجهيّن المدينة الصناعيّة جنوب صيدا وذلك في 19 فبراير من العام الحالي، فلم تحرك “واشنطن ساكناً، بعدها بحوالي الأسبوع نفّذ الطيران الحربي الصهيوني غارة على مزرعة في منطقة حوش تل صفية في سهل بلدة بوداي غرب مدينة بعلبك بعمق عشرات الكيلومترات عن الحدود الجنوبية … وصل صداها هذه المرة إلى “البيت الأبيض”، حيث أرسلت من جديد موفدها الرئاسي إلى المنطقة فوصل “بيروت” صباح 4 فبراير، قادماً كعادته من “تل أبيب”، لتسبقه أقدام جنود الاحتلال الى داخل الأراضي اللبنانية ليل 3- 4 مارس في محاولتين فاشلتين للتسلل بتوقيتين متفاوتين عبر الحافة الأمامية، ومن نقطتين مختلفتين:
– الأولى من جهة وادي قطمون قبالة رميش، حيث قامت قوة من العدو عند الساعة (11:45) من ليل 3 مارس بمحاولة تسلل فاستدرجتها المقاومة عشرات الأمتار ثم استهدفتها بالأسلحة الصاروخية.
– الثانية من جهة خربة زرعيت مقابل بلدة راميا اللبنانية، حيث قامت قوة من العدو عند الساعة (12:15) من ليل 4 فبراير 2024 بمحاولة تسلل، فجرت بها المقاومة عبوة ناسفة كبيرة ثم استهدفتها بعددٍ من قذائف المدفعية.
وفي المعلومات أنّ مجمل الاصابات في صفوفه لا تقل عن 15 بين قتيل وجريح. أمّا الاحتمالات والأهداف الكامنة خلف عمليتّي التسلل، فعديدة منها:
• التأكيد على جديّة التهديدات بشأن الغزو البري، بالتزامن مع وصول “آموس هوكشتاين” إلى بيروت، لاعطاء ملفه قيمة إضافية عبر”التسلل الميداني ليلاً” بهدف “الابتزازالديبلوماسي صباحاً”، عسى أن تساعده في مفاوضاته مع المسؤولين اللبنانيين.
• الحاجة الملحّة لديه لتوجيه رسالة إلى المستوطنين الصهاينه في الشمال بأن جيشهم على جهوزيته وقادرعلى حمايتهم.
• محاولة تنفيذ دوريات قتالية لنصب كمائن متقدمة خشيةً من عمليات تسلل معاكسة، للإستعاضة عن ضعف الرصد والاستعلام لديه، لاسيّما أنّ المراقبة الألكترونية باتت على الحافة الأمامية صفر.
• محاولة لزرع أجهزة رصد ومراقبة أوعبوات ناسفة ضمن الأراضي اللبنانية.
• عملية استطلاع بالقوة وتُعتمد عسكرياً عند عجز العدو عن الحصول على معلومات جديدة حول الميدان بالوسائل الأخرى.
• محاولة للتلاقي مع أحد العملاء الميدانيين من الجانب اللبناني في إحدى النقطتين، أو التمويه لتسلل عملاء من نقطة ثالثة.
• محاولة التسلل من أمكنة محددة، تأتي ضمن عمليات التمويه والتضليل والإلهاء عن محاور التقدم الرئيسة لهجومه البري المرتقب، بحيث يكون الاستطلاع وسيلة لاستكمال خطة المهاجمة.
لقد تَكتُّم العدوعن الواقعتين وعدم رده نفياً أو ايجاباً على بيانيّ المقاومة، يعود إلى فشله في المهمتين، متجنباً الوقوع في الحرج الاعلامي مع المستوطنين الذين يتهمون الحكومة والجيش بالتقصير في حمايتهم.
وفي قراءة دقيقة لسيرالعمليات، إن من محاولات التسلل في القطاع الأوسط، إلى طريقة التدمير الممنهجة لقرى الحافة الأمامية وتحديداً للقطاعين الشرقي والأوسط (حولا- العديسة- كفركلا- عيتا الشعب…) إضافة إلى تعيين الجنرال “تشيكو تامير” قائد عملية اجتياح جنوب لبنان، وكذلك الأعلان عن 100 صفقة سلاح وذخيرة قد وصلت للعدو سراً من الولايات المتحدة الأمريكية منذ 7 أكتوبر العام الماضي لغاية الآن، تنبأ بأنّ جيش الاحتلال قد أنهى خطة هجومه على لبنان عملانياً ولوجستياً، ضمن إطارالحرب “المحدودة” التي يُهدّد بها صباح كل نهار…
لكن العدو يعلم جيداً كما تعلمه “واشنطن”، أنّ أي حرب “محدودة” كما أُطلق عليها، ستؤدي حتماً إلى حرب “شاملة”، بل ستمتد إلى أكثر من ذلك إلى حرب “اقليمية”، لأن الدور الأقليمي الذي أنَاطت به المقاومة الاسلامية نفسها، لا يقتصرعلى الحافة الأمامية للحدود اللبنانية، فقد تجاوزت به الحافة الأمامية لدول المنطقة، بل عَبَرَت به سواحل البحر المتوسط وصولاً إلى البحر الأحمر وخليج عدن فخليج عُمان … وحتى الخليج العربي أو الفارسي… إضافة إلى أنّ المؤشرات الداخلية للعدو من سياسية واقتصادية وعسكرية، وبالأخص وضع الجيش المُتعب والمُستنزف في “غزة”، تحد من قُدراته وامكاناته لشّن حرب على لبنان، ستؤدي به إلى الأنزلاق والتورط في حرب “اقليمية شاملة”…إلاّ إذا أصاب اليأس والجنون مقتلاً لدى “بنيامين نتنياهو”، فيبادرإلى وقف العمليات الحربية في جنوب “القطاع”، ليهاجم الجنوب اللبناني، فارضاً على الولايات المتحدة الأمريكية “واقع الحرب”…وهل تٌذعّن لذلك، وتُكرر تجربة الحرب في “غزة”؟…
محمد الحسيني عميد لبناني متقاعد